طباعة

الذكرى الـ 17 لاحتلال العراق وإرهاصاته على الأمن العربي

د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

   كان يوم التاسع من أبريل/ نيسان من العام 2003 يومًا فارقًا في تاريخ العراق، عندما دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى العاصمة بغداد، وفككت الجيش وكل مقومات الدولة، وتركت البلاد تعيش فوضى عارمة وفسادا سياسيا وانهيارا اقتصاديا لم تشهده البلاد طوال تاريخها الحديث.

     تمر الذكرى السابعة عشر للاحتلال الأمريكي وبريطانيا وحلفائهما بالتعاون مع إيران لاحتلال العراق ، ويستذكر العراقيون هذا التاريخ كل عام بمرارة، لاسيما وأن أثار الغزو وتداعياته لاتزال قائمة بل وتتفاقم يومًا بعد يوم.

     ففي مثل هذا اليوم من عام 2003 أعلنت الولايات المتحدة سيطرتها على العاصمة بغداد وباقي المدن العراقية وانتشرت قواتها بشكل غير مسبوق على طول الأراضي العراقية ضاربة عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، وقامت بتسليم العراق لإيران على طبق من ذهب.

     وبعد مرور سبعة عشر سنة على الاحتلال الغاشم، لايزال العراق يعيش في ظلّ حكم الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران، فضلا عن التدهور الاقتصادي والخروقات الأمنية، وغياب القوانين، والفساد المالي والإداري، والخلافات والتناحر السياسي للحصول على المناصب العليا في الدولة…

      لقد تسبّب الاحتلال بسقوط الكثير من الضحايا، والتي تقدّر بأكثر من مليون عراقي، مخلفا وراءه جيشا من الأرامل والفقراء والمشردين وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، فضلا عن ملايين النازحين والمهجرين داخل العراق وخارجه.

      كما تسبب الاحتلال الأمريكي بدمار شامل في المنشآت الصناعية والعمرانية والبنية التحتية، وساهم في استشراء الفساد المالي والاداري الذي أخذ ينخر جميع مؤسسات الدولة، يرافقه تردٍّ في الخدمات مما انعكس سلبا على حياة المواطن الذي كان وما زال المتضرر الأكبر.

      وفي ذكرى الاحتلال، أكدّت اللجنة المنظمة لتظاهرات ثورة تشرين العراقية أن الـغـزو الأمـريـكي  الايراني أثبت غياب القانون الدولي وسيادة شريعة الغاب.

ماذا حققت أمريكا في العراق؟

     في التاسع من نيسان (يوم احتلال بغداد)، سقطت الأمة العربية وانتهى ما يسمى (الوطن العربي)”،  ذلك اليوم يمثل “يوم انتقال العالم إلى مرحلة جديدة من الفوضى”. لم يسقط النظام الوطني فقط، بل سقطت أنظمة المنطقة عامة والعرب خاصة، فاحتلال العراق كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة كلها، وتغيير النظام أدى إلى تغيير مفاهيم المجتمع، بعد محاولة “بلقنة العراق” وفق رؤيا تم إقرارها منذ عقود”.

    فأمريكيا كانت تدرك أن بقاء النظام الوطني -ما قبل 2003- يشكل خطرا حقيقيًا على الكيان الصهيوني، والأطراف الصديقة لأمريكا، وهو ما قاد لاحتلال العراق وإنهاء دوره وتأثيره الإقليمي ليصبح خارج التوازن الإقليمي على كل الأصعدة.

     إن العراق لم يتم احتلاله لتغيير نظام الحكم، بل احتل من أجل تدمير مجتمعه وبنيته ونهضته والأهم من ذلك تدمير الفكر الوطني فيه وقتل الانتماء للوطن عند العراقيين، ومن ثم تدمير قدراته العلمية والعسكرية، فما أشبه احتلال أمريكا للعراق باجتياح المغول للعراق سنة 658 ميلادية.

     وكان ردّ الشعب العراق هو انطلاق المقاومة العراقية بشراسة لتسجل في التاريخ الحديث أنها أسرع مقاومة للمحتل، بعد أن كذّب الشعب العراقي الأصيل ادعاءات الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بأن جنود بلاده سيستقبلون بالورود.

      وبعد انهيار الجيش الأمريكي في الأنبار وبغداد وصلاح الدين والموصل ونينوى وكركوك وديالى أطلق عليها المحتل (مثلث الموت)، وتفكك على إثرها تحالف الاحتلال وانهارت أسطورة الجيش الأمريكي. ورغم الدمار الذي أحدثه في “العراق”، وما تسبب به من كوارث اقتصادية، إلا أنه فشل في تطويع الواقع السياسي لإرادته، وإقامة نظام يُنفذ أجندته، وهو ما دفعهم لتأسيس عملية سياسية تحت الحماية الأمريكية في استخدام أحزاب ومليشيات مأجورة للقضاء على المقاومة العرقية.

