التقرير الإستراتيجي الفلسطيني لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018
يتناول التقرير أبرز القضايا الإستراتيجية التي تتعلق بالقضية الفلسطينية على الصعيد الداخلي والخارج والعلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي.
الوضع الفلسطيني الداخلي
حمل شهر تشرين الثاني نوفمبر من العام الحالي، مجموعةً من التطورات على الصعيد الداخلي الفلسطيني، التي في معظمها تعمقت أو راوحت المكان دون تقدمٍ جوهري، وتنوعت تلك التطورات بين ما تعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني، وملف المصالحة، وكذلك الشأن الاقتصادي الفلسطيني. وما زالت أبرز العقبات على الصعيد الداخلي تلك المرتبطة بتعارض مساري التسوية والمقاومة، وتحديد أولويات المشروع الوطني الفلسطيني، وطرق إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، وبصياغة برنامج سياسي متناسب مع طبيعة المرحلة، وبالقدرة على استيعاب وتفعيل طاقات وإمكانات الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل.
أولاً: جلسات الحوار وملف المصالحة
استأنفت جلسات الحوار بين الفصائل الفلسطينية في القاهرة، والتي لم تتوقف تقريباً منذ العام 2017م، إلى جانب التباحث في ملف التهدئة مع إسرائيل، وتحقيق المصالحة بين حركي فتح وحماس بوجود الفصائل الفلسطينية الأخرى.
ولا يظهر أنَّ الحوارات التي جرت ما بين الفترة (22-26/11/2018) قد نتج عنها إحداث اختراق حقيقي في ملف المصالحة، فالعقبة الأساسية التي دارت الحوارات حولها، تمثلت في مطالبة حركة فتح والسلطة الفلسطينية بضرورة استلام حكومة التوافق الفلسطيني لكامل الملفات في غزة، في الوقت الذي ترى فيه حماس أن ذلك ممكناً دون التطرق إلى سلاح المقاومة أبداً.
حوارات القاهرة، ما زالت تراوح المكان استراتيجياً، بسبب الاختلاف بين برنامجي المقاومة والتسوية، وبسبب إصرار السلطة الفلسطينية على ضرورة تسليم كل الملفات بغزةِ لها في إطار ما أطلقت عليه "التمكين"، حيث تريد معالجة القضايا بمعزلٍ عن حركة حماس إلاّ بالملفات الإدارية والإنسانية، وما زالت تُطالب بأن تكون منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وضرورة انضواء حماس تحت لواء المنظمة حيث يمنحها ذلك قدرة المناورة مع الجهات الدولية بحجة توحد الفلسطينيين، الأمر الذي ما زالت ترى فيه حماس أمراً صعب الحدوث دون، إجراء إصلاحاتٍ حقيقية على المنظمة. لذا يتوقع مع قرب نهاية العام الحالي، أن يبقى ملف المصالحة عالقاً، خاصة في ظل تراجع قدرة منظمة التحرير عن احتواء الكل الفلسطيني، ففي العام 2018 عقدت ثلاثة اجتماعات للمجلس المركزي، قاطعتها الجبهة الشعبية وقاطعت اثنين منها الجبهة الديمقراطية، مما يعني أنّ أمر حسم ملف المصالحة يزداد صعوبةً، إذا لم يتم إدخال إصلاحات هيكلية حقيقية على منظمة التحرير الفلسطينية، تُمكنها الإمساك بزمام الأمور، وتجعل منها المظلة الجامعة للكل الفلسطيني.
ثانياً: قانون الضمان الاجتماعي
جاء قرار الحكومة الفلسطينية في رام الله بتفعيل تطبيق الضمان الاجتماعي، ليفرض نفسه على الشأن الفلسطيني الداخلي، فمنذ الإعلان من قبل الحكومة عن بدء تنفيذه خلال شهر نوفمبر، تحركت الاحتجاجات الشعبية والمواقف النقابية[2]
القانون أُقر في وقت يرى فيه الشارع الفلسطيني أنّه بحاجة لضامن، في ظل عدم الاستقرار في الوضع الاقتصادي للسلطة الفلسطينية، وفي غياب آلية واضحة لتعريف المواطن به قبل إقراره، وقد زاد حجم الاحتجاجات الأخيرة بعد أن انضمَّ العمال إلى موظفي القطاع الخاص الذين قادوا الاحتجاجات في بدايتها.
