بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة الى المجهول
قد لا يعلم من يجلس في داره متعاونا مع الاحبة والاصدقاء في مواساة اهالي الفلوجة الهاربين من العمليات العسكرية الى عامرية الفلوجة حيث المخيمات – انه قد يتفاجأ اذا ارى تلك المخيمات ومن يعيش فيها راي العين!
ان عموم الناس الداعمين والمهتمين والمتعاطفين لم يقتربوا ولو قليلا من تصور احوال النازحين وألامهم الا اذا بلغوا تلك البقعة الصابرة ، وسوف تتأسف على اوضاعهم التي تقراها على المجاميع ومواقع التواصل الاجتماعي اذا يسر الله لك زيارة تلك الارض الصفراء الساخنة واللاهبة اضعافا مضاعفة ، والتي طبعت لونها ولظاها على وجوه ساكنيها بؤسا وحزنا والما !
ولماذا اقتطع الكلمات والجمل وانا استطيع ان اسرد قصة رحلة الى المجهول !
كثير ممن زار تلك المخيمات وعاد يصف ما فيها مؤكدا ان الكلمات لا تصف ما راى ، ولربما انشات تلك الكلمات اهتماما لبعضهم لكي يشد الرحال الى ارض المخيمات الى ارض الصلاة والطاعة والعطاء ، وكثير ممن يود الذهاب قد يكون بين اقبال وادبار سعيدا وخائفا مما قد يكون هناك ...
ولربما من يقول ولم التردد والخوف ؟؟ انما هي رحلة مواساة واحدة من مئات الرحلات التي قامت بها تلك المنظمات العملاقة الاغاثية النسوية وغيرها ؟؟ ، ولكن السامع – والكلمات في احيان لها وقع الرصاص وسوط الجلاد – قد يسترجع ما يقال عن تلك المفرزة المرابطة على جسر بزيبز من عدم السماح لكل من يريد من عبور الجسر واذا عبر فلربما لا يسمح له بالعودة ، وكانه ينظر الى نفسه لابثا في الجهة الاخرى من الجسر له شان المهجرين من المنع والجوع والعذاب ممنوعا من العودة الى داره وحصنه ، ولكن متى ما ثبّته الله واختار له الاصلح حتى يمضى بحماسة في تلك الرحلة متالما وحزينا مما سيرى ويسمع .
تبدأ رحلتك الى عامرية الفلوجة حيث المخيمات ال29 والتي يقطنها اكثر من ربع مليون مهجر ونازح منذ اكثر من سنتين ، والتي امتلات مؤخرا بالناس والنازحين نتيجة الحملة العسكرية لتحرير الفلوجة من ايدي الارهاب داعش .
قد تشير نشرة الطقس الى يوم قائط تتجاوز حرارته ال47 مئوية وهو قد يكون يوما من ثلاثة ايام ينصح فيها بالجلوس في البيوت خشية الاصابة بضربة الشمس او ما شابهها من الامراض التي تاتي مع حرارة كهذه ، فاذا وصلت الى جسر بزيبز الشهير ويسر الله لك العبور بسيارتك فذلك نعمة من الله والا فان عليك ان تضعها في مرأب ثم تذهب فتقف في طابور وتؤشر اسمك ثم تعبر الجسر ماشيا حتى الجهة المقابلة وهناك تبحث عن سيارة تقلك الى المخيمات.
ولربما يحتاج جسر بزيبز الى توضيح ، لان كل الطروحات والتعليقات تبين ان هذا الجسر قد دخل التاريخ ، ففيه تم اذلال اهل الانبار النازحين والهاربين الى بغداد حيث الاهانة والمنع من الدخول والخطف والاعتقال والاختفاء ، فيه الرشاوي والمحسوبية والتهديد والابتزاز والاهانة لكل الاشخاص حتى لو كانوا نساءا او اطفالا محترما او وضيعا ، حتى اصبح هذا الجسر عنوان لمدخولات كبيرة للمراتب والضباط القائمين عليه .
