تثير الاحتجاجات السياسية في إثيوبيا الاهتمام حول مستقبل النظام الفيدرالي، ليس فقط بسبب اندلاعها بعد مرور عام على الانتخابات البرلمانية، ولكن بسبب اندلاعها في مناطق جماعة الأورومو وبعض مناطق جماعة الأمهرا، وهو ما قد يمهد لحدوث اتساع نطاق الاحتجاج، ومن ثم، فإن المناقشات حول التطورات التي تشهدها إثثوبيا ترتبط بمدى تأثيرها في تركيبة السلطة، وقدرتها على تغيير النظام السياسي.
ومنذ أربع سنوات، ثار جدل حول مستقبل إثيوبيا بعد وفاة رئيس الوزراء السابق، ميلَس زيناوي، بسبب الفراغ السياسي، ليس فقط باعتباره الشخصية المحورية في تحالف "الجبهة الثورية" (EPRDF) الحاكم، ولكن باعتباره مؤسس النظام السياسي القائم على الفيدرالية الإثنية، كما ساهم في تقوية السلطة المركزية للدولة، وترسيخ مكانة رئيس الوزراء ودوره في السياسة الإثيوبية، ومن ثم فإن مرور أربع سنوات يساعد على استشراف التغيرات المحتملة في السياسة الإثيوبية.
الفيدرالية الإثنية
اعتبرت "الجبهة الثورية" أن الفيدرالية تشكل حلاً ملائماً لمطالب "تقرير المصير" للقوميات. ولكن، منذ عام 1995، لم تؤدّ "الفيدرالية الإثنية" لتخفيف حدّة المسألة القومية، أو تدعم الإندماج الوطني، فبغض النظر عن الصعوبات التي يضعها الدستور أمام الحصول على حق تقرير المصير، تحولت الفيدرالية نحو نظامٍ يتسم بالتركز الشديد للسلطة، وتفاوت توزيع الثروة، وخضوع الجيش وجهاز الأمن لجبهة التغراي، والاعتماد عليها في تشكيل الأحزاب الإقليمية الموالية، وفي تفكيك أحزاب المعارضة
وفي مشوار بناء النظام السياسي، اتجه ميلَس زيناوي إلى تشكيل أحزاب قومية موالية له داخل جماعات السكانية المختلفة، وتشكل قوام هذه الأحزاب من المهمشين، فيما وقعت الأحزاب الأخرى تحت القمع والملاحقة، بحيث تمكّن، في النهاية، من صياغة تحالف حاكم (الجبهة الثورية) لا يستند لقاعدة شعبية في الأقاليم المختلفة. وقد أدت هذه السياسة، في نهاية المطاف، على بروز ظاهرة الشكوى من نتائج الانتخابات، والتوسع في قمع الحركات المعارضة.
ويقوم تحالف "الجبهة الثورية" على أساس تقسيم المناصب الرئيسية في الدولة، حيث أسند لمنظمة الأورومو رئاسة الدولة وإدارة إقليم الأورمو (4) وإقليم أديس أبابا (14)، فيما أسندت رئاسة الوزراء ورئاسة إقليم تجراي ورئاسة الجبهة الثورية لجبهة تجراي، أما قيادة الجيش فأسندت للحركة القومية الأمهرية، وقد ظلت هذه القاعدة حتى وفاة زيناوي، حيث تولى عضو جبهة جنوبي إثيوبيا ( دييسالين) رئاسة الجبهة الثورية، وبالتالي، رئاسة الوزراء، وهي المرة الأولى التي تشارك فيها الجنوبيون في المناصب الرئيسية.
على مدى عقدين، ظل زيناوي يشكل العمود الفقري لتماسك النظام السياسي الإثيوبي. ولكن، ليس واضحاً مدى قدرة خلفائه في السلطة وجبهة تغراي على ملء الفراغ السياسي، فكل من الرئيس أباي وولدو ونائبه وديبرتسيون جبرميكايل ترتبط خبرتهما بالمستويات القيادية بالتغيرات الداخلية التي حدثت في العام 2010، على الرغم من وجودهم في الصفوف الأولى وقت التمرد المسلح.
