لا تكاد الفلوجة تنام على قصف إلا وتصحو على آخر، مدينة أرغمت تطورات المواجهة بين الحكومة العراقية وتنظيم "الدولة الإسلامية" أهلها على دفع ضريبة إنسانية فادحة، قائمة مفتوحة من القتلى والجرحى لا تشبع من أبناء المدينة، وخدمات شبه معدومة.
وتغلق جميع المخارج أمام المدنيين المحاصرين في المدينة، فآلاف السكان - وأغلبهم من النساء والأطفال - باتوا بين شقي رحى؛ إذ يمنع "تنظيم الدولة" خروجهم، وتحاصر القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي المدينة.
مدينة المساجد
تعد مدينة الفلوجة أول مدينة عراقية يسيطر عليها تنظيم "داعش" بشكل رسمي على أعقاب حركة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المحافظات السُّنية في العراق في عام 2013م.
والفلوجة كمدينة عراقية تتمتع بمكانة متميزة في ضوء عدد من المستويات فعلى المستوى الديني - المذهبي تعد المدينة رمزاً للعرب السُّنة في العراق، وتشتهر بأنها مدينة المساجد، وتحتل مكانة دينية كبيرة لدى سُنة العراق، أما على المستوى العسكري فقد تمكنت المدينة من التصدي للاحتلال الأمريكي في العراق في أشهر وأعتى معارك الاحتلال الأمريكي عام 2004م.
موقعها الجغرافي
وذاع صيت الفلوجة لتصبح أشهر معاقل معارضة المحتلين في العراق، وفيما يتعلق بموقعها الجغرافي، فالمدينة تتمتع بمكانة جيوسياسية تجعلها من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن الاستغناء عنها في تحليل وتشخيص قضايا الصراع الداخلي في العراق، فمدينة الفلوجة تفصل العاصمة بغداد عن محافظة الأنبار أكثر المحافظات العراقية التي شهدت اضطراباً وعدم استقرار منذ عام 2003م، وهي أول مدينة ترتبط بالطريق الدولي السريع من جهة الغرب الذي يربط العراق بالعالم من خلال الأردن وسورية، ولذلك فإن سيطرة "داعش" على الفلوجة أسهم في قطع هذا الطريق، ومثَّل ذلك تهديداً اقتصادياً كبيراً في العراق عندما شهد حالة منع وصول حركة السلع والبضائع من الخارج إلى العاصمة بغداد ومناطق وسط وجنوب العراق، فضلاً عن ذلك فإن مدينة الفلوجة ستكون بمثابة الحدود الجنوبية للإقليم السُّني في العراق المجاورة للعاصمة بغداد؛ ولذا فهي ستضطلع بدور إستراتيجي فريد من نوعه إذا ما قدر للإقليم أن ينشأ.
دعوة للانتقام من الفلوجة
من خلال ما تقدم، فإن عمليات تحرير مدينة الفلوجة من تنظيم "داعش" تختلف اختلافاً كبيراً عن تحرير المناطق الأخرى نتيجة الأهمية متعددة المستويات التي تتمتع بها المدينة، لذا فإنه منذ إعلان انطلاق العمليات تشهد الأوساط السياسية والإعلامية تصاعداً في الخطاب الطائفي الشيعي ضد مدينة الفلوجة، وقد أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة في العراق فجر الإثنين الموافق 23/ 5/ 2016م انطلاق العمليات العسكرية لتحرير مدينة الفلوجة من سيطرة تنظيم "داعش" الذي سيطر عليها في يناير عام 2014م على أعقاب حركة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المحافظات السُّنية في العراق عام 2013م.
وقد أطلق رئيس الوزراء حيدر العبادي تسمية "كسر الإرهاب" على عمليات تحرير الفلوجة الذي أعلنها بنفسه من مقر قيادة العمليات، وقد ذكر العبادي أن أبرز تحدٍّ يواجه القوات المسلحة العراقية في معاركها لتحرير الفلوجة هو وجود أعداد كبيرة من المدنيين لا يزالون عالقين داخل مدينة الفلوجة، وفي هذا الإطار تشير الإحصاءات الحكومية الرسمية والتي تقترب من توقعات منظمة الأمم المتحدة إلى أن عدد المدنيين داخل الفلوجة قبل انطلاق العمليات العسكرية يزيد على 50 ألف مواطن؛ وهو ما يشكل خطراً كبيراً على أرواح المدنيين الذين يعانون من أضرار القصف الجوي الذي ينفذه التحالف الدولي إلى جانب استعمال تنظيم "داعش" المدنيين كدروع بشرية في المعركة كما حصل في مناطق أخرى.
