عندما ترقص الثعابينُ على رأس الحاوي! ... فؤاد البنا

 أبدأ هذه المقالة بالتذكير بأن علي عبدالله صالح المغدور من قبل حلفائه، قد أفضى إلى ما قدم، وأننا لسنا هنا بصدد الشماتة فهي ليست من شيم الكرام، ولكننا نورد قصته في الرقص على رؤوس الثعابين، حتى نعرف كيف حدث الذي حدث، ولأخذ العبر والدروس التي تساعدنا في البحث عن أرضيات مشتركة تصلح للانطلاق منها نحو استعادة بلدنا المخطوف من قبل عصابات الإجرام الحوثية ومن خلفها الذين لا يريدون بنا ولا بأمتنا خيراً .

لقد وصل صالح إلى حكم اليمن سنة 1978بطرق فهلوية ملتوية، ومنذ ذلك الزمن وهو يمارس هواية التوازنات ويلعب على حبال التناقضات، وما فتئ يدير البلد بالفهلوة والأزمات، حيث ظل يُحرّض الأحزاب ضد الأحزاب، والجماعات ضد الجماعات، ويثير القبائل على القبائل والطوائف على الطوائف، وما برح يزرع المناطقيات والجهويات، فلقد استمرأ تدبير الانقلابات ضد مشائخ القبائل وضد زعماء الأحزاب، وذلك عن طريق المال الذي كان كريماً في التصرف به، وعن طريق الدهاء الذي امتلك منه نصيباً وافراً، حتى أنه استنسخ الكثير من المشائخ والزعامات، وأوجد له أحزابا معارضة، وهي في الحقيقة معارضة ضد المعارضة!
 
 لقد كان يحلو لصالح أن يسمي هذه اللعبة *بالرقص على رؤوس الثعابين،* وبدا متفاخرا في مقابلات صحفية عديدة بأنه قادر على ترويض الثعابين، حيث ذكر مرات عديدة بأنه في حكمه لليمن كمن يرقص على رؤوس الثعابين، وقالها ذات مرة في سياق إظهار الشفقة على الأحزاب التي تنافسه في مضمار العمل السياسي، مؤكداً بأنه لا يوجد ما يُغري بحكم اليمن، وبأن من يريد حكم اليمن ينبغي أن يمتلك مهارة الرقص على رؤوس الثعابين!
 
. كان صالح مزهواً بترديد عبارة *الرقص على رؤوس الثعابين* في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل، بعد أن نجح في البقاء على كرسي الحكم الناري ثلاثة عقود من الزمن، بينما حكم خمسة رؤساء جمهوريون قبله ما مجموعه ستة عشر عاماً فقط، ومع الحَظّ الذي حالفه مرات عديدة كان يزداد يقيناً أن هذه هي الطريقة المثلى لحكم اليمن، حتى أنه جعل هذه السياسة استراتيجيةً ثابتة لا يحيل عنها ولا يميل!
 
 ومن مظاهر وآثار هذه السياسة الراقصة أنه تحالف مع الإسلاميين الإصلاحيين لمواجهة تيارات اليسار التي كانت قوية عند صعوده إلى السلطة، وتحالف مع البعثيين ضد الناصريين الذين حاولوا الانقلاب ضده في بداية حكمه، ونسج علاقات مع كافة الفرق السلفية والطرق الصوفية، وأقام علاقة وثيقة مع البهرة الإسماعيلية، ولم يزل يغازل حتى جماعة التبليغ والدعوة، مؤكداً لكل طرف بأنه الممثل الحقيقي للإسلام!
وعندما أدرك الإصلاحيون الرغبة الصالحية في جعلهم بيدقاً بيده لضرب الاشتراكيين، اشتدّ حذرهم منه وحاولوا الاستفادة من تحالفهم معه دون الاندفاع لمواجهة الاشتراكيين، عندها بدأ يبحث عن حلفاء جدد يضرب بهم الإصلاحيين، ولاسيما بعد أن قويت شوكتهم وسعوا للحوار مع الاشتراكيين والقوميين، وتوّجوا ذلك الحوار والتقارب بتشكيل ما سُمّي *باللقاء المشترك!*
 