وعلى الرغم من انتقال السلطة بعد زيناوي سلمياً، يبدو أنه لم تحدث تحولاتٌ حقيقيةٌ في تركيبة
السلطة، فلم يؤد انخفاض عدد الوزراء من جماعة التيغراي إلى تغيير حقيقي، حيث ظلت المناصب المهمة في يد قادة جبهة تغراي (TPLF)، فمنصب رئيس الوزراء الحالي يعكس توازناً ظاهرياً في السلطة، لكنه، في حقيقته، غطاء لحكم أقلية التيغراي، فهو ينتمي لإقليم ولاياتا، والذي يقع على هامش المجتمع الإثيوبي، وهناك عامل آخر شديد الأهمية، يتمثل في أن ديسالين لم يشارك في مرحلة التمرّد المسلح ضد نظام منجستو. وبالتالي، ليس ضمن المجموعات التي شكلت النظام السياسي الراهن، وهو ما يضعف شرعيته السياسية، خصوصاً أنه ينحدر من خارج الشرعيات التلقليدية التي حكمت إثيوبيا من الأمهرا أو التغراي.
لم تؤد وفاة زيناوي إلى حدوث تغيرات جوهرية في التحالف الحاكم، وهي لم تؤثر على جوهر النظام السياسي، فعلى الرغم من استمرار هيلي مريام ديسالين رئيساً للوزراء، ظلت جبهة التغراي متنفذة داخل التحالف الحاكم، غير أن تركيبة النخبة الحاكمة اتجهت إلى توزيع السلطة، ما بين جبهة التغراي والشعوب الجنوبية، بسبب غياب القيادة الكاريزمية، فيما غاب التمثيل الحقيقي للمجموعات السكانية الأخرى.
انتخابات 2015
أسفرت انتخابات 2015 عن حصول تحالف "الجبهة الثورية" على جميع المقاعد التشريعية والمحلية، وترجع أهمية هذه الانتخابات في إثيوبيا إلى أنها تكشف عن فرصة استمرار النظام السياسي بعد وفاة ميلس زيناوي، وبعد مرور 25 عاماً على تأسيسه في 1995، وذلك من وجهة انعكاسها على تماسك "الجبهة الثورية" وفرص التنافسية الحزبية، فهذه النتيجة هي امتداد لحقبة زيناوي، لكنها جاءت في سياق غياب الزعامة الحزبية.
وقد ساعدت سيطرة الجبهة على أجهزة الأمن والجيش في زيادة إدراكها تهديد المعارضة. ولذلك، أدارت الانتخابات وكأنها معركة عسكرية، سعت، من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف؛ في مقدمتها تذكير الجماهير بعدم قدرة المعارضة على الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، وأنه لا فرق بين الانتصار العسكري والانتصار الانتخابي، وأخيراً، أن إصرار جبهة تغراي على وحدة الدولة، يجعلها محط استهداف خصومها.
كما اتجهت جبهة تغراي إلى تدريب مسلحين في المناطق التي تواجه فيها معارضةً شديدةً مثل الأمهرا والأورومو، حيث وضعت إستراتيجيتها الانتخابية على فرض قيود على مشاركة الأحزاب، سواء باستبعاد الحركات المسلحة أو تطبيق القيود الواردة في قانون الانتخابات وتحذير الأحزاب من تقويض مصداقية الانتخابات أو الاستيلاء على السلطة،، وعادةً ما يرافق الانتخابات إشاعة جو من الإكراه، كاعتقال مسؤولي الأحزاب وإغلاق مكاتبهم حتى انتهاء التصويت، وتهديد الناخبين بمصادرة أملاكهم إذا صوّتوا للمعارضة.
