بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
عكست سنة 2018 حالة تصاعد الاستهداف الإسرائيلي الأميركي للملف الفلسطيني، في بيئة سياسية فلسطينية مأزومة ومنقسمة، و بيئة عربية وإسلامية ضعيفة ومفككة ومنشغلة بأزماتها الداخلية، ومحاولة بعضها استرضاء أمريكا، ولو على حساب فلسطين، أو على حساب شعوبها.
نختار في هذا المقال أن نقف على عشر محطات في تقييمنا للمسار الفلسطيني خلال سنة 2018.
أولاً: استمرار أزمة المشروع الوطني الفلسطيني. ما زال الوضع السياسي الفلسطيني يعاني من أزمة سياسية خانقة تتسبب في تعطيل قدرته على العمل الفعال، وفي إهدار الكثير من طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته، وفي إضعاف قدرته على تحشيد البيئات العربية والإسلامية والدولية، والاستفادة منها في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني.
هذه الأزمة تتجلى في القيادة الفلسطينية نفسها، التي لم تتمكن من الارتقاء إلى مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني وتطلعاته. وتتجلى من ناحية ثانية في المؤسسات التمثيلية والتشريعية الفلسطينية؛ حيث استمر تراجع منظمة التحرير الفلسطينية وتدهورها وفشلها في استيعاب مكونات الشعب الفلسطيني وقواه، وغياب مؤسساتها ودوائرها عن العمل والتأثير في الداخل والخارج، وانزواؤها لصالح تغوُّل السلطة الفلسطينية عليها. كما استمر الأداء الوطني الهزيل للسلطة الفلسطينية التي تكرَّس دورها في خدمة أغراض الاحتلال الإسرائيلي وأهدافه، أكثر من خدمة الشعب الفلسطيني. وزاد الأمر سوءاً تعطّل المسار الديمقراطي الانتخابي في المنظمة والسلطة، مع استمرار هيمنة فصيل فلسطيني واحد عليهما. ومن ناحية ثالثة ما زالت حالة تعارض الأولويات والمسارات بين تياري المقاومة والتسوية تلقي بظلالها، في تضارب الأداء، واتهام كل طرف للآخر بتعويقه وتعطيله عما يراه برنامجاً وطنياً. وقد انعكست هذه الأزمة على باقي البنى المؤسسية وعلى الأعمال النقابية والمهنية، وعلى النزاعات الميدانية على الأرض، مما زاد من أزمة الثقة بين الأطراف المتنازعة، كما أضعف من فرص التنسيق على الأرض، ومن القدرة على مواجهة المخاطر والتحديات.
ثانياً: تراجع مسار المصالحة الفلسطينية. استمرت حالة التعطُّل في مسار المصالحة معظم سنة 2018، مع إصرار قيادة فتح (قيادة السلطة والمنظمة) على استمرار العقوبات على قطاع غزة، وعلى “التمكين” الكامل لحكومتها في القطاع على ما هو “فوق الأرض وتحت الأرض”، ومن “الباب إلى المحراب”؛ وهو ما رأت فيه حماس وباقي فصائل المقاومة تعارضاً مع اتفاق المصالحة لسنة 2011، ومع اتفاق القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول2017. كما استمرت الأجواء المشحونة بالاتهامات المتبادلة. غير أن قيام قيادات السلطة بالاستقواء بالمحكمة الدستورية لإصدار حكم بحل المجلس التشريعي قد أنهى سنة 2018، بحالة تدهور كبيرة بالنسبة لمسار المصالحة؛ خصوصاً أن المحكمة الدستورية نفسها هي موضع تساؤل من حيث شرعيتها، بالإضافة إلى أن البت في حلّ التشريعي ليس من صلاحيتها، فضلاً عن وجود نصوص دستورية حاسمة في النظام الأساسي الفلسطيني تقضي باستمرار المجلس إلى حين انتخاب مجلس جديد.
ثالثاً: مزيد من العزلة السياسية لحركة فتح ومسار التسوية. فالطريقة التي يدير بها محمود عباس وقيادةُ فتح منظمةَ التحرير والسلطة الفلسطينية والإطار القيادي المؤقت وملف المصالحة…، أدت عملياً إلى أن فتح مع نهاية 2018 وجدت نفسها شبه وحيدة في المسار الذي تصرّ عليه.