 ولقد ذهب صالح في النيل من الإصلاحيين الذين نافسوه في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، إلى *مربع خطير* جداً، في الزاوية الأولى من هذا المربع شجّع ما يسمى *بالشباب المؤمن* وهم الذين عُرفوا في ما بعد بالحوثيين، وفي الزاوية الثانية شجّع الصوفية وأسّس لهم جامعة في مدينة الحديدة يديرها شيخ صوفي وقيادي في اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام، وفي الزاوية الثالثة تحالف مع مجاميع من الشباب العائدين من أفغانستان والذين عُرفوا بأفغان اليمن وصاروا يُعرفون بقاعدة صالح، حتى أن زعيمهم الأول طارق الفضلي كان عضواً في اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي، وهي أعلى هيئة قيادية في الحزب الحاكم!
وفي الزاوية الرابعة تحالف مع عدد من الجماعات السلفية وأمدهم بالمال والخطط والغطاء السياسي والقانوني للسيطرة على كثير من المساجد، منتزعين إياها من محسوبين على الإصلاح!
 
 ومن الواضح أن أخطر تحالفاته كانت مع الحركة الحوثية، حيث أمدها بالمال كما اعترف بذلك هو وغيره، وهي ما زالت حركة فكرية صغيرة في بضعة قرى من محافظة صعدة التي تعرف بكرسي الزيدية، وصعدة هي محضن *الطائفة الجارودية* التي خرجت من رحم الزيدية واقتربت بشدة من الاثني عشرية ولاسيما في مسائل سبّ الصحابة، والقول بردّتهم، والزعم باستيلائهم على حق آل البيت في الحكم الذي تراه حقاً حصرياً في أولاد علي رضي الله عنه بنص سماوي!
 لقد منح علي صالح الحوثيين المال الوفير والدعم السياسي اللامحدود، وفتح لقادتهم أبواب حزبه الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) على مصراعيه، ومكّنهم من كثير من مناصب الدولة ومن المناصب الإدارية في محافظة صعدة، وأدخل الآلاف من المحسوبين عليهم في الحرس الجمهوري وهو الجيش الموازي للجيش الوطني الذي أعدّه لحراسة العائلة الحاكمة وهيّأه لتأمين توريث السلطة لابنه أحمد، وبعث الآلاف منهم للدراسة في جامعات إيران وحوزاتها الدينية على حساب الحكومة اليمنية تحت مسميات وعناوين عديدة، وكان يظن أنه بذلك يضرب الإصلاح وأنه يحتوي الحوثيين، وأنهم سيكونون مثل بقية القوى التي كان يحركها كالأحجار على رقعة الشطرنج، إذ نجح في تقسيم البعثيين إلى حزبين والناصريين إلى ثلاثة أحزاب، ومزّق الاشتراكيين شرّ ممزّق، وحاول فعل ذلك مع الإصلاحيين!
 
 ولما كان الحوثيون قد اعتنقوا عقائد الشيعة الاثني عشرية في التقية والبراجماتية، فقد عزّزوا بذكاء هذا الوهم في ذهن علي صالح، ولاسيما أن قياداتهم ظلت تعمل من داخل الحزب الحاكم، رغم وجود أحزاب وجمعيات عديدة لهم، واقترب بعضهم من صالح بشدة فزوّجوه ببعض بناتهم وصاروا من بطانته الخاصة والتي ساهمت في صناعة القرار بفاعلية!
ولقد أشبع هؤلاء رغبة صالح الجامحة في الظهور كقائد تأريخي استثنائي، وسايروه في جنون العظمة الذي اعتراه نتيجة طول مكثه في السلطة، وأغروه بارتكاب حماقات كبرى كالسعي الحثيث لتوريث السلطة لابنه أحمد، وزادت ثقة صالح بهؤلاء عندما دعموه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2006 ، حتى أنه حصل على أعلى نسبة أصوات بين المحافظات في صعدة، رغم أنه كان قد دخل معهم في حرب، قُتل فيها زعيمهم المؤسس حسين بدر الدين الحوثي.
 