أما فيما يتعلق بمواقف مختلف الأطراف الفاعلة، فقد أعلنت مختلف القوى السياسية الشيعية تأييدها الصريح ودعمها لعمليات تحرير الفلوجة، وأظهرت مساندتها لحكومة العبادي، وتصاعدت لغة الخطاب التحريضي الطائفي ضد مدينة الفلوجة، فقد أظهرت صور ومقاطع فيديو نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تصريحات وممارسات طائفية مقيتة تدعو مقاتلي الجيش العراقي والحشد الشعبي، تدعو تلك الممارسات والتصريحات للانتقام من مدينة الفلوجة، وقد زار رئيس الوزراء السابق نوري المالكي قطاع العمليات، وصرح بضرورة القضاء على الفلوجة الذي وصفها بأنها "رأس الأفعى"، وذكر أنها بؤرة للإرهاب الذي يستهدف مختلف مناطق العراق على حد وصفه.
وقد دعا المالكي أيضاً إلى زيادة الدور الهجومي لمليشيات الحشد الشعبي في معارك الفلوجة، ويمكن القول: إن المالكي يمتلك علاقات وثيقة مع المليشيات على مختلف تشكيلاتها وارتباطاتها، وهو يعمد لتوظيفها في خدمة مشروع إيران الإستراتيجي في العراق المعروف بـ"الدولة العميقة".
كما ظهر شريط فيديو آخر لقائد كتائب أبو الفضل العباس المدعو أوس الخفاجي، وهو يدعو مقاتلي الحشد الشعبي لانتهاز الفرصة السانحة التي توفرها المعارك ضد "داعش" للانتقام من الفلوجة وتدميرها، وتخليص الشعب العراقي والعالم الإسلامي من شر الفلوجة على حد وصفه، إلى جانب ذلك فقد أظهر شريط مماثل قائد عصائب أهل الحق المدعو قيس الخزعلي وهو يجتمع بمجموعة من مقاتلي العصائب وهو يدعوهم للاستعداد الكبير للمشاركة في الهجوم على الفلوجة والانتقام من أهلها.
ولم تتوقف الممارسات الطائفية للقوى السياسية والعسكرية في التحريض ضد مدينة الفلوجة عند هذا الحد فحسب، وإنما امتدت لتشمل وضع صور واسم الإرهابي نمر النمر على آليات الحشد الشعبي والأسلحة والصواريخ المتوسطة والخفيفة؛ وهو ما شكل رفضاً سياسياً وإعلامياً كبيراً من مختلف القوى السُّنية داخل العراق، وأكدت هذه القوى زيادة وتيرة مخاوفها من مشاركة فصائل الحشد الشعبي في معارك تحرير الفلوجة، وجددت مطالبتها برفض مشاركة هذه القوات في تحرير الفلوجة، وصدرت مواقف وبيانات استنكرت تلك الممارسات، فقد استنكر رئيس البرلمان سليم الجبوري، ونائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي، وكتلة تحالف القوى العراقية، والحزب الإسلامي العراقي، والمجمع الفقهي لكبار العلماء في العراق، إلى جانب ذلك أصدر اتحاد العشائر العربية في الأنبار بياناً استنكر فيه هذه الممارسات، وتحديداً رفض مشاركة الحشد الشعبي في المعارك، والدعوة لتسليح الحشد العشائري السُّني لتحرير مدينة الفلوجة من "داعش"، ومع تبلور تلك المواقف، فقد أصدرت رئاسة مجلس الوزراء بياناً استنكرت التصريحات الطائفية لقادة الحشد الشعبي وأعلنت عن براءتها من تصريحات المدعو أوس الخفاجي.
