قراءة نقدية في دراسة: بنية خطاب حركة حماس: قراءة سوسيولوجية

Critical reading on the study of : The structure of Hamas speech "Sociological reading" 

الخطاب الهجين“ وصفٌ يطلق على خطاب حركات الإسلام السياسي بشكل عام، والتي باتت تحاول تقديم خطاب ذات بنية دينية وسياسية في الوقت ذاته. فهي تارةً تستند إلى النص الديني المقدس وتعود أحياناً لاجتهادات تسمح لها بفكّ انغلاق النص للعبور نحو عالم السياسة؛ من خلال توليفة خطابية تمرر بها الحركات أيديولوجيتها وتعكس صورتها كظلّ للإله على الأرض.

تتجلى هذه الفكرة بشكل واضح في دراسة للكاتب زياد حميدان، والتي تعدُّ إحدى الدراسات التي تناولت بنية خطاب حركة حماس في فلسطين كامتداد لحركة الإخوان المسلمين، حاول الكاتب فيها أن يقوم بتحليل خطاب حماس بكونه حقلاً سوسيولوجياً —اجتماعياً— بغية تجاوز التعامل مع الخطاب على أنه مجرد بنية لغوية فقط، بل يحمل بين طياته تشكيلات بمثابة الجسد أو هيكل الخطاب من الدين، والسياسة، والأيديولوجيا، والثقافة، بحيث ترتبط هذه العناصر فيما بينها لتخرج بصورة تشكيلات خطابية، تبدو متماسكة ومتناقضة أحياناً، وأخرى منقطعة ومتصلة من وجهة نظر الكاتب، منذ انطلاقة حركة حماس في فلسطين سنة 1988 وحتى سنة 2009.

تهدف الدراسة إلى معرفة الطريقة التي تعمل بها التشكيلات في بنية خطاب حركة حماس، كالعلاقة بين التشكيلة الخطابية الدينية والسياسية، أو الأيديولوجية والدينية، من خلال معرفة الثابت والمتحول في الخطاب، على اعتبار أن النص الديني المقدس ثابت، وما تفرضه تكتيكات السياسة تجعل خطاب الحركة متحولاً ومتناقضاً في الوقت ذاته؛ بالإضافة إلى الكشف عن إشكاليات وأزمة خطاب حماس.

لذا تدور أطروحة الدراسة حول كيف تعمل هذه التشكيلات، وما العلاقة التي تربطها ببعضها، وما هي التشكيلة التي تطغى فعلياً على خطاب حماس، هل هي الدينية أم الأيديولوجية أم السياسية؟ وكيف تخضع في بعض الأحيان تشكيلة لأخرى، كأن يتم استدعاء النص الديني لتبرير سياسي ما، أو استدعاء الأيديولوجي لصالح سلطة أو قوة تحاول الحركة أن تفرضها. وهل بنية الخطاب ثابتة في كل الظروف نتيجة لقيامها على نصّ مقدس —سلفي— كما هو واضح من ميثاق الحركة الذي صدر سنة 1988، أم بنية متغيرة ومتحولة بفعل الظروف كما حصل في تراجع حماس عن تحريم المشاركة في انتخابات التشريعي والبلديات سنة 2006، فيما حظرت سابقاً المشاركة لأسباب دينية سنة 1996؟ فكيف يمكن لهذا النوع من الثبات والتغير أن يجعل الخطاب يبدو أكثر تماسكاً في ظاهره في الوقت الذي يعج بالتناقضات؟

يتناول الكاتب في إطاره النظري تعريفاً للعديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالخطاب، مثل: البنية، والخطاب —المرجعية اللسانية، التحليل السيميائي—، بالإضافة إلى المفاهيم المتعلقة بالإسلام السياسي ابتداءً بتوضيحه لمفهوم الدين —النشأة—، والدين والأيديولوجيا، والمؤسسة الدينية، والإسلام السياسي.

