يثير التدخل الدولي في ليبيا لمكافحة الإرهاب نقاشاً كثيراً حول فرص حدوثه، وخصوصاً في ظل تكرار المطالبة بالتدخل العسكري والأزمات التي تواجه الدولة والحكومة المرتقبة، وهذا ما يشير إلى وجود توجهاتٍ لإعادة تقييم الوضع السياسي في ليبيا، بعد المشكلات المحيطة بالحكومة وتزايد الخلافات حول "الاتفاق السياسي"، ما يشكل تحدياً لشن حرب على الجماعات المسلحة.
ومنذ تشكيل مجلس الرئاسة في 16 ديسمبر/كانون الأول 2015، لم تستطع حكومة التوافق الخروج من الأزمات البسيطة، فقد مر تشكيل الحكومة بمراحل، كشفت عن التناقضات الداخلية في المجلس الذي تشكل على قاعدة المحاصصة المناطقية والجهوية. ولم تعد هذه الجزئية مشكلة بحد ذاتها، حيث كشفت محاولات "مجلس الرئاسة" لإعادة تشكيل الحكومة، وفق رؤية "مجلس النواب" عن أن الخلاف الأساسي يدور حول غياب خليفة حفتر عن التشكيلة الأولى، وليس فقط تقليص عدد الوزارات، وثمة احتمال أن تشكل هذه الممارسات ضغوطاً تطيح "الاتفاق السياسي"، لن تتوقف عند تعطيل المادة (8) من الأحكام الإضافية، لكنها تتجاوزه، لاعتباره نصاً تفاوضياً ولا يمثل وضعاً دستورياً، ولعل الإشكالات المحيطة بهذه الجوانب تضع ليبيا في حالة سيولة تشريعية، يظهر فيها النزاع حول المرجعية الدستورية.
تواجه حكومة فايز السراج تحديات، في مقدمتها تحدي السيطرة على الدولة، وتسيير شؤونها، ما يثير الجدل حول شرعية الحكومة واستيعابها للأطراف الليبية، ويزداد تفاقم مشكلة الشرعية مع الضغوط الدولية، تحت دعاوى مواجهة التنامي السريع لـ" الدولة الإسلامية في ليبيا" (دال)، باعتبارها أكبر منظمة جهادية بعد الاستيلاء على سرت. وإذا كان التركيز الدولي منصباً على مخاطر "الدولة الإسلامية" في ليبيا، فإن وجود أطراف أخرى لم تندمج في الاتفاق السياسي سوف تكون ضمن أهداف التدخل الدولي، ليس فقط الفئات المصنفة وفق قرار مجلس الأمن 2213. ولكن، أيضا التشكيلات المسلحة المنضوية تحت المؤتمر الوطني والتحالفات الموالية لـ "فجر ليبيا"، ما يجعل خريطة الصراعات معقدة، ويشكل حالة من غياب الدولة والسلطة.
وتركز المواقف الأوروبية والأميركية على مخاطر الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وتعتبر أن وجود حكومة موحدة يشكل واحداً من مسارات مكافحة الإرهاب، حيث إن حالة الانقسام في ليبيا توفر مناخاً خصباً لتنامي التنظيمات المسلحة والإرهابية. ولذلك، يدعم الاتحاد الأوروبي تشكيل حكومة الوفاق الوطني، لكن ثمة قلقا من تباطؤ مسار تشكيلها، فيما تتفاقم فوضى السلاح. وإزاء هذه المشكلة، تظهر دوافع التدخل لمحاربة التطرف والإرهاب.
وقد اتسمت قرارات مجلس الأمن حول ليبيا بمنح فرصة لدعم السلام ورفض التوجهات التدخلية لجامعة الدول العربية، وقد ارتكزت هذه القرارات، على اختلاف مصالح الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لكن مع تقارب روسيا والولايات المتحدة في الأزمة السورية، تتزايد فرص التفاهم على تعاون مشترك لإدارة الأزمة الليبية، لكن المعضلة التي تواجه الدول الكبرى تكمن في اعتبار المسار العسكري بديلاً عن المسار السياسي، خصوصاً بعد الاقتراب من تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وتأرجح الخلافات حولها، كما أن فشل العملية السياسية سوف يجعل تحالف "فجر ليبيا" أقل تأثيراً في المشهد السياسي.
وعلى الرغم من حديث الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن تهديد تنظيم الدولة، يتصاعد الجدل حول فرص نجاح التدخل العسكري لمساعدة الحكومة في بسط سيطرتها. وهنا، تشير خبرة الصراع المسلح، خلال السنوات الماضية، إلى أن غياب قوة صلبة على الأرض يضعف جدوى التوجه نحو التدخل العسكري، وخصوصاً في ظل تشتت الجهات الأمنية والعسكرية، ما يقلل فرص التأثير في مجريات السياسة الليبية.
ولعل القيد الأساسي على الإعلان المتكرر للتدخل ضد "الدولة الإسلامية في ليبيا" (دال) يرتبط بوجود حكومة منبثقة من الاتفاق السياسي، وتحظى بالشرعية، وقادرة على الاضطلاع بمهامها، غير أن المؤشرات الأولية توضح أن حكومة التوافق صارت جزءاً من الأزمة، ولا يتوقع أن تحقق إنجازاً في المدى القريب.
