يبدو أن لبنان سيكون أحد البلدان المستهدفة بما يعرف بـ”صفقة القرن”، ذلك أن “الصفقة” لا تستهدف تصفية قضية فلسطين فقط، وإنما إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين، التي يحتلها الكيان الإسرائيلي، بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية الأمريكية، بما في ذلك تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقطع الطريق على أي نهضة حضارية ووحدوية، وبما يعيد توجيه بوصلة الصراع في المنطقة من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع طائفي عرقي، تقف فيه “إسرائيل” إلى جانب الدول الحليفة لأمريكا، مقابل إيران وحلفائها في المنطقة.

وبالتالي تدخل لبنان دائرة الاستهداف، باعتبارها أحد بلدان الطوق المطلوب تطويع نظامها السياسي بما يتوافق مع السياسة الأمريكية، أو على الأقل بما يضمن تحييده وإفقاده فعاليته في معارضة “الصفقة”. وكذلك حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين على أرضه؛ سواء بتسهيل هجرتهم أم بتوطينهم من خلال منحهم الجنسية اللبنانية.

***

في الأيام الماضية، تزايد الحديث عن محاولات أمريكية لإدخال لبنان في الصفقة، وانتشرت أخبار أو “شائعات” عن اتصالات سياسية أمريكية وخليجية مع شخصيات وأحزاب لبنانية، لاستكشاف إمكانية تمرير الصفقة. وأن المدخل الاقتصادي والمالي يستخدم كمدخل للدفع باتجاهها؛ حيث إن المعاناة الهائلة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وتصاعد الدَّين القومي، والعجز الضخم في الميزانية، والإشكالات المعيشية المزمنة في الكهرباء وغيرها… كلها يمكن أن تجد حلاً بدعم أمريكي غربي خليجي؛ إذا ما أعطت الأطراف اللبنانية الفاعلة أو معظمها ضوءاً أخضر باتجاه متطلبات الصفقة، وهو ما ينطبق على إمكانية حل إشكالية التنقيب عن الغاز في الساحل اللبناني واستثماره وتصديره، دون اعتراضات أو عراقيل إسرائيلية.

ووفق ما تسرب من الخطة الأمريكية فسيتم تخصيص ستة مليارات دولار، وتنفيذ خمسة مشاريع لدعم الاقتصاد اللبناني، في إطار تنفيذ الصفقة.

وفي الوقت نفسه ثمة إشارات بترك منظومة الحكم في لبنان تغرق في مشاكلها وأزماتها الاقتصادية إن لم تتجاوب مع المتطلبات.

يمكن تلخيص ما هو مطلوب لبنانياً في نقطتين:

النقطة الأولى: إيجاد بيئة سياسية موافقة على “الصفقة”، أو على الأقل ليست عثرة في وجه إنجاحها أو تمريرها.

وفي هذا الإطار تُطرح المسائل المرتبطة بـ”التطبيع”، والتعامل مع سلاح المقاومة (لبنانياً وفلسطينياً) وإخراجه من معادلة الصراع مع العدو الصهيوني، أو تحييده بحيث لا يكون مستقبلاً عنصر قلق للكيان الإسرائيلي.

وبالطبع فالاتصالات والزيارات الأمريكية الخليجية تصب بهذا الاتجاه… غير أن البيئة الشعبية العامة ترفض التطبيع، كما ترفض المساومة على سلاح المقاومة إذا تعلّق الأمر بالصراع مع “إسرائيل”، وإن كانت هناك قوى وتيارات لبنانية وازنة ترى ضرورة تنظيم سلاح المقاومة وتحييده عن السياسة الداخلية اللبنانية.

وبالرغم من الضغوط المالية الكبيرة التي يعاني منها “حزب الله” ( باعتباره القوة الأساسية للمقاومة في لبنان) إلا أن قدرته على الصمود، ووزنه الكبير في صناعة القرار السياسي اللبناني، مع وجود قوى أخرى لبنانية من مختلف الطوائف تدعم خط المقاومة وترفض التطبيع، تجعل إمكانية تمرير الرغبات الإسرائيلية الأمريكية أمراً مستبعداً… حتى لو جرت محاولات متزايدة لتصعيد الأزمات المعيشية والاقتصادية اللبنانية.

أما خيار الحرب الإسرائيلية (المدعومة أمريكياً) على لبنان لمحاولة تطويعه، وإخراج سلاح المقاومة أو حزب الله من المعادلة السياسية، فهو خيار مستبعد على الأقل في الظروف الراهنة أو المدى المنظور. حيث لا يبدو صانع القرار الإسرائيلي جاداً في اللجوء إلى هذا الخيار نظراً لأثمانه الباهظة، مع احتمالات الفشل العالية في تحقيق الأهداف، ووقوع خسائر كبيرة عسكرية واقتصادية إسرائيلية، نتيجة قدرة المقاومة على استهداف التجمعات والمناطق الحيوية الإسرائيلية في كافة مناطق الاحتلال.

ولذلك، فقد يُفضِّل الأمريكان الاستمرار في الضغوط السياسية الاقتصادية على الجانب اللبناني لتحصيل أفضل ما يمكن تحصيله، دون الدخول في حرب، ودون التسبب في الوقت نفسه، في انهيار الحكم في لبنان ودخوله في الفوضى، لأن هذه الحالة ستنعكس سلباً على الكيان الإسرائيلي بإمكانية انفلات السيطرة على الحدود، واحتمال تصاعد عمليات المقاومة…

النقطة الثانية: تفكيك قضية اللاجئين الفلسطينيين، من حيث توسيع وتسهيل هجرة ( بالأحرى نزيف) اللاجئين الفلسطينيين من لبنان؛ وإعطاء الجنسية في نهاية الأمر لنحو مائة ألف فلسطيني، وتفكيك المخيمات الفلسطينية، ونشر سيطرة الدولة على المخيمات، ونزع أسلحة القوى والفصائل الفلسطينية.