قانون الضمان الاجتماعي، رغم أن معمولٌ به في دول العالم، إلا أنَّ الحالة الفلسطينية، مختلفة بأبعادها وحيثياتها، من حيث عدم الاستقلال، ووجود الاحتلال، وغياب قناعة المواطن الفلسطيني بإمكانية حماية المؤسسات الفلسطينية لحقوقه، وهو ما أفرز بشكل أساسي تلك الاحتجاجات، بالإضافة إلى بعض البنود المجحفة التي اعتمدها القانون، والتي منها، عدم شموله للفئات المهمشة التي تتقاضى أجراً أقل من الحد الأدنى للأجور، أو الفئات التي تعمل أقل من 16 يوماً بالشهر، والعمال اللذين لا يتقاضون رواتبهم عبر البنوك وغيرها.
قانون الضمان الاجتماعي يُشكل بصيغته الحالية تعميقاً للشرخ في الشارع الفلسطيني، خاصة أنَّه يأتي في ظل ظروف اقتصادية صعبة، ويعمل على صرف نظر الفلسطيني عن واقع الاحتلال الإسرائيلي، لأنَّه يصعب عليه الحصول على ما يؤمن اقتصاده، هنالك أولويات أخرى يفترض أن تعمل الحكومة الفلسطينية على حلها، وقضايا أكثر أهميةً من قانون الضمان الاجتماعي، وفي ظل عدم توصل الحكومة والقطاعات المناهضة للضمان إلى حل وسط، يتوقع في الأسابيع القادمة أن تتوالى الاحتجاجات على القانون.
الوضع الفلسطيني على الساحة الإقليمية والدولية
أولاً: تنامي التطبيع العربي مع إسرائيل
العلاقة العربية مع إسرائيل ليست حديثة، فقد كانت علنية مع بعض الدول منذ زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، وتوقيع كامب ديفيد، وبعدها تتابع تطوير العلاقة مع تلك الدولة، وأعلنت إسرائيل أكثر من مرة أنَّ لها علاقات جيدة مع أطراف عربية عدة دون ذكر أسمائها، منذ تسعينات القرن الماضي اختارت إسرائيل مصطلح التطبيع لوصف تلك العلاقات، وأصبح المتعارف عليه لتوصيف العلاقة معها.
فلسطينياً يُمكن القول أن هناك ارتباطاً فلسطينياً بإسرائيل أبشع صوره تتضح من خلال التنسيق الأمني، وأقلها تظهر في التنسيق المدني الذي يأتي بحكم كونها سلطة احتلال مقيت، لكنَّ الأشهر الأخيرة من العام 2018 تجلت صور التطبيع مع الجانب العربي بشكل كبير وبقوة، وبرز ذلك من خلال زيارة الرئيس الإسرائيلي لبعض الدول العربية، ومشاركة الوفود الرياضية والثقافية الإسرائيلية في العديد من الأنشطة التي تم إقامتها عربياً.
يشكل تنامي العلاقة العربية مع إسرائيل خطراً حقيقياً على القضية الفلسطينية، خاصةً في ظل وجود حكومةٍ متطرفة في إسرائيل، تدعمها حكومة أمريكية متطرفة كذلك في سياستها، ويظهر مقدار تلك الخطورة في صفقة القرن التي وافقت عليها دول عربية عدة ودعمتها كالعربية السعودية، وكنتيجة لهذا التطبيع أعلنت إسرائيل الشهر الماضي عن نيتها العزم بالبدء في تنفيذ مشروع سكة قطار يربط السعودية وبعض الدول الخليجية بإسرائيل، أطلقت عليه الأخيرة "قطار السلام"، ورصدت له ميزانية أولية للبدء بتنفيذ مخططاته من ميزانية العام 2019م.[2]
إن تنامي التطبيع العربي بهذا الشكل يعني بالدرجة الأساس كسراً لكل آليات مقاطعة التطبيع معها، ويعني مزيداً من المشاريع العملاقة بين الأطراف المعنية، وهو ما يضمن لإسرائيل عدم قدرة الأطراف العربي على مواجهتها في أي تطور سلبي لعلاقتها مع الفلسطينيين نظراً لتلاقي المصالح، هذا التطبيع يعني تنفيذاً لإسرائيل الكبرى اقتصادياً والذي أشار له ووضح صورته شمعون بيرس في كتابه شرق أوسط جديد عام 1993م، وتبناه نتنياهو وحكومته.
