كان رفض القنصلية السعودية بعمّان إصدار تأشيرات عمرة في الأسابيع الماضية لحملة الجوازات الأردنية المؤقتة (ممن لا يحملون رقماً وطنياً)؛ أمراً مستغرباً وصادماً، بعد أن كانوا يذهبون لأداء المناسك بهذه الجوازات دونما عوائق على مدى سنوات طويلة. وتطور الأمر عندما عمّمت القنصلية السعودية في بيروت على شركات وحملات الحج والسفر بأنها لن تمنح حاملي الوثائق الفلسطينية اللبنانية تأشيرات عمرة. كما انتشرت أخبار عن رفض السلطات السعودية تجديد الإقامات لحملة الوثائق الفلسطينية. وفي كل الأحوال، كان الحل الوحيد المقبول هو حصول هؤلاء على جوازات سفر فلسطينية.
اللافت للنظر، أن السلطات السعودية لم تصدر حتى الآن قراراً رسمياً بهذا الشأن، بالرغم من المراجعات الكثيرة لها. وجاءت تعميماتها شفوية، لكن القرار تم تنفيذه فعلياً على الأرض. كما التزمت السلطة الفلسطينية والدول العربية المعنية الصمت، بالرغم من حساسية الأمر بالنسبة لها، ربما بانتظار اتضاح الصورة، واتخاذها شكلاً رسمياً.
ويبدو أن التعميم الجديد يعود إلى مطلع العام الحالي (عندما كان ثمة حماسة سعودية تجاه "صفقة القرن")، غير أن القنصلية السعودية في عمّان تراجعت عن القرار في فترة الحج، ثم عادت لتطبيقه في بداية موسم العمرة.
وكانت الدول العربية قد اتفقت على ما يُعرف ببروتوكول الدار البيضاء في 11 أيلول/ سبتمبر 1965؛ على مساواة معاملة اللاجئين الفلسطينيين بمواطني تلك البلدان في ما يتعلق بالحقوق المدنية والاقتصادية، وتوفير الحياة الكريمة لهم، ومنحهم وثائق سفر (وليس جوازات سفر) لتسهيل سفرهم، ودون إعطائهم الجنسية أو الحقوق السياسية، وذلك لإبقاء صفة اللجوء قائمة، وبقاء قضيتهم حية. وبالرغم من أن الوثيقة تحولت مع الزمن إلى قصة معاناة هائلة لحامليها (لا مجال لاستعراضها في هذا المقال)، إلا أنها بقيت شاهداً على كارثة اللجوء الفلسطيني، وارتباطها بحل سياسي لا ينتهي إلا بعودة الفلسطينيين إلى أرضهم وبيوتهم التي أُخرجوا منها.
يحمل ملايين الفلسطينيين وثائق سفر، أغلبها وثائق سفر مصرية لأبناء قطاع غزة، وهناك وثائق سفر سورية لنحو 600 ألف فلسطيني، ووثائق سفر لبنانية لما لا يقل عن 300 ألف فلسطيني (المسجلون لدى الأونروا في لبنان يزيدون عن 540 ألفاً، والإحصاء الرسمي للاجئين المقيمين في لبنان يتحدث عن 174 ألفاً). وهناك جوازات سفر أردنية مؤقتة (لا تحمل رقماً وطنياً) لما يزيد عن نصف مليون فلسطيني من أبناء الضفة الغربية (بما فيها القدس) وأبناء قطاع غزة المقيمين في الأردن.
إن مثل هكذا قرار أو إجراء لا يمكن التعامل معه باعتباره مجرد إجراء روتيني أو شأناً داخلياً؛ فموضوع اللاجئين الفلسطينيين ووثائقهم وجوازاتهم هو شأن سياسي بامتياز، والسياسات المرتبطة به يُفترض أن تتم بالتوافق بين البلدان العربية وبين الفلسطينيين أنفسهم، بعد استيعاب وتقدير النتائج المترتبة على هكذا قرارات. كما لا يمكن عزل هذا الإجراء عن التطورات السياسية في المنطقة، وما يُشاع عن "صفقة القرن"، خصوصاً أن لهذا الإجراء انعكاساته السلبية على قضيتين حساستين هما القدس واللاجئون.