انه البرنامج الطائفي بكل اشكاله ولنضرب لذلك مثالا – اذا كنت مؤسسة خيرية وتريد ان توصل الى المخيمات مواد ولوازم اغاثة فعليك ان تبلغ بسيارتك المحملة بالغذاء الطرف الاقرب الى بغداد ابتداءا ، فاذا تمت لك الموافقة بادخال المواد فعليك ان تستاجر سيارة حمل وظيفتها هو توصيل الحمل من طرف الجسر هذا الى طرف الجسر ذاك الاقرب الى مخيمات عامرية الفلوجة ومن ثم يتم تحميل الاغذية والاغاثة الى سيارة ثالثه لتوصيلها الى المخيمات ، اي انك عليك ان تتعامل بمبالغ اضافية عن سيارتين تبلغ اجورهما بين 75000 الى 125000 اي في حالة عبور 500 سيارة يوميا يعني ان هناك هدر بقدر 50 مليون دينار(40 الف دولار) بسبب المبرر الامني كل يوم يمكن ان تكون سببا في تحقيق اكتفاء لحفر عشرة ابار او 400 خيمة يوميا ، والمشكلة ان هناك تشابة في دعم المهجرين او الوافدين والزائرين في كربلاء والعمارة او ايران ولكن الاغاثة تصل الى داخل المخيمات ومواقع الايواء فيهما دون ان تتحول الاغاثة من سيارة الى اخرى .
التلفظ بالفاظ التمييز الطائفي وسب الصحابة واهل الانبار واتهامهم بالارهاب والدعشنة والبعثية هي سياق يومي يصبح عليه النازحون ويمسون ، وليس احد فوق الضرب والتعنيف والدفع والاحتجاز ولو كانوا نساءا او اطفالا ..
نعود الى الرحلة حيث تجد الازدحام والغبار واصوات الباعة على جهتي الجسر وكان الحياة هنا شيء اخر ، وكان العراق قد اوجد ارضا لا يعترف بها واخرجها الى جهة لا حياة فيها وقال هنا ارض الميعاد لمن سكن الفلوجة ومن خرج منها تبوءون بغضبي وسخطي فالامر لكم ثوبا ومأزرا .
تخرج من جسر بزيبز الى ارض المخيمات وفي الطريق كثير منها متناثرة ومجتمعة ، هذه مخيمات بزيبز وهذه مخيمات اكراد زوبع وهذه عشوائيات حتى تصل الى ارض مفتوحة تزدحم فيها الرمال مع الخيم وتزفر فيها اشعة الشمس حرارتها مع انفاس البشر وحركتهم .
ارض مفتوحة ممتدة على مسافة لا يرى لها نهاية ، تعوّد الناس فيها على التراب ولهيب الشمس ولكن يظهر فيهم الجَلد حيث تعودوا على البؤس والخوف والجوع والعطش ، لن تستطع الوقوف طويلا بين الناس لما تشعر به من حرارة وتراب وستأوي بين الفينة والفينة الى السيارة وتبريد مكيفها تعيد برمجة حرارة جسمك ودماغك التي بدات بالغليان كلما نزلت الى مكان تتامل فيه شان الناس واحتياجاتهم.
تسال اين الادارة فيشيرون الى موقع مزدحم في مكان ما هناك ! فان سالتهم فانهم سيشيرون لك بتركيز واطئ وبجواب مقتضب تجعلك تعلم ان الامور ليست كما ينبغي اداريا وانسانيا ، ولكن اذا خرجت من الادارة فسترى اطفال يملاؤون انية بلاستيكية من حفرة فيها بقايا ماء وطين ، وان ما يملاؤون من ماء موحل يضاهي ملامح هؤلاء الاطفال الصغار ووجوههم ، فان سالت عن الامر يخبرك رجال يتلفظون آلما ويرددون معاناة وشكوى من المسؤولين عن المخيم حيث يوجد بئر ماء منصوب وكامل ولكنه يفتقر الى الكاز والذي في حال توفره فان المولدة والمضخة تعملان بما يحقق احتياجات المخيمات المحيطة بالبئر والتي يمكن ان يتجاوز ساكنيها 2000 عائلة تستقي من هذا البئر .