      وبقيت قوتان تتحكمان في المشهد العراقي؛ المحتلون ومن معهم من الأدوات السياسية من جهة، وإيران وعملاؤها ومليشياتها من جهة أخرى.

إيران ودورها في العراق

      بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وإطلاق يد إيران في السيطرة السياسية والعسكرية عليه، انطلقت إيران من العراق، لتعيث في الأرض فسادا في كلّ من (سوريا، ولبنان، واليمن) لتجعل دول مجلس التعاون الخليجي في مأزق حقيقي.

      لقد أمسى الشعب العراقي ضحية الانهيار المستمر في مؤسسات الدولة بسبب السياسات الحكومية الفاشلة، فانهيار القطاع الصحي أمام جائحة كورونا وانتهاك السيادة العراقية وتحكم الميليشيات الموالية لإيران بالقرار السياسي والاقتصادي والأمني وممارستها الإجرام والتهجير والتغيير الديمغرافي لصالح إيران في المنطقة يُظهر حجم النفوذ الإيراني والفساد المستشري في العراق؛ وهو ما دفع الشعب العراقي للخروج بتظاهرات كبيرة منذ ستة أشهر للمطالبة بإسقاط العملية السياسية المُتهالكة وبناء عملية سياسية وطنية راشدة لإعادة السيادة للعراق.

الدور الإيراني في المجال العربي

     لا شك أن الدور الإيراني الأبرز في المجال العربي قبل الغزو الأمريكي للعراق كان يمكن ملاحظته في سورية وكان محدودا. وبالرغم من ذلك لم يكن النفوذ الإيراني في سوريّا بالقوة التي وصلت إليه بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة، وفتحه البلاد على مصرعيها أمام الوجود الإيراني فأصبحت إيران تتدخل في كل مفاصل الدولة، وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، إذ باتت سوريا تشهد نشاطا إيرانيا غير مسبوق في جميع المحافظات السورية، وسرعان ما انتقلت إلى التدخل المباشر في القرار السياسي الداخلي والخارجي.

      لقد ازداد التدخل الإيراني في لبنان بعد بسط نفوذه على العراق بشكل واضح، مستغلاً بشكل ذكي، المشاعر الشعبية العربية الملتهبة ضدّ الاحتلال الأمريكي من جهة، وضدّ العدو الإسرائيلي من جهة أخرى في تلك المرحلة، الأمر الذي خدم إيران و ساهم في إبراز “حزب الله”  وزيادة شعبيته بين الشعوب العربية، بوصفه “قوّة مقاومة” آنذاك، وبقيت هذه الصورة دون أن يتم اكتشاف حقيقتها إلا مع بداية الثورة السورية.

      أما على الصعيد اليمني فقد زاد الوضع تعقيداً، واستثمرت إيران الحراك الشعبي لدعم جماعة الحوثي، واستطاعت تزويدهم  بالأسلحة والخبراء والأموال، وبدأت شوكتهم تزداد بالتحالف مع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، للإسهام في زعزعة أمن الخليج  واستقراره عن طريق استهداف أكبر وأقوى دولة في الخليج. الأمر الذي دفع التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية للتدخل العسكري المباشر، لإجهاض المشروع الإيراني، رغم مضي خمسة سنوات لم يتمكن التحالف من تحيد هذا التمرد أو القضاء عليه.

      أما دول مجلس التعاون الخليجي، فقد توسع التغلغل الإيراني  في معظمها بعد بسط سيطرتم على العراق وزاد التغول الإيراني حتى أصبح يهدد الأنظمة من خلال الأذرع النائمة داخل هذه الدول، حيث توسع ديمغرافيا واقتصاديا من خلال توظيف رؤوس الأموال في قسم من هذه الدول، وأصبح يتحكم بها اقتصاديا فضلا عن تحريكه لخلاياه النائمة متى شاء لتهديد هذه الأنظمة ولزعزعة الاستقرار.

      لا شك أن الدور العربي الذي كان ضعيفا في العراق، وعكس عدم وجود أمن قومي عربي حقيقي، استمر بنفس الوتيرة في سورية، إذ اقتصر الدور العربي فيها على تقديم مساعدات غذائية ومساعدات عسكرية في سنوات الثورة الأولى، دون أي تواجد فعلي حقيقي عربي على الأرض، وإذا ما استثنينا التدخل العربي المباشر في اليمن، وبعض محاولات التأثير في سياق الأحداث في ليبيا، فأننا سنجد بأن الدول العربية نأت بنفسها عن إحداث فارقة في مجريات ما يحدث، وتركت المجال مفتوحا أمام الجيوش والقوات الأجنبية (روسيا، أمريكا، تركيا، فرنسا، إيران …).