ويتبع الكاتب في تحليله لخطاب حماس منهج ميشيل فوكو Michel Foucault في تحليل الخطاب والتحليل النقدي التاريخي، بالإضافة إلى منهج نصر أبو زيد في تحليل آليات الخطاب الديني ومنطلقاته الفكرية من باب صعوبة الفصل بين آليات الخطاب ومنطلقاته لكون كل منهما يحوي الآخر، فتستعين الدراسة بمنهجية أبو زيد بتوضيح علاقة التشكيلة الدينية بالتشكيلة السياسية في خطاب حماس.

لذا لجأت الدراسة إلى تحليل عشرين نصاً يتضمن ميثاق حماس، وبياناتها السياسية في كل مفصلة تاريخية، ومقولات ومقابلات موثقة لقادتها، وشعارات حماس، إضافة إلى بعض الأيقونات التي تقدمها حماس كشهدائها وقادتها وكفاحها كجزء من الخطاب.

هذا، وتنقسم الدراسة إلى قسمين يتكونان من خمسة فصول، الفصل الأول يقوم على المقاربة النظرية والمنهجية لمفهومي البنية والخطاب وصولاً إلى المنهج الفوكوي في تحليل الخطاب، والذي يستند عليه الباحث في مبادئ تحليله لخطاب حماس. أما الفصل الثاني فترتكز الدراسة فيه على المفاهيم المتعلقة بالدين والإسلام السياسي، وصولاً لحركة حماس والسياقات التي مرت بها.

القسم الثاني، يقوم الفصل الثالث منه بتحليل مدونة حماس والتي يتم من خلالها الإجابة على أسئلة البحث، وفي الفصل الرابع يقوم بفرز التشكيلات الخطابية وتوضيح العلاقات بينها من خلال تحليل ميثاق حماس وتحليل خطابها من التسعينيات حتى 2009. بينما الفصل الخامس يصل الكاتب فيه إلى استنتاجات حول سؤال البحث والتشكيلات الخطابية في خطاب حماس.

حركة المقاومة الإسلامية حماس.. السياقات:


تقدم الدراسة استعراضاً لتاريخ انطلاقة حركة حماس والتي تمتد جذورها من حركة الإخوان المسلمين في مصر، والتي انطلقت من الثلاثينيات على يد حسن البنا ليتبعها سيد قطب. ويشير الكاتب بأن حركة الإخوان تجنبت آنذاك الخوض في غمار أحداث نكبة 48 ونكسة الـ 67، لتأتي انطلاقة حماس سنة 1987 بمثابة ولادة حركة تنظيمية، كأداة جهاد فعلي على الأرض في ظلّ اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 1987، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، لتعلن انطلاقتها على يد الشيخ أحمد ياسين في قطاع غزة، لتكون حماس الجناح العسكري، وحركة الإخوان هي الجناح السياسي والأيديولوجي لحركة حماس.

وتكشف الدراسة كيف استطاعت الحركة أن تقدم نفسها بديلاً لمشروع القيادة التاريخية المتمثلة بمنظمة التحرير والتي، من وجهة نظرها، قامت بتقديم تنازلات للعدو، ليقوم خطابها على التأكيد بأن فلسطين أراضيها التاريخية هي أرض وقف إسلامي يجب تحريرها من النهر إلى البحر، وأن ذلك لا يكون إلا بالجهاد ورفض الحلول السلمية.

وفي اقتباس لمؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين قائلاً: “إن الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لمعرفة الممثل الحقيقي للشعب”، تبين الدراسة كيف تحولت استراتيجية حماس إلى تكتيك؛ ففي الوقت الذي رفضت فيه المشاركة بانتخابات سنة 1996، تعود للقبول بالمشاركة السياسية وخوض غمار الديموقراطية سنة 2006، باستدعاء منطق الاجتهاد بالشكل الذي يسمح لها بتحقيق استراتيجيتها السياسية.