فقد قاطعت الجبهة الشعبية المجالس المركزية الثلاثة التي عُقدت سنة 2018، كما قاطعت المجلس الوطني الذي عُقِدَ أواخر أبريل/نيسان 2018 في رام الله، بخلاف التوافقات الفلسطينية التي تمت في بيروت أوائل2017. وقاطعت الجبهة الديمقراطية آخر اجتماعين للمجلس المركزي، كما قاطعت المبادرة الوطنية آخر اجتماع لهذا المجلس. وثمة شبه إجماع فلسطيني على رفض العقوبات التي تصرّ عليها قيادة فتح على قطاع غزة، كما أن ثمة شبه إجماع فلسطيني على رفض حلّ المجلس التشريعي الفلسطيني… وبذلك وجدت فتح نفسها مع نهاية تلك السنة أكثر انعزالاً عن باقي البيئة السياسية الفلسطينية؛ في الوقت الذي كانت فيه هذه الفصائل أكثر اقتراباً في الإطار السياسي من حماس ومواقفها.
رابعاً: تصاعد استهداف القدس وتصاعد الاستيطان. مع قرار الإدارة الأميركية بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، ومع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تصاعدت حملة الاستهداف الصهيوني اليهودي للقدس طوال سنة 2018؛ فشهد المسجد الأقصى خلالها اقتحامات لـ29,900 مستوطن، بزيادة 17% من السنة السابقة. كما استمرت حملات مصادرة الأراضي والتهويد والبناء الاستيطاني في الضفة الغربية، وخصوصاً في القدس، فنشرت الحكومة الإسرائيلية عطاءات لبناء 5,618 وحدة استيطانية، كما أقرَّت مخططات لبناء 3,808 وحدات استيطانية أخرى؛ في الوقت الذي تجاوز فيه عدد المستوطنين اليهود 800 ألف مستوطن؛ يتمتعون بنفوذ سياسي كبير في الحكومة الإسرائيلية.
خامساً: استمرار العمل المقاوم. على الرغم من الصعوبات البالغة التي يعاني منها خط المقاومة، خصوصاً في مناطق الاحتكاك المباشر في الضفة الغربية، بسبب التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وبين الاحتلال الإسرائيلي الذي أدى إلى كشف الكثير من خلايا المقاومة، وإلى منع الكثير من العمليات قبل وقوعها؛ إلا أن عمليات المقاومة بأشكالها المختلفة استمرت. فبالإضافة إلى آلاف من حالات الاحتكاك المباشر بالحجارة وقنابل المولوتوف وغيرها؛ فقد تمّ تسجيل ما لا يقل عن 400 عملية متنوعة من هجوم بالسلاح، وعمليات طعن، وعمليات دعس… وغيرها، هذا بالإضافة إلى اشتباكات المقاومة في قطاع غزة مع الاحتلال، وخصوصاً ما يُعرف بعملية “حدّ السيف” الناتجة عن محاولة مجموعة أمنية إسرائيلية اختراق قطاع غزة. وخلال سنة 2018 قُتِلَ 16 إسرائيلياً وجُرح نحو 200 آخرين. بينما استشهد 312 فلسطينياً وجرح نحو 31,500 آخرين. وقامت سلطات الاحتلال باعتقال 6,489 فلسطينياً؛ بينما بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال نحو 6 آلاف أسير.
سادساً: مسيرات العودة. تعدُّ هذه المسيرات التي انطلقت في 30 مارس/آذار 2018 إحدى العلامات الفارقة لهذه السنة. فقد تجلت في هذه المسيرات الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتكاتفت قوى الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على إنجاحها؛ ووجهت غضب أهل القطاع من معاناتهم نتيجة الحصار إلى العدو الصهيوني. وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمتها على مدى 40 أسبوعاً، حيث استشهد 253 شهيداً وجرح 25,477 جريحاً؛ فقد أربكت كافة الرهانات الأميركية الإسرائيلية على إنفاذ صفقة القرن وتطبيقها على قطاع غزة، وأكدت تمسك الشعب الفلسطيني بحق العودة إلى الأرض المحتلة سنة 1948، ودعمت خيار الشعب بحقه في المقاومة وتمسكه بسلاحها. وهو ما أرغم الطرف الإسرائيلي على تخفيف الحصار عن القطاع، وفي إدخال البضائع، وأسهم بشكل كبير في فتح المعابر وتسهيل حركة الأفراد.
