أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
"من جمر إلى جمر" تعبيرٌ دقيق وموفّق لحالة المناضل الفلسطيني الملتزم بالثوابت، الذي يعض على جراحه، ويقف في وجه الأعاصير، ويدفع الأثمان سجناً وتشريداً وظلماً وآلاماً، دون أن تنحرف بوصلته قيد أنملة. وهو نموذج ينطبق بالفعل على حالة المفكر الأستاذ منير شفيق.
الكتاب الذي يحمل هذا العنوان "من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق"، والذي دوَّنه وحرَّره الأستاذ نافذ أبو حسنة رحمه الله، وصدر في بيروت عن مركز دراسات الوحدة العربية؛ من الكتب القليلة التي إذا بدأت فيها القراءة لا تستطيع التوقف حتى تختمها، على الرغم من صفحاته الـ 560. ليس فقط لأنه كُتب بأسلوب جميل وسلس، وإنما لأنه غنيّ بالتجارب والمواقف والدروس، ولأنه يُقدم قراءة نقدية وموضوعية للعمل السياسي والمقاوم الفلسطيني على مدار سبعين عاماً، ومن وسط "المعمعة" اليسارية والفتحاوية، ومن أجواء التوجهات الإسلامية والقومية، مع الجمع بين القُرب من صانع القرار وبيئته، وبين عدم تولي مواقع قيادية في الصف الأول.
لا يسمح حجم المقال بعمل مراجعة كاملة وشاملة للكتاب، ولكن ذلك لا يمنع من أن نتحدث عن بعض المعالم الرئيسة التي حواها حول منير شفيق، الذي تجمعني به علاقة أعتز بها تعود إلى سنة 1996.
شخصية حرة صلبة:
على مدار الكتاب، تتضح أمامك شخصية ابن حي القطمون في القدس منير شفيق عسل. فأنت أمام شخصية حرَّة منسجمة مع نفسها وقناعاتها؛ تتبنى المنطق العقلي والتحليل المنهجي والنقد الذاتي. وهي عندما تقتنع بفكرة فإنها مستعدة للمضي حتى النهاية في الدفاع عنها، ودفع أثمانها وتكاليفها. وهي شخصية لا تحب المجاملات ولا النفاق الاجتماعي خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعمل الوطني، أو بمتطلبات التقييم الموضوعي.
كما أن ثمة قيماً أساسية حافظ منير عليها وتمسك بها شيوعياً وفتحاوياً وعروبياً وإسلامياً، على رأسها الصدق مع النفس، ورفض الكذب؛ بما في ذلك نقده لذاته عندما يُخطئ كما فعل في قصته مع "مخلص عمرو".
ولذلك، فهي شخصية لا تعبأ كثيراً بمخالفة الرأي العام أو الاتجاهات العامة إذا ما وصلت استنتاجاتها الموضوعية إلى ذلك، حتى لو كان فيها أحياناً صدمة للنُّخب أو للناس. وبالتالي، لعبت شخصيته دور "الرائد" الذي يعمل على صناعة الاتجاهات، وليس تبرير مسارات الآخرين. وستجد ذلك في انتمائه للحزب الشيوعي وفي خروجه منه، وفي دوره داخل حركة فتح، وفي صناعة "التيار"، وفي تحوله إلى الإسلام والفكر الإسلامي.. وفي تفسيره لكارثة 1948 وهزيمة 1967، وخروج الفدائيين من الأردن... وغيرها.
بيئة عائلية مميزة: منير شفيق الذي ولد سنة 1936، نشأ في بيئة عائلية مميزة. فهي تنتمي إلى عائلة مسيحية مثقفة منفتحة، ماركسية التوجه، وطنية الالتزام، تعتز بعروبتها وتراثها الحضاري الإسلامي. هذه الصورة التي تبدو أقرب إلى: "الموزاييك"، كانت صورة منسجمة مع ذاتها في الحالة الفلسطينية التي تعرف هويتها وتعتز بها، وتقف في مواجهة الاحتلال البريطاني ومخاطر المشروع الصهيوني، وتتلمس اتجاهات التغيير والنهوض والتحرير.