خطاب حماس:


في الوقت الذي يظهر فيه خطاب حماس كخطابات متعددة، تارةً منها السياسي وأخرى الأيديولوجي والديني والاجتماعي، يبدو خطابها في مواضع أخرى محاولة للتحلل من النص الديني لصالح السياسي، وذلك بالاعتماد على قاعدة ” الفكر السياسي هو مساحة الحركة في ظلّ الثابت”. فما يحدث في داخل الخطاب هو أن يتكيف المقدس مع متطلبات الواقع بعيداً عن فكرة تطويع الواقع للمقدس، لهذا يشعر المرء أمام نوع من التناقض يدفعه لطرح أسئلة حول من يخضع لمن، هل السياسي للديني أم الديني للسياسي؟، ليبدو أن استناد الحركة إلى الأيديولوجية الدينية كقوة مطلقة تمكنها من التحكم بالسياسة وخوض غمارها، كما بدا واضحاً في بداية انطلاقة الحركة 1988، من خلال استغلال النصوص الدينية والالتفاف عليها لإيجاد قوة اجتماعية تدفعها للظهور، في الوقت الذي تعيد الحركة إنتاج النص الديني بالشكل الذي يخدم السياسة؛ فهي تفرض نفسها على المجتمع باعتبارها ممثلة للإله، وتقتحم المجال السياسي انطلاقاً من كونها المنقذ الوحيد للمجتمع، نظراً لارتباطاتها التاريخية – الدينية من عهد النبوة حتى اللحظة. ويظهر ذلك بالشعار الذي تردده غالباً الحركة في خطابها “الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا”.

وكما يقول نصر أبو زيد بأن حركات الإسلام السياسي —من ضمنها حماس— تسعى إلى إقامة نوع من الخلط الماكر بين الديني والسياسي، من باب الجمع بين قوة الدين والدولة. لذا، يستدرج الكاتب حديثه عن هذه الحركات في الدراسة، لتوضيح كيف تستخدم الدين كأيديولوجيا لتعبئة الجماهير وتوجيههم لغايات الوصول للسلطة، والكشف عن الطريقة التي تستغل بها الحركات الإسلامية النص الديني لتبرير منطقها السياسي.

التشكيلات الخطابية في كل من:

أ‌. ميثاق حركة حماس:


تعد الدراسة أن الميثاق يتضمن تشكيلات خطابية متعددة، الدينية والأيديولوجية والسياسية، بشكل أساسي في ميثاق حركة حماس، والذي تمت كتابته سنة 1988 حيث يتضمن 35 مادة.

التشكيلة الدينية تبدو الأكثر بروزاً في الميثاق؛ متمثلة بالعبارات القرآنية، والأحاديث النبوية، والعبارات الفقهية الدينية: كالبسملة، والاستغفار، وعبارة “فلسطين أرض وقف إسلامي”.

وتأتي بعدها التشكيلة الأيديولوجية؛ تتمثل في الميثاق باسم الحركة المختصر، شعار حماس، بالإضافة إلى المجموعة العبارية الشعرية والإخوانية كأقوال حسن البنا، حيث تطغى لغة الإخوان المسلمين وأسلوبها اللغوي الذي ينطق به الميثاق، بالإضافة إلى مفاهيم أخرى كالجهاد في سبيل الله، وإعلاء راية الحق، والخلافة الإسلامية.

التشكيلة السياسية؛ تظهر من خلال استدعاء بعض المفاهيم مثل: المقاومة، و”إسرائيل”، والصراع، والحركات الإسلامية الأخرى، ومنظمة التحرير، والمقاومة الوطنية.

بينما التشكيلتين الاجتماعية والثقافية تبدوان بصورة أقل؛ من خلال استخدام مفاهيم كدور المرأة، ومشاركة الجماهير، والتكافل في السياق الاجتماعي، وفن إسلامي، وفن جاهلي، والجسد، وخصائص الفن الإسلامي في السياق الثقافي.

ويردف الكاتب في دراسته كيف أن “التشكيلة الأيديولوجية تتوسط بين التشكيلة السياسية والدينية بالشكل الذي يصهر السياسي ليكون ديني، وقولبة الديني ليغدو سياسياً عبر مراحل الأيديولوجيا” . عدا عن التشكيلة الدينية المستخدمة في الميثاق من خلال الآيات والأحاديث، والتي تضفي القداسة على التشكيلة السياسية وتؤسس لشرعيتها، حيث تصبح التشكيلة الدينية المادة الخام التي تتشكل منها نواة التشكيلة الأيديولوجية والتي تظهر مادياً عبر السياسة .

ب‌. بيانات ومواقف حماس:


تجلت التشكيلات السياسية بشكل واضح في البيان، قياساً بالميثاق الذي احتلت فيه التشكيلة الدينية المركز، والتي جاءت في صيغة: تنازلات، ودولة عدو، وأوسلو.

التشكيلات الأيديولوجية تمثلت بـ: راية المقاومة، والشهداء، والأسرى، والجرحى، والعمليات الاستشهادية.

أما التشكيلات الدينية فتمثلت بـ: الأحاديث والآيات القرآنية. وتوضح الدراسة كيف أن التشكيلات لعبت دوراً في التعبئة والتحريض للدفع نحو العمل الجهادي والمقاومة، لا سيّما في الانتفاضة الأولى سنة 1987، والثانية سنة 2000، بصورة تخدم استراتيجية الحركة؛ ليس فقط تجاه عدوها “إسرائيل” بل أيضاً تجاه خصم جديد لها ممثلاً بمنظمة التحرير. حيث لعبت الحركة من خلال بياناتها دوراً في الإقصاء وإلغاء الخطابات الأخرى، وفرض خطابها الخاص كإحدى استراتيجيات الحصر والمنع التي تحدث عنها فوكو كوسائل للسيطرة على الخطاب، بنبذ ما سواه وفرض خطاب تريده حماس، بالاعتماد على مبدأ القسمة والرفض وإرادة الحقيقة، بكونها قادرة على الفصل بين الحق والباطل، وأنها تمتلك الأفضلية والحقيقة، وتنكر ذلك على الآخرين .

حماس بعد الميثاق من 2006–2009:


بقيت التشكيلة الأيديولوجية والدينية واضحة في خطاب حماس في هذه الفترة، إلا أن التشكيلة السياسية كشفت عن نفسها بوضوح، مهيمنة على التشكيلتين السابقتين.

من وجهة نظر الدراسة، كانت تستدعي حماس التشكيلة الأيديولوجية في الحالات والظروف الطارئة كحرب غزة، وفترة الحسم في القطاع، ولحظة تعرضها للأزمات السياسية، لتتصدر التشكيلة الأيديولوجية في محاولة لتذكير الجماهير بشرعية حماس كونها تستمد شرعيتها من “الله” وبأيديولوجيتها المنبثقة عن الإخوان المسلمين، في خطوة نحو استدعاء الإرث التاريخي كونها ممتدة صاحبة جذور، وليست وجود عبثي ومفاجئ على الأرض.

لذا بدا خطاب حماس بين سنة 2006–2009 أكثر برجماتية وأقل حدية، لا سيما في خطابها الموجه للعالم الخارجي، كما أن التشكيلة الدينية بدت أقل حضوراً، فهي تظهر كتواجد بروتوكولي لافتتاح بيان أو خطاب ما. حتى أن النصوص الدينية المستدعاة تحمل بين طياتها معاني الوحدة والاعتصام بحبل الله، في خطوة نحو الانفتاح للعالم والسعي لنيل الاعتراف بها محلياً ودولياً؛ حتى امتد ذلك بتراجع الحركة باعتبار الديموقراطية والانتخابات والمحادثات مع “إسرائيل” رجس، بل هي جزء من التكتيك الخاص بسياستها لتحقيق المآرب.

وهذا يبدو طبعاً مختلفاً، قياساً بمراحل التسعينيات التي بدت الأعنف في تاريخ خطاب حماس حيث كان الجهاد والعمل الكفاحي طاغياً في التشكيلة الأيديولوجية والدينية مقابل السياسية.

نقد الدراسة:


يتميز الإطار النظري للدراسة بعمقه وشروحاته، والتي يتناول فيه الباحث أهم المفاهيم النظرية بصورة تفصيلية يستطيع القارئ من خلالها الوقوف على أطلال الدراسة بشكلٍ واضح وجليّ، وبناء منظومة معرفية تؤهل القارئ لفهم فحوى الدراسة وتفكيكها بعيداً عن معيقات التواصل المفاهيمي.

بنية البحث في جزئيته الأولى تبدو متماسكة بصورة تجعل الانتقال بين الأفكار سلساً وصعباً في الوقت ذاته. نظراً لصعوبة موضوع “الخطاب” الذي طُرح على يد العالم الفرنسي ميشيل فوكو، ليحاول الكاتب توظيف أهم المفاهيم والآليات لتحليل ميثاق وبيانات الحركة.

تتعدد المصادر والمراجع التي تعتمد عليها الدراسة لبناء إطارها النظري، لكنها تشهد نقصاً في مراجع ومصادر المعلومات المتعلقة بحركة حماس. فهناك العديد من الدراسات التي تناولت نشأة الحركة وعملها العسكري ومشاركتها مؤخراً في انتخابات 2006 لم يتناولها الكاتب. عدا عن عملية الاختيار الانتقائي لبعض المصادر والاعتماد عليها بصورة أساسية لتتوافق مع رؤية الكاتب لحركة حماس أو لموضوع الدراسة.

الجزء الثاني من الدراسة التي يحاول فيها الكاتب أن يوظف آليات الخطاب لتحليل ميثاق وبيانات حماس، بدا أقل تماسكاً حيث كررت العديد من الأفكار بالصياغة نفسها وأحياناً بأسلوب آخر.

بالإضافة لغياب منهجية اختيار البيانات والمقابلات الواردة في الدراسة. هل اختارها بناءً على مراحل زمنية أو أحداث معينة؛ فالاختيار كان أقرب للانتقائي، كأن يحلل بيان ويترك آخر، وينطبق الحال على المقابلات.

كما ذكرت الدراسة معلومات متعلقة بممارسة حركة حماس في القطاع بنص يصدر تحديداً عن الكاتب يقول فيه: “فكيف يمكن أن تبرر حماس عنفها الدموي تجاه الآخرين في القطاع والذي لا يمت بالدين بصلة”، عدا عن مواقع أخرى في الدراسة يشير فيها إلى عنف ودموية حماس، يفتقد القارئ فيها توثيق المعلومة أو إشارة إلى مصدرها، لتبدو كأنها بنيت على رأي وموقف شخصي يمثل عداء الكاتب لحركة حماس خارج إطار الدراسة.

يصل الكاتب في النهاية لاستنتاجات متعددة يطالب من خلالها حركة حماس أن تخرج من دائرة الخطاب المغلق، وأن تعاود إنتاج خطابها، بالإضافة إلى حاجتها لاستراتيجيات أيديولوجية أكثر، ومطالبتها بالوضوح والعقلانية وأن تكون أقل حدية.