سابعاً: انتهت سنة 2018 بوضع اقتصادي فلسطيني بئيس (في الضفة والقطاع) مقارنة بالجانب الإسرائيلي. فبلغ ما يسمى “الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي” لهذه السنة نحو 367 مليار دولار مقابل نحو 13 ملياراً و 780 مليون دولار للسلطة الفلسطينية، أي أكثر من ناتج السلطة بـ27 ضعفاً (2,730%). بينما بلغ دخل الفرد الإسرائيلي للسنة نفسها نحو 41,300 دولار مقابل 3,030 دولاراً للفرد الفلسطيني في مناطق السلطة، أي أكثر من دخل الفرد الفلسطيني بنحو 14 ضعفاً (1,363%). وهو ما يعكس بشاعة الاحتلال الصهيوني واستغلاله للموارد والثروات الفلسطينية، وتعطيله لأي عملية تنموية فلسطينية؛ كما يعكس عجز السلطة الفلسطينية وسوء إدارتها للملف الاقتصادي الفلسطيني. هذا دون أن نتحدث عن اتساع دوائر الفقر والبطالة الفلسطينية، والمعاناة من الحصار، وتحكم الاحتلال في صادرات السلطة ووارداتها… وغير ذلك.
ثامناً: مزيد من التطرف اليميني والديني الإسرائيلي. وفي هذه السنة تزايد اتجاه المجتمع الصهيوني نحو اليمين ونحو التيارات الدينية، بينما ازداد ما يسمى “اليسار” الصهيوني تحلُّلاً وتفككاً، بل إنه أخذ شكلاً “يمينياً” في مقولاته وأطروحاته. ولا يتوقع لهذا اليسار الذي تجمع سابقاً في المعسكر الصهيوني أن يحصل إلا على نحو عشرة مقاعد في الانتخابات القادمة، بعد أن كان يملك 24 مقعداً. كما يتوقع أن يحافظ الليكود بقيادة نتنياهو على موقعه القيادي المتصدر. وما زالت فرص اليمين لتشكيل أغلبية في الكنيست وتشكيل الحكومة قوية، مما يفتح المجال لنتنياهو أن يشكل حكومته الخامسة، ليصبح أكثر رؤساء الوزراء حكماً في تاريخ الكيان الإسرائيلي.
تاسعاً: ما زالت البيئة العربية تعاني من حالة من اللا استقرار، ومن الضعف والانقسام، والتخلف السياسي والاقتصادي والعلمي، وتعاني من مشاكل الأنظمة مع شعوبها، ومن استنزاف ثرواتها…؛ وهو ما ينعكس سلباً على الشأن الفلسطيني. وقد برز ذلك بشكل أوضح سنة 2018، من خلال تجارب عدد من البلدان العربية مع “صفقة القرن” الأميركية، ومن انفتاحها بشكل مكشوف على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ الذي يسعى للاستفراد بالملف الفلسطيني، وإلى توجيه بوصلة الصراع (بدل أن تكون ضدها) إلى صراعات طائفية وعرقية تزيد المنطقة العربية تشتتاً وضعفاً وتشرذماً. غير أن عدداً من البلدان العربية ما زال داعماً للملف الفلسطيني، بل تزايد إدراك عدم إمكانية تجاوز خط المقاومة.
عاشراً: ما زال الطرف الأميركي يهيمن على المنظومة الدولية فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، وبالرغم من سوء إدارة ترمب، والأزمات التي تسببت فيها مع العديد من القوى الدولية؛ إلا أنها اندفعت بشكل غير مسبوق لمحاولة تنفيذ الرؤية الصهيونية لإنهاء الصراع وإغلاق الملف الفلسطيني، حيث لا يعدو ما يعرف بصفقة القرن، ما هو معروف من أفكار الليكود واليمين الإسرائيلي. غير أن خطورة الأمر تكمن في محاولة التنفيذ العملي على الأرض لهذه الأفكار، دونما انتظار لموافقة أحد. وفي هذا السياق جاء نقل السفارة الأميركية للقدس، وجاءت محاولات شطب الأونروا، ومحاولات إدانة حماس في الأمم المتحدة، والضغط على البلدان العربية للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
وأخيراً، إذا كانت حصيلة سنة 2018 تعبر عن حالة الضعف القيادي والمