يبدو أن انهماك جماعة الإخوان المسلمين في شؤونها الداخلية سوف يظل أهم ملامح المرحلة المقبلة، وهو ما يعود إلى انخفاض سقف التوقعات بحدوث طفرة أو تغير فكري أو معرفي في المدى المنظور، فكما تتراكم المشكلات التنظيمية، تكشف أزمة البيانات أخيرا عن مدى النضوب المعرفي والسياسي.
فقد صدر عن الجماعة ثلاثة بيانات متباينة خلال وقت قصير للغاية (27– 30 مارس/ آذار 2017)، فضلاً عن تصريحات أخرى، حملت في طياتها تناقضات فكرية واستقطابات تنظيمية، بحيث يمكن القول إنه ليس لدى الجماعة سياسة واضحة ومستقرة، فبالنظر إلى التقارب الزمني، ظهرت مؤشراتٌ على طرح الأطر المرجعية للنقاش، وخصوصاً ما يتعلق بالموقف من القمة العربية، والمشاركين فيها، وأيضاً الموقف من الوضع السياسي في مصر.
لا تقتصر التباينات فقط على تقييم نظرة "الإخوان" إلى السياسة المصرية، ولكنها اختلفت حول النظر للقضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل، ولا يرتبط هذا النمط من الخلافات فقط بالمنازعات التنظيمية، ولكنه يعكس جوانب خطرة من التشوش الفكري، فالمشكلة هنا لا ترتبط بالخلاف حول ديباجة الخطاب الموجه إلى القمة العربية، وإنما في الانقسام حول الموقف من النظام المصري والصراع العربي الإسرائيلي، ما يشير إلى تناقضات داخلية، ترتبت على غياب المساهمات الفكرية على مدى عقود لا يكفي "الاعتذار" لمعالجتها، حيث تبدو انعكاساً لمشكلاتٍ بنيويةٍ ظلت محل جدل فترات طويلة .
وعلى الرغم من أنه من اللافت ظهور تباين في الموقف السياسي، لم يكن اختلاف منظور البيانات الثلاثة للعلاقة مع الدول العربية والحكومة المصرية، الجانب الأكثر أهميةً في الجدال حول التوجهات السياسية، لكن ما هو أكثر أهميةً هو حالة التشظي وتضاؤل القدرة على قراءة التغيرات السياسية التي تحدث على المستوى الإقليمي، فلم تُبد القمة العربية اهتماماً، سواء بالتطلعات البروتوكولية للإخوان أو تصريحاتهم "الثورية"، كما أن الجدل لم يشكل مسألة رأي عام أو محور مناقشات لأطراف أخرى.
وفي سياق التراجع عن بيان 27 مارس/آذار، كانت ثمّة إشارة إلى تفسير استخدام "دولة
إسرائيل" بأنه جاء محاولة للتقارب مع القمة العربية، ما يعني أن صياغة البيان كانت على وعي بحقيقة المفردات التي تطلعت إلى استخدامها للمرة الأولى. وهنا، يمكن تناول "الاعتذار" تعبيراً عن حالة قلقة تجاه التغيرات السياسية التي تواجه الجماعة، وأن هذا القلق جاء في سياق عاملين؛ التباس الهدف السياسي من البيان الموجه إلى القمة العربية، وتزايد الانتقادات واتساع نطاقها، وبالتالي، يمكن اعتبارها غير ناضجةٍ لتجديد المنظور السياسي لتناول قضية مستقرة في أدبيات الجماعة، لكنها تطرح أسئلةً مهمةً عن وضع هذه القضايا للنقاش مرة أخرى، وإعادة تقييم المواقف السابقة على ضوء الأوضاع الراهنة.
ولعل من الملاحظ أن الاستقطابات الداخلية تترافق مع تفكيك علاقات التبعية، في إطار عملية تحول سوسيولوجي. تتم تحت مظلة تعدّد شبكات التواصل، سوف تساهم في تغييرالأنماط التقليدية للصورة الذهنية لدى الأفراد عن "القيادة"، لا يرتبط ذلك بالحراك الاجتماعي والسياسي فقط، لكنه يعود إلى تفاقم مشكلات الجماعة وقصورها عن تقديم أطروحات جديدة على مستويي؛ الدعوة والسياسة، وهي حالة تتقارب مع المرحلة المتأخرة لانقسامات الجماعة الإسلامية، في عقد التسعينيات.