ولعل الإعلان عن نتائج الإحصاء الرسمي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وأنهم بحدود 174 ألفاً، مع إدراك أن عدد المسجلين كلاجئين فلسطينيين لدى الأونروا في لبنان يصل إلى 550 ألفاً، مما يعني أن معظم هذا العدد قد غادر لبنان بشكل مؤقت أو دائم، حتى وإن حافظ على اسمه في سجلات اللاجئين… وهو يعطي في الوقت نفسه إيحاء بأن المقاربة العملية لحلحلة قضية اللاجئين أصبحت أسهل منالاً، حتى لو كان الرقم الحقيقي للاجئين المتواجدين يزيد عن نتائج الإحصاء ببضع عشرات من الآلاف.

وقد يكون توفير تسهيلات في موضوع الجنسية أحد المخارج الهادئة في عملية “التوطين” كتجنيس المتزوجين من لبنانيات وأبنائهم، أو تجنيس من لم يُجنّس من المسيحيين الفلسطينيين، أو تجنيس أصحاب رؤوس الأموال… وغير ذلك.

وقد تتسبب المحاولات الأمريكية لإلغاء الأونروا وتجفيف مصادر تمويلها بضغوط كبيرة على الفلسطينيين وعلى الحكومة اللبنانية، وهو ما يجب التنسيق اللبناني الفلسطيني المشترك لمواجهته.

كما أن الدفع باتجاه نزع أسلحة المخيمات، دون توافق مسبق مع القوى الفلسطينية، ودون ضمانات حماية كافية للفلسطينيين، قد يؤدي إلى مواجهات مسلحة ونتائج مدمرة تضر بالطرفين اللبناني والفلسطيني.

بالرغم من أن بعض القوى تحت ضغوط وإغراءات مختلفة، قد تجد في الموافقة على التوطين مخرجاً من مآزقها ومآزق البلد السياسية والاقتصادية، وترى أن العدد المفترض توطينه يمكن “هضمه” واستيعابه في المجتمع اللبناني؛ إلا أن مثل هذا الطرح ما زال مستبعداً ويجد حالة واسعة من الرفض من كافة أو معظم القوى اللبنانية من الطوائف المختلفة. كما يواجه حالة رفض فلسطينية شاملة ما دام ذلك يعني بأي شكل من الأشكال التنازل في حقهم في العودة إلى بيوتهم وقراهم التي أخرجوا منها في فلسطين. وهو ما يعني أنه ما دام الطرفان اللبناني والفلسطيني يرفضان التوطين؛ فلا مجال عملياً لإنفاذه على الأرض.

***

إن “صفقة القرن” ليست قدراً، ويمكن إفشالها كما تمّ إفشال عشرات مشاريع التسوية على مدار السبعين سنة الماضية، طالما أن الشعب الفلسطيني متمسك بحقوقه. وإن فرص تطبيق “الصفقة” ذاتها فلسطينياً مستبعدة حيث يوجد إجماع فلسطيني على رفضها، كما أن فرص تطبيقها عربياً ليست سهلة بوجود أطراف عربية رافضة لحل قضية اللاجئين على حسابها كما في الأردن وسورية ولبنان. ثم إن عدداً من الأطراف العربية المحسوبة على المحور الأمريكي مترددة في تبنيها، ربما لأنها لا ترى فرص نجاح حقيقية لها، ولأن “الصفقة” مرفوضة على مستوى شعوبها، فضلاً عن أن “الصفقة” أقل بكثير من الحد الأدنى العربي الرسمي.

وبالرغم من أن الطرف الأمريكي يقوم بإنفاذ قناعاته، واستخدام نفوذه الدولي الهائل لتحويلها إلى حقائق على الأرض، إلاّ أن إصرار الشعب الفلسطيني على حقوقه ومن خلفهم العرب والمسلمون، يظل حجر الزاوية الذي ينزع الشرعية عن أي تصرف فوقي أمريكي إسرائيلي غربي.

ولعله آن الأوان أن تقوم القوى اللبنانية الرافضة للصفقة والرافضة للتوطين التي تشكل أغلبية واسعة، يمكن أن تشكل “حائط صدّ” موحد مع القوى والفصائل الفلسطينية، بما يغلق أي ثغرات يمكن أن ينفذ من خلالها الأمريكان وحلفاؤهم. ثم إنّ هناك حاجة كبيرة لبرامج سياسية وثقافية وإعلامية لنشر حالة من الوعي في الساحةاللبنانية تجاه مخاطر الصفقة، وعدم وقوع أي من الأطراف أمام المغريات أو التهديدات الأمريكية.

***

وأخيراً، فإن أفضل خطوة لقطع الطريق على “الصفقة”، وتجنب أي إشكالات قد تدفع إليها محاولات تطبيق الصفقة، هي في المسارعة بتوفير الحقوق المدنية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية للفلسطينيين في لبنان، وتوفير حياة كريمة لهم. وهو أمر لم يعد صعباً في ضوء إقرار الأطراف اللبنانية بمعظم هذه الحقوق ( إن لم يكن كلها) في الوثيقة التي وقعتها هه الأطراف، والتي صدرت عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني في كانون الثاني/ يناير 2017. وأوجدت بشكل عام مخارج وحلول معقولة لتنظيم التواجد الفلسطيني في لبنان.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top