وعلى المستوى الإقليمي، يمكن اعتبار رفض البلدان المغاربية والاتحاد الإفريقي من كوابح التدخل
العسكري، فقد كان تأثير هذه المجموعة واضحاً في دعم المسار السياسي طوال فترة الحوار الوطني، ولعل احتضانها أطراف الحوار يكشف عن عوامل جوهرية في التعامل مع الأزمة الليبية، كان أهمها متمثلاً في أن دول المغرب العربي تحظى بتوافق ليبي، ساهم في جعل تهدئة الخلاف حول مقر انعقاد الحوار حلاً بديلاً عن انعقاده داخل ليبيا أو في أوروبا. كما تتأثر السياسات تجاه ليبيا بوجود تنافس واختلاف في المواقف بين مصر والجزائر، يفرض قيوداً على التدخل العسكري. وبغض النظر عن موقف مصر من الأزمة في ليبيا، لا يتوقع أن تلعب دوراً مباشراً، لكنها يمكن أن تعمل على الحفاظ على تأثيرها وتحالفاتها داخل ليبيا، حيث أي تدخل سوف يكون في إطار ترتيبات إقليمية ودولية، ما زالت تواجه تعقيدات كثيرة.
وقد شكل انحياز البرلمان لعملية الكرامة، وطلبه التدخل الدولي نقطة محورية في السياسة الليبية، وكما ذهبت تقارير كثيرة عن تلك الفترة، ومنها تقرير "المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات" (LOOPS) لعام 2015، وخلصت فيه إلى أن ابتعاد "مجلس النواب" عن الاتجاه التوافقي ساهم في تعزيز الأزمة السياسية. وهنا يمكن القول إن رفض تشكيلة الحكومة هو امتداد للتقارب مع عملية الكرامة، ورفض استبعاد حفتر من المشهد السياسي، فحجة كثرة عدد الوزراء لا تفسر وحدها الدوافع وراء إدخال مجلس الرئاسة في أزمة داخلية، سوف تظل آثارها ملازمة للحكومة.
ومنذ منتصف 2013، ظهرت خلافات حول المسار الانتقالي، كانت نتيجته الدخول في تعديلات دستورية وإجراء انتخابات تشريعية في يونيو/حزيران 2014، ترافقت مع تفاقم الصراع المسلح، وهي تطورات كشفت عن الوصول إلى حالة فراغ السلطة وهشاشة المؤسسات، وأدت، لاحقاً، إلى تصاعد تنظيم الدولة، ولعل المشكلة الأساسية هنا تتمثل في تسارع العنف، فيما تنحسر الحلول والمسارات السلمية، ما يشكل واقعاً معقداً أمام "الاتفاق السياسي"، وهو ما يفسر جزئياً أبعاد الخلاف حول تسمية وزير الدفاع، وأيضاً وزارتي الخارجية والمالية، فهذه الخلافات تعكس، في أحد جوانبها، تعارض الأولويات بين؛ العسكرية والمدنية، المؤسسية والفوضوية، المركزية والفيدرالية، وهذه المسائل يصعب حسمها في غياب الدستور، ومن ثم، فإن السباق الراهن هو لأجل بناء واقع يقيد الدستور.
وهناك جدل بأن ظهور حفتر، منذ بداية الثورة وصدور قانون العزل السياسي، شكل أرضية الانقسام، حيث دفع من كانوا جزءاً من نظام القذافي للعمل من خارج المؤسسات الانتقالية، وبشكل أدى إلى إضعافها وانقسامها، وكان اندلاع الصراع المسلح من النتائج المترتبة على تبلور الخلافات بين فريقين، لم يشعر أي منهما بالاطمئنان للمسار السياسي. لذلك، تزايدت عمليات منع التحول الديمقراطي بالتخطيط لانقلاب عسكري مستندة لدعم خارجي، كان المظهر الأساسي فيها دخول حفتر في تحالف مع الكتائب المسلحة للسيطرة على الجيش بعد سقوط القذافي، وتوسعت هذه التحالفات، لتشمل السيطرة على مطار طرابلس بعد سقوط القذافي.
ويرجع تكرار طرح فكرة التدخل العسكري إلى ضعف الدولة وسيطرة العشائر على الحدود، ما أحدث أوضاعاً غير قانونية عديدة؛ سواء في الأنشطة الاقتصادية وتجارة الأسلحة، كما أدى الصراع السياسي والعسكري إلى وقف خطط بناء الجيش والأجهزة الأمنية، وصارت الحكومة رهينة خيار تسليم المهام الأمنية إلى بعض المليشيات والكتائب المسلحة، وانحسار وجود الحكومة في الجنوب.
قوضت الانقسامات داخل الجيش فرص وجود قيادة موحدة تجمع مختلف المقاتلين، وهي انقساماتٌ تتفاقم على الخلفيات الجهوية والسياسية. ويمكن اعتبار الضربات الجوية من أوهام القضاء على "دال"، أو المجموعات المصنفة إرهابية، كما أن نشر قوات داخل ليبيا سوف يكون محفوفاً بالمخاطر. ولذلك، يمكن قراءة الجدل الحالي حول التدخل العسكري، من وجهة أنه بمثابة ضغوط لفرض حكومة التوافق والإسراع بتشكيلها، من دون توفير الشروط اللازمة لنجاحها، فما تزال السياسات الغربية تراهن على نجاح المسار السياسي.