واستمراراً مع متابعة معارك تحرير الفلوجة، فقد أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة أن قوات الحشد الشعبي لن تشترك في الهجوم على مدينة الفلوجة، وإنما ستكتفي بمحاصرة حدود المدينة من الخارج، ذات الأمر الذي أكده هادي العامري، قائد فيلق بدر، وأحد أبرز قيادات الحشد الشعبي، بيد أنه أعلن أن قوات الحشد الشعبي ستشارك في الهجوم على الفلوجة في حالتين؛ الأولى فشل القوات العسكرية الرسمية في اقتحام الفلوجة، والحالة الثانية في حال طلب أهالي ووجهاء الفلوجة تدخل الحشد الشعبي.
وكانت الحكومة العراقية قد أعلنت أن القوات العسكرية التي ستشترك في عمليات تحرير الفلوجة هي كل من: قيادة عمليات الفلوجة، الجيش العراقي، قوات جهاز مكافحة الإرهاب، قوات الشرطة الاتحادية في الأنبار، قوات أفواج طوارئ الأنبار (الصحوات سابقاً)، قوات الحشد العشائري السُّني في الأنبار، وستتكفل قوات الحشد الشعبي بمحاصرة المدينة دون التوغل فيها.
وتشير المعلومات المقربة من المعارك أن فصائل الحشد الشعبي التي تستعد للمشاركة في عمليات الفلوجة والتي تحشد على حدود المدينة هل كل من: عصائب أهل الحق، كتائب أبو الفضل العباس، قوات بدر، سرايا الخراساني، كتائب حزب الله في العراق، كتائب سيد الشهداء، لواء علي الأكبر.. إلخ.
وتشير معلومات مؤكدة أن طيران التحالف الدولي وخلال ضربات جوية محددة الأهداف قد استهدف في مرتين قوات الحشد الشعبي بدعوى أنها كانت أهدافاً خاطئة، بيد أن الحقيقة أن التحالف الدولي يرفض مشاركة قوات الحشد الشعبي، وقد حذر في أكثر من مناسبة من مشاركة الحشد في معارك تحرير الفلوجة، وأكد أنه لن يقوم بتأمين الغطاء الجوي للقوات المسلحة العراقية في حربها ضد "داعش" في حال مشاركة فصائل الحشد الشعبي، وقد نفذ طيران التحالف الدولي ضربات جوية ناجحة استهدفت مواقع إستراتيجية لتنظيم "داعش" في الفلوجة، منها مخازن للسلاح وأنفاق تربط الفلوجة بجزيرة الخالدية، وهو طريق سري يسهم في خروج "داعش" من الفلوجة في حالة تضييق الخناق عليه.
يمكن القول مما تقدم: إن الإستراتيجية الإيرانية في مشاركة الحشد الشعبي في معارك الفلوجة تأخذ أكثر من شكل، فعدم السماح لقوات الحشد بالهجوم على الفلوجة لا يعني بالضرورة انتهاء دور مليشيات الحشد الشعبي، ففكرة بقاء قوات الحشد الشعبي خارج الفلوجة والعمل على محاصرة حدودها إنما تعني تنفيذ هذه المليشيات لمخططها الإستراتيجي الذي تم اتباعه في أكثر من مدينة والمتمثل بالعمل على اعتقال واختطاف المدنيين السُّنة الهاربين من المعارك داخل المدن، والقيام بجرائم انتقامية ضدهم كما حصل في ديالى، وصلاح الدين، والرمادي، إذ تمكنت كتائب "حزب الله في العراق" من اعتقال أكثر من 500 مواطن سُني في غضون يومين عندما نصب سيطرتها في منطقة الرزازة قرب الرمادي بعد خروج المدنيين من داخل مدينة الرمادي بعد اشتداد المعارك ضد تنظيم "داعش"، ولم يعلم إلى الآن مصير هؤلاء المواطنين السُّنة، وترجح أغلب التوقعات قيام هذه المليشيات بقتلهم.