وبسبب اتساع انتشار حزب اتحاد الديمقراطية والعدالة (UDJ) في النصف الثاني من العام
2014، سعت جبهة تغراي إلى تشكيل حزب بالإسم نفسه، وهو ما اتخذته ذريعة لمطالبة "الهيئة الوطنية للانتخابات" بحظره، بعد انتشاره في مدن عديدة على مستوى الدولة، وصار يشكّل التهديد الرئيسي لجبهة تغراي، وقد اتخذت الحكومة قرار الحظر، على الرغم من اعتراض رئيس الوزراء وبعض القادة في منظمة الأورومو (OPDO) والحركة القومية الأمهرية (ANDM)، وهم أعضاء تحالف الجبهة الثورية، ويرجع اعتراضهم إلى الطابع السلمي للحزب، كما يحتفظ عديدون من أعضاء مجلس الوزراء بعلاقات ودية مع قادة (UDJ)، ما يعكس اتساع نفوذه في النخبة السياسية، بما يؤهله للقيام بدور سياسي يهز سيطرة جبهة تغراي على مجلس الوزراء، ويمكن ملاحظة أن هذا الاختلاف داخل "الجبهة الثورية" يكشف وجود هامشٍ من اختلاف السياسات العامة تجاه إدارة الانتخابات والعلاقة مع أحزاب المعارضة.
كما حاولت الحكومة الإثيوبية تحييد الحركات المسلحة في أثناء الانتخابات، وفي 9 فبراير/ شباط 2015 انعقدت محادثات سلام بين الحكومة الإثيوبية ومسؤول العلاقات الخارجية للجبهة القومية لتحرير الأورومو (ONLF) في نيروبي (كينيا)، بهدف حل الصراع في إقليم الأورومو، ومنح إقليم أوغادين "حق تقرير المصير"، وهذا ما أثار أسئلةً حول العوامل وراء انعقاد هذه المحادثات، وما إذا كانت "الجبهة الوطنية للأورمو" تسعى إلى الانفصال.
التنمية في إثيوبيا
وخلال السنوات الخمسة الماضية، تمكّنت الجبهة الثورية من مضاعفة معدل النمو الاقتصادي، وقد ذكرت البيانات الحكومية أن إثيوبيا حققت نمواً متسارعاً في التنمية الإنسانية، حيث ضاعفت الدخل القومي وطورت البنية الأساسية، وبلغ نمو الاقتصاد الإثيوبي 10% في عام 2014. وفيما يتعلق بالطاقة، مدّت الحكومة ربع السكان بالكهرباء في 2010 ، وتخطط الحكومة لإمداد 75% من السكان بالكهرباء بحلول 2017، بحيث تعطي دفعة للتنمية الاجتماعية وإيجاد فرص العمل والتجارة، مع التركيز على المناطق الريفية، لتكون إثيوبيا في طليعة البلدان الإفريقية في إنتاج الكهرباء، وتصديرها إلى جيبوتي وكينيا والسودان، وفي الوقت نفسه، تعمل على توسيع قطاع النقل الإقليمي.
ووفقاً لأفكار التنمية الموجهة، جاءت تقارير إثيوبية على بلوغ النمو الاقتصادي 7.5%، غير أنّ صندوق النقد يشكّك في البيانات التي تنشرها المؤسسات الإثيوبية، حيث يرى أن الحكومة لم تحقق إنجازات في البنية الأساسية أو الطرق والسكك الحديدية، كما أنه، على مستوى السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وبغض النظر عن الجدل حول خفض نسبة الفقر، تبدو الفجوة كبيرةً بين الموالين لجبهة التغراي والإثيوبيين الأخرين كبيرة وواسعة، وهي ترتبط بتهجير الأورومو من أديس أبابا والفساد ، وهي أسباب كافية للتظاهر. ولكن، لا تبدو مؤشراتٌ على قدرتها على إزاحة التغراي عن السلطة.