تخرج والده محامياً سنة 1925 وتخرجت والدته من دار المعلمات سنة 1927، ولأن والده يعتز بعروبته وتراثه، فقد حرص أن يستقيم لسان ابنه العربي، فشجعه على حفظ القرآن والشعر، فحفظ مع بلوغه 13 سنة، ثلاثة أجزاء من القرآن وكثيراً من قصائد المتنبي وأبي تمام، ومن نهج البلاغة، كما حفظ كثيراً من مواد مجلة الأحكام العدلية، وهي أول مدونة للفقه الإسلامي في المجال المدني في إطار بنود قانونية، ورافق والده منذ سن السابعة إلى المحاكم ليشهد المرافعات وقضايا الناس والمجتمع. وكان والده يعطيه قرشاً فلسطينياً عن كل آية أو بيت شعر يحفظه (كل قرشين أو ثلاثة يشترون في ذلك الوقت 20 بيضة مثلاً)، فكان يحفظ نحو عشرة أبيات في نصف ساعة ويسمّعها، لتجتمع في جيبه "ثروة" مقارنة بأقرانه.
وبشكل عام، فإن بيئة المسيحي الفلسطيني لم تكن تختلف كثيراً عن بيئة المسلم الفلسطيني، ولذلك كان المسيحيون جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي، ولعبوا دوراً أصيلاً في المشروع الوطني الفلسطيني، بشراكة طبيعية حقيقية، وعبروا عن ذلك بالكلمة والدم والرصاص. وهو ما شرحه منير شفيق لاحقاً عندما كتب مقال "نصارى العرب مسلمون يذهبون إلى الكنيسة"!!
مع الحزب الشيوعي: استفاد منير من حالة النضج المبكر في تكوين شخصيته، التي عجلت بصقلها دراسته في مدرسة الرشيدية بالقدس، وكارثة 1948، والبيئة الثقافية الماركسية والوطنية لوالده. وبالرغم من تحذيرات والده لابنه من الانضمام للحزب الشيوعي وإحضاره عدداً من القيادات ذات التجارب السابقة لإقناعه، ورغبة والديه بأن يكمل أولاً دراسته الجامعية، إلا أن ابن الخامسة عشر قرر تقديم طلب رسمي للانتماء للحزب الشيوعي (الأردني). كما رفض شرط والده بعدم الانشغال في العمل السياسي إذا ما أراد الدراسة في جامعة دمشق. وتابع نشاطه السياسي، فتأجلت دراسته الجامعية، إلى أن سجلته أخته "سميرة" في الجامعة سنة 1966 ليتخرج سنة 1969، في تخصص علم الاجتماع، بعد أن أصبح عمره 33 عاماً، وليرسل لأهله "ورقة" التخرج التي "لا تعنيه"، والتي كانوا ينتظرونها!! إذ إن الحسابات والاعتبارات الأكاديمية لم تكن مُقدَّمةً لديه، كما لم تُشكّل عبئاً نفسياً ضاغطاً عليه؛ وإن كان يمتلك كافة المؤهلات للوصول، دونما عناء، إلى أعلى الدرجات العلمية. أما زواجه فكان على وقع حرب أكتوبر في 1973/10/10 !! ذلك أن منير، وإلى جانبه أخوه جورج وأخته سميرة (زوجة ناجي علوش)، كانوا غارقين ومنهمكين في الثورة، التي كانت تملؤ حياتهم واهتماماتهم.
وقد لعب منير شفيق في أثناء عضويته في الحزب الشيوعي، دوراً فعالاً ومبادراً، وتعلم الصلابة، ودخل السجن عدة مرات. وكان السجن بالنسبة له موقعاً نضالياً، ويعدُّ سجنه "فترة راحة" أو "شربة ماء"، ويتعامل مع وضعه بـ"سعادة"، وبنفسية "من وجد الفرصة ليسافر إلى مكان جميل"!!
لكنه في الوقت نفسه كان ضد قرار تقسيم فلسطين وضد شرعية "إسرائيل". وقد خرج من الحزب الشيوعي في منتصف الستينيات بعد قراءة نقدية معمقة لتجربته؛ وهو لم يتردد في وصف الأمين العام للحزب فهمي السلفيتي بأنه غير مستقيم أو محتال عندما حاول أن يغريه بمنصب قيادي.
مع حركة فتح: يعرض الكتاب بشكل غنيّ ومميز تجربة منير شفيق في حركة فتح منذ 1969، التي كان أصدقاؤه ناجي علوش وأو داود ومحمد أبو ميزر، معبراً إليها. وقد اقتنع منير بمنطلقاتها والتزم بها، وأسهمت كتاباته في تعميق مرجعية فتح (مثلاً كتابه: حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية)، ولقيت إقبالاً واسعا من كوادرها؛ ومن المهتمين بالعمل المقاوم في العالم العربي. كما لعب دوراً مهماً في تقوية علاقات حركة فتح بالأحزاب الماركسية واليسارية في العالم.