المواقف الدولية والإقليمية
وفي إطار المواقف الدولية والإقليمية، فقد أعلنت الأمم المتحدة دعوتها الحكومة العراقية والقوات العسكرية المشاركة في المعارك ضد "داعش" في الفلوجة للحفاظ على أرواح المدنيين العزل، وتوخي أقصى درجات الحذر في عدم تعرضهم للأذى من جراء المعارك، وطالبت الأمم المتحدة كذلك بتوفير ممرات آمنة لخروج المدنيين من مدينة الفلوجة والاستعداد لتهيئة مخيمات لاستقبال النازحين والفارين من المعارك إلى المناطق المجاورة، ويمكن القول: إن أبرز المواقف الإقليمية تمثل في تصريحات السفير السعودي في العراق السيد ثامر السبهان الذي التقى رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري، وأكد دعم بلاده للحرب ضد تنظيم "داعش"، بيد أنه شدد على رفض مشاركة الحشد الشعبي في اقتحام مدينة الفلوجة، ورفض بشدة التصريحات والممارسات الطائفية لاسيما المتعلقة برفع صور واسم النمر، وأكد أن ذلك يسهم في تعكير صفو العلاقات السعودية – العراقية، ويزيد المخاوف السعودية من سعي قوات الحشد الشعبي للقيام بأعمال عدائية وانتقامية ضد المدنيين في مدينة الفلوجة، ولقد مثلت تصريحات السبهان دافعاً لتأكيد الحكومة رفضها التصعيد الطائفي في هذه المرحلة الحرجة؛ الأمر الذي دفع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بأن يجتمع بسفراء الدول الإسلامية في العراق في يوم الأربعاء الموافق 25/ 5/ 2016م ويدعوهم لرفض التصعيد الطائفي في أثناء الحرب ضد تنظيم "داعش" وتجديد دعمهم للحكومة العراقية في حربها ضد الإرهاب ومساندة الشعب العراقي في هذه المرحلة التاريخية المفصلية في تاريخ المنطقة والعالم.
هروب سياسي
أما فيما يتعلق بدراسة وتحليل الأبعاد الحقيقية لانطلاق معارك تحرير الفلوجة في هذا التوقيت، فإنا ننطلق من فرضية مفادها سعي حكومة العبادي لتوظيف المعارك ضد تنظيم "داعش" في إطارها الزماني والمكاني كسلاح سياسي للهروب من الأزمة السياسية الذي يعيشها العراق منذ مدة، وأن ما يدعم صحة هذه الرؤية أن القوى السياسية السُّنية ومحافظ الأنبار صهيب الراوي طالبوا الحكومة في أكثر من مناسبة وقبل أكثر من عام بضرورة انطلاق عمليات تحرير الفلوجة عبر دعم وتسليح وتدريب قوات الحشد العشائري في الأنبار؛ حتى يتمكنوا من تحرير المدينة، بيد أن الحكومة رفضت مرات عديدة، ذلك أن اختيار الحكومة هذا التوقيت بعد يومين من دخول المتظاهرين في بغداد المنطقة الخضراء ووصولهم إلى مقر رئاسة الوزراء ومحاولات إسقاط حكومة العبادي، إنما تثبت بما لا يقبل الشك صحة فرضية توظيف عامل الزمن للخروج بحركة هروب سياسي إلى الأمام من الأزمة، يتمثل في توحيد القوى السياسية الشيعية المتناحرة فيما بينها لدعم ومساندة الحكومة، فضلاً عن ذلك فإن الحكومة عمدت إلى توظيف الإطار المكاني للمعركة لزيادة زحم الدعم والتأييد والمساندة، ويتمثل هذا الإطار المكاني في رمزية ومكانة مدينة الفلوجة التي تمثل عدواً حقيقياً لكل الشيعة في العراق، لذا فإنا شاهدنا تأييداً شيعياً واسعاً لانطلاق معارك تحرير الفلوجة برغم كل الخلافات السياسية بين القوى الشيعية، تلك المواقف التي لم نشاهدها في جميع المعارك السابقة وهو ما يعزز ويبرهن صحة الفرضية أعلاه.
من خلال ما تقدم، فإن معارك تحرير الفلوجة لم تنحصر في الحرب ضد تنظيم "داعش" فحسب، وإنما تعمد إيران لتوظيفها لخدمة مشروعها التوسعي الإستراتيجي في العراق من خلال استمرار عملياتها الانتقامية العدائية ضد العرب السُّنة في مناطق حزام بغداد، فضلاً عن مناطق بغداد الأخرى، وستكون الفلوجة إحدى محطات هذا المشروع إذا سمح لقوات الحشد الشعبي بالتدخل في معارك الفلوجة، وذلك يمثل أسمى غايات المشروع الإيراني بقتل وتشريد السُّنة في العراق والانطلاق إلى المحيط العربي والإقليمي