وبعد مرور 17 عام على الاحتلالين الامريكي الايراني يتضح المشهد من خلال :

1 . لقد فشل الأميركيون في العراق لأن صانعي السياسة الكبار لم يكونوا مدركين للكثير من الحقائق عن طبيعة الشعب العراقي.

2 . كان المبرر التي قدمته أمريكيا الاحتلال العراق، أن يكون الشرق الأوسط أكثر إنسانية وليبرالية، لذلك بدأت الإطاحة بالنظام العراقي لتحقيق هدفها، ولكن الحقيقة أظهرت تحول منطقة الشرق الأوسط الى مسرح للصراع المستمر.

3 . تصاعد أحداث العنف في العراق، كانت نتيجة لتوافق سياسات الاحتلال الأمريكي والإيراني، في ترسيخ العنف الطائفي في العراق، كما كان له أثره في عدم الاستقرار السياسي، وظهور بعض الجماعات المتطرفة التي استغلت أحداث الطائفية في خدمة مصالحها. ومن أهم مؤشرات العنف الطائفي في العراق زيادة عدد القتلى على أساس الهوية، تقتل المواطنين على أساس انتمائهم العرقي والمذهبي، وتفجير دور العبادة للطوائف المختلفة.

4 . ظاهرة التهجير القسري، التي تخدم في النهاية مخطط تقسيم العراق إلى كيانات عرقية وإثنية، وهذه الظاهرة التي تعني إجبار أتباع طائفة معينة إلى ترك المناطق التي بها أغلبية من أتباع الطائفة الأخرى حتى لا تتعرض للقتل، ونتيجة للعنف الطائفي الذي اشتعل بعد تفجيرات سامراء، فر آلاف من مناطقهم إلى مناطق أخرى، مما أحدث تغيّر ديمغرافي في العراق لصالح مشروع التقسيم.

     بدأت أمريكا تدرك خطورة النفوذ الإيراني، وعزمت على تقليصه وبالتحديد في العراق، للحد الذي تعجز فيه إيران عن الانطلاق إقليميا، بعد تقاطع المصالح، لكن الموضوع أصبح معقدا بعد أن بسطت إيران نفوذها على كل مفاصل الدولة بفضل أمريكا من خلال الدستور الطائفي وإطلاق يدها في البلاد.

      إن انعكاسات الغزو الأمريكي ستستمر طويلا، رغم أن العراقيون يحاولون ترميم ما تركه الاحتلال الأمريكي لكنهم ضائعون بسبب المحاصصة العرقية والطائفية، وولاء السطلة الحاكمة لإيران، التي تأسست بعد الاحتلال والتي ما يزالون يدفعون ثمنها وسوف تستمر إلى فترة طويلة لأن المحاصصة تكرست.

       المستفيد الأكبر وعلى المدى الاستراتيجي هو الكيان الصهيوني. كان غزو العراق  وعدم استقراره، بمثابة الزلزال الاستراتيجي الثاني في التوازن الاستراتيجي في المنطقة. وكانت كامب ديفيد هي الزلزال الأول، وبفعل ما جرى أصبحت المنطقة العربية والشرق الأوسط جميعها تعيش عدم استقرار ومهددة  بالتغيّر.

     رغم مرور ما يقارب عقدين من الزمان، مازال الدم العراقي ينزف وأوصال البلاد مقطعة بين الإرهاب والفساد والطائفية والأطماع الدولية والإقليمية…

      في الذكرى الـ17 للغزو الأمريكي ندعو الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحلي بالواجب القانوني والأخلاقي بالانسحاب المسؤول من العراق وتسليمه لشعبه وإنهاء الدور الإيراني الذي دخل بموافقتهم ودعمهم.

      وليعلموا جيدا أن الظالمين لن يعيشوا طويلا فوق أرض العراق، والظالمون بكل جنسياتهم سوف يرحلون، فليقرؤوا التاريخ جيدا، فقد مرّ على العراق إمبراطوريات كثيرة أين هي اليوم؟ كلها اندثرت ورحلت إلى غير رجعة، وبقي العراق صامدا شامخا حرا … وسيبقى العراق العربي كما كان حاملًا لواء الحرية، مدافعا عن حقه وعن أمته العربية، محافظا على هويته حتى يكتب له النصر بإذن الله.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

البنود ذات الصلة (بواسطة علامة)