الحلفاء الغربيون
تواجه إثيوبيا والدول الغربية تحدّي الفراغ فترة ما بعد زيناوي، حيث شكّل وجوده في السلطة ضماناتٍ كافيةً لاستقرار السلطة وفرض سطوتها، ويبدو القلق تجاه استقرار إثيوبيا لدى الولايات المتحدة وبريطانيا، فيما أن الدول الأخرى؛ في غرب أوروبا والصين، تحرص على تطوير علاقاتها الاقتصادية والسياسية.
وفي ظل التطورات الحالية، اعتبرت السفارة الأميركية (8 أغسطس/ آب 2016) أنّ اتساع
الاحتجاجات في مناطق الأورومو والأمهرا وبعض المناطق الأخرى سوف يؤدي خسائر في التنمية الاقتصادية والتوتر الاجتماعي، حيث رأت بإمكانية تطور الاحتجاج الشعبي بعد دعم الأحزاب السياسية للحوار الشامل والحلول السلمية، وخلصت ملاحظات الأميريكية إلى أنه من الضروري احترام مطالب المعارضة، وتمكينها من التعبير عن رأيها، بشكل عام. ليست هذه المرة الأولى التي تنتقد فيها الحكومة الأميركية السياسة الإثيوبية، وكانت انتقادتها عنيفةً بعد انتخابات 2005، لكنها، هذه المرة، تكتسب أهمية كبيرة، ليس فقط من وجهة أن الانتقادات أشارت إلى الاحتجاجات في إقليم الأمهرا ذي الأغلبية المسيحية، ويشكل الجزء الأهم تاريخياً في إثيوبيا. ولكن، لأن الولايات المتحدة تشكل الداعم الرئيسي للحكومة الإيثوبية، حيث تساهم بـ 40% من المساعدات الدولية (3.4 مليار دولار)، ما يتيح لها مزيداً من النفوذ في الشؤون الداخلية، استناداً لمساهمتها في إطاحة نظام منجستو، ودعم جبهة تغراي في الاستحواذ على السلطة منذ 1992، وبالتالي، فإن الانتقادات الأميركية يمكن أن تفتح الطريق أمام فكرة إعادة توزيع السلطة وإجراء تغييرات في النظام السياسي.
وبشكل عام، تشير التفاعلات السياسية إلى تراجع فرص ظهور منافسين للجبهة الثورية، أو التمرد عليها، وكان من اللافت، في انتخابات 2015، حدوث تراجع حاد في المطالبة بحق تقرير المصير وانحسار النزعات الانفصالية، وهو ما يمكن تفسيره من مدخلين؛ الأول، حيث لا تتمتع الانتخابات بالحرية الكافية لطرح برامج سياسية، تتصدى لمطالب تتعلق ببنية الدولة أو النظام السياسي.
أما المدخل الثاني، فقد رسخت نتائج الانتخابات، على مدى خمس دورات، التوجه نحو نظام الحزب الواحد، فيما يتسارع تفكّك تحالفات المعارضة وأحزابها، لكن أسباب التوتر تظل كامنة ومثيرة لعدم الاستقرار، فالمعضلة التي تواجه تحالف "الجبهة الثورية" تتمثل في أن الأحزاب المنضوية تحت مظلته تحظى بمصداقية قليلة داخل مناطقها، ما يثير أزمة شرعيتها، وهو ما يلقي أعباء إضافية على التحالف الحاكم، بسبب تراجع احتمالات الانتقال السلمي الديمقراطي، ما يدفع إلى استمرار حركات معارضة عديدة في العمل المسلح، وخصوصاً في ظل حشد موارد الدولة لصالح إقليم تغراي وبعض الأقاليم الصغيرة.
نقلا عن العربي الجديد (http://goo.gl/esjBiq)