ثانياً: إدخال الأموال القطرية لغزة
مع تزايد الحصار والخناق على قطاع غزة، وتعمق الانقسام الفلسطيني، وفي إطار البحث عن آليات لإدخال الأموال لغزة، بدأت قطر في نوفمبر بإدخال الأموال لغزة عبر معبر رفح، من خلال رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة السفير محمد العمادي، وتابعت ذلك الشهر الجاري، وتعتبر قطر نفسها ملتزمةً بتحسين الوضع الاقتصادي في قطاع غزة.[2]
تدحرجت الأزمة فقامت إسرائيل بتكثيف قصفها جواً وبحراً، لترد فصائل المقاومة بإطلاق صورايخها، تبعات ما جرى أجبر نتنياهو على العودة قاطعاً زيارته لفرنسا لمتابعة الوضع عن كثب، وبعد العودة تم منح الجيش الإسرائيلي ضوءاً أخضر لمواصلة عملياته، مما أجبر فصائل المقاومة في غزة على الرد، حيث أظهرت أنَها قادرة على المواجهة في المرحلة الحالية من خلال صواريخها التي طالت مناطق متعددة، واستهدافها لحافلة جنود إسرائيليين، وأوضحت أنَّ ردها لا يأتي في إطار فردي، وإنّما منظم من خلال جهدٍ جماعي على رأسه غرفة عملياتٍ مشتركة تتبنى التوجيه والتخطيط.
تسارع الأحداث أدخل جهات أخرى على الخط، لتدارك انفلات الأمور، ليتمكن الجانب المصري بعد أيام من المواجهات، التوصل إلى تهدئة ما بين فصائل المقاومة وإسرائيل، حيث أكدت الفصائل أنّها ملتزمةٌ بالتهدئة ما دام الاحتلال ملتزماً بها.تطور الأحداث الأخيرة في قطاع غزة، والتوصل إلى إنهاء لها، ومنع انجرارها لحرب كما في العام 2008 و2014، له أسبابه إسرائيلياً، وأهم ذلك ما تكشف مؤخراً عن أنفاق لحزب الله على الجبهة الشمالية، وعدم يقين إسرائيل من أنَّها قادرة على حسم المعركة في قطاع غزة إلا من خلال مجازر جماعية قد تكلفها غضباً دولياً، أو خسائر في صفوفها قد تدخلها في أزمةٍ حقيقية داخلية تتضرر بسببها جبهتها الداخلي، لذا من المتوقع إستراتيجياً أن تُواصل إسرائيل إدارة الصراع مع المقاومة في الفترة المقبلة، حتى تستطيع التوصل لطريقة تضمن لها إنهاء الصراع مع المقاومة.
ثانياً: السيطرة المدنية على الضفة إعلامياً
منذ سنوات قليلة أقدم الاحتلال الإسرائيليعلى تعيين حاكم مدني للضفة الغربية، ومكتب نشط إعلامياً، يتولى الترويج لإسرائيل في مناطق الضفة الغربية والتواصل من خلال صفحات معتمدة له على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يدير تلك الصفحات مجموعة من ضباط وخبراء التجنيد وعلماء النفس الإسرائيليين.
أظهرت دراسة أجراها مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت عنوان "تأثير صفحات فيسبوك الإسرائيلية الناطقة بالعربية على الجمهور الفلسطيني– صفحة "المنسق" كحالة دراسية"، عدة نتائج كان أبرزها حصول صفحة المنسق الإسرائيلية على 76% تعليقات ايجابية و24% سلبية.وأوضحت الدراسة نجاح الخطاب السياسي الإسرائيلي بالتغلغل إلى الجمهور الفلسطيني، حيث قدم المستخدمون الفلسطينيون أعلى نسبة تفاعل في صفحة منسق ما تسمى "الإدارة المدنية" الاحتلالية، بنسبة 76%. ومن جانب آخر، حصدت الصفحة على أعلى معدل إعجاب من فلسطينيين بنسبة 69%، بينما حصلت باقي الدول العربية على أقل النسب.
وأكدت الدراسة عدم صدق "المنسق الإسرائيلي" بالتركيز على الجانب الإنساني كما ذكر في هدف إنشاء الصفحة بل ركز بالدرجة الأولى على الجانب السياسي فكانت نسبة المنشورات السياسية 207 والمنشورات الإنسانية 173.
وقال أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت ومشرف الدراسة محمد أبو الرب أن المنشورات التي حصلت على أعلى نسبة تفاعل هي المنشورات التي تحدثت عن بيع التصاريح وآليات جديدة لاستصدار التصاريح، مؤكدا أن تفاعل الجمهور على صفحة المنسق حقيقي بالرغم من وجود نسبة قليلة من الحسابات الوهمية.
في الشهر الماضي واصلت تلك الصفحات العمل بقوة خاصة في الجانب الإنساني الذي ترغب من خلاله في التسويق للحكم الاحتلالي في الضفة الغربية، عن طريق بث فيديوهات لمساعدة مرضى فلسطينيين في إسرائيل ومعالجتهم، أو منحهم فرصة العلاج في الخارج، علماً أن السلطة الفلسطينية هنا هي من تقوم بدفع التكاليف، وتقوم إسرائيل بأخذها من فاتورة المقاصة الضريبية.
هذه الصفحات لم تأتي عبثاً أو دون تخطيط، وإنما لها أهداف إستراتيجية متعددة، يتجلى أهمها في محاولة إسرائيل ترويج نفسها في الضفة، والتعامل المباشر مع الفلسطينيين، والتحكم بالجوانب الاقتصادية والحياتية لهم، بالإضافة إلى تجنيد المزيد من العملاء لصالحها، والتحضير لإعادة السيطرة على الضفة في حال حصل أي طارئ كحل السلطة أو ما شابه.
خاتمة
يتضح من استعراض القضايا الهامة التي مرت على القضية الفلسطينية خلال شهر نوفمبر2018، أننا مقبلون ربما على حالة تحول في العديد من المفاهيم السياسية والبنية الإقليمية والدولية التي قد تتغير معها بعض المواقف تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة في ظل الجهود المبذولة إسرائيليا لتعزيز حالة التطبيع العربي، إلى جانب الغطاء الأمريكي الواضح لسياسات الاحتلال على الأرض.
وعلى الرغم من ذلك، فما تزال القضية الفلسطينية بكل مكوناتها تفرض معادلتها على الأرض، وهو ما تمثل في التصعيد الأخير الذي حدث في قطاع غزة وانكشاف الوحدة الإسرائيلية الخاصة، وهذا ربما يدفع بالسؤال إن كانت نهاية العام 2018 ستطوي أوراقها دون أن نشهد تغيرات دراماتيكية على القضايا المحورية فلسطينياً؟
[1] مركز تطوير الإعلام، جامعة بيرزيت، أنظر: https://www.hal.birzeit.edu/single-post/2017/01/28/
[1] هدوء حذر في قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، فرانس 24، أنظر: https://www.france24.com/ar/2018
[2] الحرب الرابعة على الأبواب..توازن قوى جديد بين صواريخ المقاومة وتجارب تل أبيب، عربي سبوتينك، 13/11/2018م، أنظر الرابط:https://arabic.sputniknews.com/arab_world/20181
[2] الجزيرة، أنظر الرابط: http://www.aljazeera.net/encyclopedia/citiesandregions/2017/7/13/%D9%82%
[2] اقتصاد فلسطين، 10 مآخذ على قانون الضمان، أنظر: https://www.palestineeconomy.ps/ar/Article
[1] محسن صالح، "ما الذي أدى بالمصالحة الفلسطينية إلى أن تراوح مكانها"، الزيتونة للدراسات بيروت 5/12/2018، أنظر: https://www.alzaytouna.net/2018/12/06