فان تلفتت فسترى عجبا حيث قوالب الثلج يحملها الصغير والمراة والعجوز وغيرهم فتظن انها توزع مجانا فيخبرونك ان سعرها 1000 دينار ولكنهم يبيعونه بالفين الى اربعة الاف دينار للقالب الفارغ والذائب بسبب الشمس وسوء التصنيع ، ان المهجرين الذين لا يملكون مالا لانها اخذت منهم في طريق الهروب من قبل داعش او غيرهم من عصابات المحن لا يملكون هذه الالاف يشترون بها ثلجا لكي يشرب اولادهم ماءا باردا يكافئ حر الشمس وقيظ الصيف وحرارة الخيم ، فكيف بالحليب والدواء والاحتياجات الخاصة للنساء والاطفال والمرضى ؟؟
تكمل المشوار الى مخيم اخر ، فاذا بمجاميع من البشر من نساء وشباب واطفال يقفون امام شاحنة مواد غذائية اماراتية او قطرية او غيرها توزع الحصص ولربما استلم النازح اكثر من مرة ويفكر في بيعها لكي يشتري عوضا عنها شيئا مفيدا له ولعائلته ، في هذه الصحراء تجد الاصطفاف الطويل امام شاحنة غذاء والسعيد من يملك قصاصة من الورق موقع عليها من ادارة المخيم عليها اسمه وتوقيع المدير ، ولكن الغريب في الامر ان هناك صفوف من الناس تقف في الصحراء وبخط طويل ولكن ليس هناك سيارة او شاحنة غذاء ، ليس هناك الا الامل بان يكون امامهم بعد ساعة او ساعتين سيارة تحمل طعاما او مؤونة ، وهذا كل يوم ! وهكذا ينشغل الناس هناك ! وهكذا تدور بالناس الامور حتى وكان الشمس بردا والتراب نسيما ؟؟ اين الحقوق الانسانية لهؤلاء البشر واين المنظمات التي تبكي على مصير الحيتان والقطط والسحالي والتماسيح ، اين المتطوعين من المنظمات الاجنبية والاوربيين الذين تُذكر لهم افضال في افريقيا وجنوب شرق اسيا حيث الجوع والفقر من هذا الوضع المؤلم والماساة المروعة .
تسير بك السيارة قليلا فاذا بكرافانات مصطفة بشكل مستقيم وقد اكتمل منها عشرة او عشرون والباقي تنتظر الاكتمال ، ولكن العجيب ان كل الكرافانات مشغولة ، نعم مشغولة بعوائل من نساء واطفال وخاصة تلك التي لم يكتمل منها الا الارضية والسقف وبقيته مفتوح تضربه الشمس والحر والتراب وفيها الاطفال والنساء وفيه الرضيع الذي لم يبلغ العشرين يوما فتجد من معاناة امه انها لا تملك حليبا في صدرها ولا تملك حليبا في امتعتها ولا تملك مالا لشرائه .
تتذكر عمر بن الخطاب والمراة في المدينة حيث تطبخ لاولادها حجرا لعلهم ينامون ولا تملك مالا ولا طعاما ، كيف فعل عمرا وماذا فعل !! سبحان الله كم ان الاسلام عظيم اذا تمكن من قلوبنا وسلوكنا !!
قد تدخل الى مخيم من مخيمات الفلوجة تسال عن مخيم الصقلاوية – مخيم البشائر – واذا بسيارة صهريج الماء ( تانكر الماء ) تملا خزانات ماء بسعة متر مكعب واحد ويقف خلفها صف طويل من النساء والاطفال والرجال ينتظرون ملئ اوعيتهم البلاستيكية بالماء ، وخلال 3 دقائق يفرغ هذا الخزان بسبب حاجة الناس الى الماء للغسل والتنظيف ، ولما تسال عن عدد الخزانات في هذا المخيم يقولون عشر خزانات وكان في المخيم 200 خيمة وفي كل خيمة 4 عوائل ، اي ان كل خزان 1م3 يغطي حاجة 600 شخص اي ان لكل شخص 1,5 لتر للاغتسال والتنظيف وغسل الملابس وما شابه ، فان جلست الى ادارة المخيم تسالهم الخبر فسيشكون قلة الخيم والمرافق الصحية وقلة خزانات المياه اللازمة لتزويد المخيم بماء الغسل والتنظيف لانها قليلة العدد ومحدودة الحجم حيث انها لا تستوعب كثيرا من الماء وتفرغ بسرعة .
فان سرت الى مخيم البشائر بعد ذلك حيث اهل الصقلاوية وما ادراك ما صنع فيهم ، حيث استلمهم (عند تحريرها من داعش الذي سلب منهم اموالهم ) الحشد الشعبي فاختفى خلال يومين من رجالهم 641 رجلا من مواليد 2000فما دون ، اما شهدائهم فعددهم 49شهيدا تم قتلهم ببواري الحديد او بالمساحي او بقناني الغاز ، اما الباقي فكان عقابهم الضرب والعطش والاذلال ولا حول ولا قوة الا بالله .
سترى اول ما ترى رجلا يتكلم عن تلك اللحظات التي خرجوا بها من الصقلاوية بعد ان خرجت داعش منها وقد حملوا ما غلا ثمنه وخف وزنه لايام مقبلات ذوات حاجة ، واذا برايات واعلام عراقية تقبل من بعيد فحسبوها اعلام الجيش وطلائع العشائر ، فاذا هم الحشد الشعبي بعصاباتهم ولحاهم ففصلوا النساء عن الرجال واخذوا الرجال في باصات مضلله عدد 7 باصات مع شفل وبوكلين على وجبتين وكان هو من ضمن الوجبة الثانية وقالوا ان الباصات ستعود خلال ساعتين لتقل الباقي من الرجال الذي يناهز اعدادهم اعداد من ذهب في الوجبة الاولى ، اما النساء والاطفال فاخذوهم الى جهة لا نعرف عنها شيئا ، وفعلا عادت بعد ساعتين باصا واحدا ووضعوا فيه كل من بقى من الرجال والذين يملؤون 7 باصات في هذا الباص اشلاء فوق اشلاء ، ثم يكمل الحديث فيقول - ومضى بنا الباص معصبين العيون ومقيدين الايدي الى جهة لا نعرف عنها شيئا وكان الضرب والركل والشتم والتعذيب سيء جدا خلال الرحلة حيث كان القائمين على الباص يضربوننا كاننا قتلنا احبابهم وهم يرددون .. هذه حق سبايكر وهذا حق مصطفى العذاري ، وفي اثناء الرحلة مات اختناقا اربعة رجال منهم 3 شباب ورجل كبير السن ورموهم خارج الباص ، حتى بلغنا منطقة لا نعرف عنها شيء الا ان هناك بيتا اصفر اللون ادخلوننا اليه ، ومن بين العصابة نرى دماءا على الجدران وعلى الارض ، وبدات سلسلة جديدة من التعذيب ومن يصرخ يجتمع عليه العدد من الرجال يضربونه بمواسير المياة والمجاري او بالمساحي حتى يموت ولا نسمع الا اصوات السحل الى خارج المنزل ، ليس في الموقع ماءا ولا طعاما ولمدة ثلاثة ايام عجاف ، واذا ارادوا ان يسقوننا ماءا اخذوا قنينة صغيرة من الماء وثقبوها ومرروها على افواهنا حتى تكفي العشرين او الثلاثين من الرجال ، لقد شرب الرجال عرق بعضهم البعض .
مات الرجال عطشا والما وتعذيبا ولكن اشد ما ستواجه في هذا المخيم هو عوائل الرجال من النساء والاولاد الذين يرون قصتهم وماساتهم واشواقهم دمعا وبكاءا واسى ، فهذه المراة رات ابناءها الاربعة يركبون في الباصات المضللة في يوم هروبهم من المدينة ثم لم ترى لهم اثرا من وقتها والناس تروي قصصا مروعة ومآسي مخيفة وغيرها كثير .
اما من نجح في العودة من جحيم التعذيب فان له وشما في جسده من كسر لليدين او شجا في راسه او حرقا في يديه وصدره او ثقوبا في ساقيه وذراعيه بسبب الطعن ، وهذه ماساة جديدة تضاف الى ماساة الحاجة وفراق الاحبة والعيش في موكب الحزن والذلة والهوان .
ستغادر هذا المكان لكي تقف امام مبنى قد وضع حوله سور بي ار سي وفي داخله شباب في عمر الورود ينتظرون دورهم امام حاسبة لكي يطلق سراحهم الى اهليهم ، هذا المركز الاخير للاحتجار ومن هنا يطلق سراح المعتقلين او المحجوزين من اهالي الفلوجة للتاكد من خلوهم من امراض الدعشنة وافكار الارهاب ، قد تعجب من اعمارهم حيث كثير منهم لا يتجاوز ال 15 او 16 من عمره.
هنا قد تنتهي رحلتك فقد اكتفيت وامتلأ عندك كاس الحزن والاحساس بالغضب والشعور بوجوب التحرك ، ستصيح اين الامة ؟ اين الشرفاء من هذه الامة ؟ اين القلوب الرحيمة ؟ اين القيادات والهيئات التي تتكلم ليل نهار بحقوق الانسان والحريات والديمقراطية ؟؟
وسيساعدك على هذا القرار الشمس والتراب والفوضى في الادارة والتوزيع وانا لله وانا اليه راجعون .
عند العودة ستقف مرة اخرى على جسر بزيبز تنتظر في الطابور لكي يتحقق من كونك من اهل بغداد او انك موظف قد عبرت الجسر صباحا او غيرها من الاعذار ولا يسمح لاي كان من اهل المخيمات بالعبور الى بغداد فانها عليهم حرام في ايامهم هذه ..
هذه رحلتك ايها السائح والباحث عن الحقيقة ، وفي اثناء عودتك وانت تسترجع الصور والاحداث ستشعر انك بمواساتك لتلك الديار فانك قد استعاديت شيئا من انسانيتك وكثير من حماستك بضرورة العودة والمساعدة لمن شغل الديار والمخيمات فانهم اخوانك واخواتك والله من وراء القصد ..
بغداد المستقبل للدراسات السياسية والامنية والاقتصادية