 وعندما اندلعت ثورة فبراير الشبابية في 2011 التحق الحوثيون بساحات الثورة بالتنسيق مع صالح، الذي أحب أن يفجر الثوار من داخلهم، وبالفعل جرت صراعات عديدة اكتسى بعضها طابع الدموية داخل ساحة التغيير بصنعاء، عندما حاول الحوثيون دفع الثورة نحو مربعات العنف بالتعاون مع الأمن القومي الذي كان يخترق بعض شباب الساحات؛ نتيجة الفوضى التي تعتري الثورات الشعبية عادة.
وبالتعاون بين صالح والحوثيين نجحت الثورة المضادة في الانزراع وسط الثوار، مما ساهم في إضعاف قدرتهم على الحسم، وتدخل الخارج بفرض ما سمي بالمبادرة الخليجية التي منحت تيار صالح والحوثي نصيب الأسد من السلطة، مما أعاد الحياة لبقرة صالح ونفخ الروح في عجل الحوثي الذي صار اليوم ثوراً هائجاً ينطح ويرفس كل من تضعه الأقدار أمامه!
 
 ونتيجة خلافات فصائل الثورة وخبرات صالح في اللعب على التناقضات؛ فقد استمر تقهقر الأحرار وتقدم الحوافيش، ومكّن صالح الحوثيين من السيطرة العسكرية  على مناطق واسعة من المحافظات ذات الغالبية الزيدية، بينما مكّن العامل الخارجي الحوثيين من الحصول على نصيب كبير من مدخلات ومخرجات الحوار الوطني!
وما زال الثوار يُقدّمون التنازلات خوفاً على الوطن من الوقوع في هُوّة الاحتراب الداخلي، وما زال ضعف قيادة الشرعية يبرز في كثير من المواضع؛ مما أغرى صالح باستعادة كعكة السلطة بمفرده، فتحالف رسمياً مع الحركة الحوثية التي ظلت تتقدم عسكريا من أقصى الشمال، وكان الجيش الذي يأتمر بأمر صالح يُخلي لهم المعسكرات والمواقع بدون قتال، أما الذين رفضوا الانخراط في هذه المسرحية الهزلية فقد تم رفع الغطاء الحكومي عنهم لتقتلهم المليشيات الحوثية بالتعاون مع خونة صالح من المشائخ بطريقة بشعة، كما حدث للقشيبي قائد اللواء 310 في عمران!
 
 وعندما خلصت السلطة تماماً للحوثيين الذين جعلوا حزب صالح مجرد غطاء سياسي لهم، حاول صالح بمهارة الحاوي وغرور المنتصر أن يمارس هوايته في ترويض الثعابين ولكن بدون جدوى هذه المرة، فقد بطل سحره وانتهت حيلته، وكان الحوثيون الذين لم ينسوا قط أن صالح هو من قتل مؤسس حركتهم حسين الحوثي وأنه قاتل سيدتهم إيران مع عراق صدام، كانوا يقتربون بشدة من رقبته، وفي هذا الوقت سعى صالح لإنقاذ نفسه من مقصلة الحوثيين، فدعا أتباعه لفضّ الشراكة مع الحوثيين والانتفاض ضد هذه الحركة الدموية، لكنها كانت قد ابتلعت كثيراً من قيادات المؤتمر وأرهبت قواعده، ولذلك وقف صالح وحيداً في اللحظات الأخيرة يحصد ثمار ما جنته يداه، حيث لدغته الثعابين السامة التي رباها للنيل من خصومه ذات حماقة!!
 
 لم يكن صالح قليل الذكاء وإنما أعمته أدخنة الانتقام عن رؤية الخطر الماحق الذي ظل الحوثيون يشكلونه عليه وعلى الوطن!
وليس المطلوب مننا اليوم أن نبكي على اللبن الذي سكبه صالح، وإنما أن نبحث عن صيغ تعيد الحياة والحيوية إلى الكيانات السياسية والاجتماعية التي يمكنها إعادة المياه إلى مجاريها والوطن إلى أصحابه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top