في واقع الأمر تبدو مطالب الكاتب في خاتمة الدراسة متناقضة لما جاء في الثنايا. في الوقت الذي اتجهت فيه حماس إلى البراجماتية في خطابها بالمشاركة في الانتخابات سنة 2006، وجّه لها الكاتب الاتهام في أكثر من موضع أنها تحاول أن تصعد سلَّم السياسة وتمارس سلطتها بالقوة، وأنها تستغل الإرث الديني لتحقيق قوة أيديولوجية خاصة بها. عدا عن الإشارة بتناقض خطابها بين الأقوال المقدسة في الميثاق وبين تصريحات وأفعال قادتها.

وفي آخر الصفحات يطالبها الكاتب بأن تخرج من خطابها المغلق! وتعيد قراءة النصوص! أليست موافقة حماس على المشاركة بالانتخابات مؤخراً بعد أن امتنعت سنة 1996 شكل من أشكال التخلص من انغلاقية النص، وإعادة إنتاج النص الديني بصورة أخرى تتلاءم مع الواقع وتخدمه في الوقت ذاته، بما لا يهين النص أو ينزع عنه القدسية؟

موافقة حماس على المشاركة السياسية والاتجاه نحو التكتيك لا يعني التخلي عن استراتيجيتها، فقد حاولت أن تقوم بالسير بشكل متوازٍ ومتوازن في الوقت ذاته، كأن تنفتح على العملية الديموقراطية وتمارس عملها المقاوم في الوقت ذاته. فهي حاولت أن تكون مرنة في التعاطي مع الواقع الجديد قدر المستطاع بالشكل الذي لا يجعلها تتنازل عن مبادئها. فلا يمكن التعامل بخيارات ثنائية عند الحديث عن مشاركة حماس الانتخابية، كأن تترك النص الديني وتتخلى عن أيديولوجيتها لصالح السياسية والعكس كذلك، لأن الواقع الذي عاينته حماس لم يجعلها تتجاهله لصالح ميثاق لم يجرِ عليه التعديل منذ كتابته لأسباب مختلفة. بل حاولت إيجاد سياسة تتماشى مع الواقع، والفكاك من فكرة التناقض بين الإسلام السياسي والديموقراطية.

في السياق ذاته يطالب الكاتب بأن تكون حماس في خطابها أكثر عقلانية ووضوح، لكون خطابها يقوم على تشكيلات متعددة، تارة أيديولوجية وأخرى دينية وسياسية. لِمَ حصر التصور بأن الخطاب القائم على تشكيلة واحدة هو الأنجع؟ ربما يكون استخدام أكثر من تشكيلة شكلاً من أشكال الذكاء والقوة والمنعة التي تحصّن الخطاب، لا نوعاً من التناقض كما يطرحه الكاتب.

لا يمكن للخطاب السياسي أن يكون واضحاً، وهنا لا أقصد الوضوح اللغوي وإنما الآليات، فكما يشير فوكو إن الخطاب يمثل القوة والسلطة، وهو بمثابة خيوط أيديولوجية لا تعد ولا تحصى. بنظري، الكشف عن مكنونات الخطاب وآلياته هو بمثابة تعريته، وهو محاولة لجعله هشاً غير قادر على الثبات واستدعاء القوة في لحظات المواجهة المطلوبة.

إذاً الخطاب خفيٌّ، وسلطته في الخفاء التي تمكنه من القيام بدوره في السيطرة والتعبئة والحشد، لا الإشارة إلى تكتيكاته بالشكل الذي يعرضه للانهيار فيفقد معه كل سلطة وقوة ويحرم الخطاب من أداء الدور المطلوب.

ومع ذلك، تمثل هذه الدراسة إحدى محاولات الكشف عن بنية خطاب حركة حماس، وتسليط الضوء بمجهر سوسيولوجي مفكك للخطاب، ليُظهر مدى قدرته على إيجاد الحيز الوجودي لجماعة أو فكرة من خلال تكتيكات كامنة وظاهرة في الوقت ذاته.

[1] إباء أبو طه، باحثة مهتمة بالعلوم الاجتماعية، وطالبة ماجستير علم اجتماع في جامعة بيرزيت.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top