وقد نجح كمال عدوان في استيعابه، خصوصاً بعد أن تولى قيادة القاطع الغربي (الداخل الفلسطيني) إثر المؤتمر الثالث لحركة فتح 1971، فاختاره ليكون مسؤولاً عن العمل السياسي في الأرض المحتلة، وليشرف على توجيه الإذاعات الفلسطينية، كما أدخله في مركز التخطيط الفلسطيني كرئيس لقسم الأرض المحتلة. وبعد استشهاد كمال عدوان 1973 أُعفي منير من القاطع الغربي، غير أنه تابع عمله في مركز التخطيط الذي صار مديراً عاماً له، مع ملاحظته سعي عرفات لتحجيمه وتهميشه داخل حركة فتح.
وتلاحظ في تلك الفترة جدلية العلاقة بين المثقف والثورة، وتفاعل الفكرة مع الممارسة على الأرض، وتطور القناعات على أرضية القراءة النقدية للتجارب، والتفكير الحر المنفتح، المنطلق من الثوابت ومن محاولة استيعاب البيئة الحضارية والثقافية العربية والإسلامية.
مع "التيار" والتحول إلى الإسلام:
كان لمنير شفيق دور أساس في إنشاء "تيار" داخل حركة فتح، بدأ يتبلور سنة 1972، يركز على العمل العسكري وخصوصاً في الأرض المحتلة، وكان أبرز قادة هذا التيار أبو حسن بحيص وسعد جرادات وحمدي (باسم التميمي). ويسمي البعض هذا التيار "تيار منير شفيق" لكنه يرفض هذه التسمية، بالرغم من دوره المحوري فيها، ويؤكد وجود أبو حسن بحيص كقائد أول له دوره الأساس العسكري والسياسي والفكري. وقد أنشأ هذا التيار السرية الطلابية التي تحوّلت إلى كتيبة الجرمق أو الكتيبة الطلابية؛ وظلّت لها خصوصيتها ضمن حركة فتح وخطها السياسي والفكري الذي لم يكن يعجب ياسر عرفات. وكان لها أدوار بطولية في مواجهة العدو الصهيوني، وخصوصاً في هجماته واجتياحاته للبنان.
يشرح منير شفيق كيف تطور النقاش داخل التيار حول المقاومة والتحرير ومشاريع النهضة والتغيير، بشكل تدريجي لينقد وينقض الفكر الماركسي، وليتجه أكثر نحو روح عروبية تستلهم التراث الإسلامي، وتؤمن بضرورة فهم البيئة الشعبية والاجتماعية. ولاحظ منير شفيق كيف أن قادة الشيوعيين أنفسهم مثل ماو تسي تونغ يرون أن الأفكار الثورية الصحيحة يجب أخذها من الجماهير. ومع تطور الحوارات وتنضيجها، ومع نجاح "الثورة الإسلامية في إيران"، اتجه منير ورفاقه لتبني الرؤية الإسلامية، وتكلَّل ذلك مع منير نفسه باعتناقه الإسلام. وتابع التيار دوره بعد ذلك في تشكيل خلايا إسلامية مقاتلة وتشكيل سرايا الجهاد، ومحاولة توحيد العمل مع حركة الجهاد الإسلامي.
>والكتاب يفرد مساحات للحديث عن منعطف أوسلو، وعن دور منير شفيق في المؤتمر القومي الإسلامي، ورؤيته للثورات العربية وغيرها.
>ولا يتسع المقام هنا لاستعراض العديد من الآراء السياسية لمنير شفيق أو مناقشته فيها، لأن كلّاً منها قد يحتاج مقالاً مستقلاً، ومن ذلك جدليات العلاقة بين الديموقراطية ومشاريع التحرر والنهضة، وتقييم أدوار عدد من الأحزاب والاتجاهات، وتقييم دور عبد الناصر،... وغيرها. وسيلحظ قارئ الكتاب، كما يلحظ قارئ مقالات وكتابات منير شفيق، روحاً متفائلة وتركيزاً على الثغرات لدى العدو والقوى الدولية التي تسانده. كما سيلحظ تركيزاً شديداً على موازين القوى.
وعندما تنتهي من القراءة ستكتشف أن منير شفيق لم يُعطِ إلا مساحة ضئيلة جداً لحياته الاجتماعية وزوجته وأبنائه، الذين انشغل عنهم بهموم العمل الثوري والسياسي، معترفاً بالفضل الكبير لزوجته التي دعمت التزامه السلوكي وخطه السياسي، وتحملت أعباء رعاية الأولاد.
قراءة ممتعة...
>هذا المقال هو نسخة موسعة عن النص الذي نشر في موقع ”“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 18/12/2021