أهل القدس الذين يشكلون نسبة كبيرة من حملة الجوازات الأردنية المؤقتة، هم جهة متضررة من القرار. فهناك معركة سكانية ديموغرافية في القدس تستدعي دعم صمود وبقاء كل واحد من أهل القدس للحفاظ على هويتها الفلسطينية العربية الإسلامية، في مواجهة حملات التهويد والتهجير الإسرائيلية. وأبناء القدس يحتفظون بهويات مقدسية تمكنهم من الإقامة فيها؛ غير أنهم إذا ما قاموا بالحصول على جوازات سفر فلسطينية، فإن سلطات الاحتلال ستصادر هوياتهم المقدسية، وتحرمهم من الإقامة في القدس. فإذا ما كان من المتوقع أن يذهب نحو 30 ألف مقدسي للعمرة هذا العام (بناء على تقدير جهة متخصصة)، لأدركنا حجم المشكلة.
غير أنه من جهة أخرى، فإن حصول المقدسي على الجواز الفلسطيني له إجراءاته، إذ إنه غير متاح إلا لمن يفقد إقامته في القدس، حتى يسمح له بالحصول على هوية فلسطينية (عن طريق لمّ الشمل مع شخص يملك هوية)، ثم بعد ذلك يحصل على الجواز.
قد يكون ثمة مخرج بأن تُصدر السلطة الفلسطينية للراغبين بالسفر للسعودية جوازات سلطة مؤقتة لسفرة واحدة (لا تحمل رقماً وطنياً) ويتم التخلص منها فور الرجوع من السفر. لكن إذا كانت السلطة تتسامح في التعامل مع بضع مئات من الحالات للذهاب للحج (حوالي 400 هذا العام)... فكيف ستتعامل مع عشرات الآلاف؟ وماذا لو لم يجد أهل القدس (القابضين على الجمر) حلولاً عملية؟ وهل سيؤدي ذلك في النهاية إلى دفع أعداد من المقدسيين إلى الحصول على الجوازت والجنسية الإسرائيلية لتسهيل حركتهم وسفرهم؟ وهو ما يصبّ عملياً في المشروع الصهيوني بضمّ شرقي القدس إلى الكيان الإسرائيلي؛ وهو ما يجب التحذير منه.
من ناحية أخرى، فإن اضطرار الفلسطينيين من حملة وثائق المقيمين في الخارج للحصول على جوازات سفر من السلطة الفلسطينية، سيصبُّ باتجاه إلغاء وإنهاء صفة "اللاجئ" عنهم. إذ إن التصريح بامتلاك هذا الجواز في الدول التي يملكون فيها وثائق سفر؛ سيؤدي عادة إلى تخييرهم بين وثيقة السفر وبين الجواز الفلسطيني لعدم إمكانية الجمع بينهما، وهو تصرف إجرائي معتاد تقوم به إدارات الجوازات والداخلية في البلدان العربية؛ يحتاج إيقافه إلى قرار رسمي عربي واضح وحاسم.
وبغض النظر عن الشكل الذي ستتصرف به السلطة الفلسطينية، أو المدى الذي ستسير عليه الدول العربية في التعامل الإيجابي أو السلبي مع الإجراء السعودي، فإنه يجب التأكيد على الخطورة وعلى الحساسية البالغة للموضوع، خصوصاً أن "ترسيمه" والإصرار عليه سيمس ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وسيُنظر إليه باعتباره يصبّ في "صفقة القرن"، بالنظر إلى أن الإجراءات الأمريكية قد بدأت على الأرض في الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي وفي نقل السفارة الأمريكية للقدس. وكذلك في محاربة الأونروا ومحاولة إغلاقها، بل والضغط على الأردن لإلغاء صفة اللاجئ عن أكثر من مليوني فلسطيني يحملون بطاقات الأونروا.
سياسياً، لعل عدم اتخاذ السعودية قراراً رسمياً يوحي بشيء من التردد والاختلاف الداخلي في إنفاذه، كما يمكن قراءته بأنه "بالون اختبار" لدراسة ردود الفعل وقياسها. ولعل تسمية الملك سلمان للقمة العربية التي عقدت في السعودية بقمة القدس، وقيامه بسحب ملف صفقة القرن قبل نحو ثلاثة أشهر من يد ابنه محمد، وربط الموافقة السعودية على التسوية بالمبادرة العربية وبالموافقة الفلسطينية، يشير إلى أن الحماسة السعودية تجاه "صفقة القرن" قد أخذت بالخفوت.
إن من حق اللاجئ الفلسطيني أن يعيش بكرامة ويتحرك ويسافر بحرية، وأن تكون "وثيقته" شهادة على جرائم المشروع الصهيوني، ومدعاة للتضامن معه ودعمه، وليس وسيلة لزيادة معاناته وإذلاله.ولا ينبغي أن يُحشر في زاوية اتخاذ قرارات صعبة ومرة.
وبالتالي، يصبح من واجب الجميع العمل على وقف هكذا إجراءات بحق أصحاب وثائق السفر والجوازات المؤقتة.
المصدر: موقع "عربي 21"، 5/10/2018