وعلى الرغم من شدة الجدل حول النزاع الداخلي، لا يوجد تصنيف واضح للانقسامات الداخلية، فمحدودية الاختلاف على تناول الجماعة للسياسة في مصر تشير إلى أن الشؤون الداخلية تشكل الملمح الرئيسي للخلاف، فيما تغلب المقولات التقليدية والميراث الراكد حول "القضايا الإسلامية" على الخطاب السياسي، من دون مراعاة التغيرات السياسية التي حدثت على مدى سبعين عاماً، فالمشكلة التي يطرحها البيان الموجه إلى القمة العربية هي في نشره بشكل مفاجئ، من دون إيضاحات فكرية، وهو نمط يشكل الإطار العام لتناول الشؤون السياسية.
ما كشفه مقال للكاتب الإسلامي، عزّام التميمي، وتعليقات له، عن حالة من الفوضى الإدارية،
وتأتي أهميتها في أنها ترافقت مع صدور هذه البيانات التي أثارت جدلاً بشأن ارتباك مواقفها الفكرية، كما ظهر في مضامين البيانات. وقد أشار التميمي إلى حالة خاصة مؤشراً على هذه الفوضى. وبغض النظر عن تحديد هوية الشخص المقصود، مثالاً على العشوائية التنظيمية، فإن هذه الحالة وغيرها مثيرة للتساؤل بشأن كيفية تصدّي جماعة الإخوان لقضايا إصلاحية كبرى، وتصدر المشهد السياسي في مصر وغيرها بهذا المستوى من الفلتان، وهذا ما يفسّر جوانب من استمرار الأزمة الممتدة مع الحكومة المصرية.
ما يشير إليه بعض تقارير المخابرات الأميركية من وجود تشكك في مصداقية جماعة الإخوان والتزامها بالعهود، وأنها تشكل خطراً بعيد المدى على الولايات المتحدة، يمكن تفسير خلفية نتائج التقارير الأميركية جزئياً من خلال أيديولوجية "الإخوان" المناهضة للغرب، لكن على الرغم من إدراك البلدان الغربية مخاطر هذه الأيديولوجية، تسعى الجماعة إلى التقارب مع الحكومات الغربية، لكنها لم تتمكّن من الانخراط في حوار مع الحكومات المصرية لأجل إعادة تعريفها كياناً سياسياَ أو اجتماعيا، وليس مشكلة أمنية. وبجانب هذا التناقض، تشكل الإشارات المتكرّرة إلى سعي الجماعة إلى حل مشكلات ليبيا وسورية واليمن وغيرها مصدر قلق لدول كثيرة، فالمشكلة هنا ليست في الخطاب الأممي، ولكن في الإصرار على نمط تقليدي لحركة سياسية عابرة للحدود، ولا يراعي طبيعة الدولة القومية.
حتى الوقت الراهن، لا يتوفر لدى "الإخوان"، بتقسيماتهم المختلفة، أطروحة عن خياراتهم في المستقبل القريب، ويبدون أكثر اهتماماً بالاستحواذ على الجماعة. وبغض النظر عن مدى القدرة على المراجعة والمحاسبة عن الفترة الماضية، تفيد هذه الاختلالات بأن حركة الإخوان لم تكن على استعداد أو مؤهلة لإدارة مرحلة تحول ديمقراطي، وخصوصاً في ظل الافتقار للقواعد المعيارية والديمقراطية الداخلية. وتعكس هذه النماذج مدى الارتباك التنظيمي والفكري، وبشكلٍ يضعف الثقة في "الإخوان" طرفاً مؤهلاً للتعامل السياسي، حيث إن انفراط عملية اتخاذ القرار يجعلها أقل قدرة على اختيار وجهتها السياسية، خصوصا أنها تمر بحالةٍ لا تمكّنها من اتخاذ قرارات استراتيجية.
المصدر: العربي الجديد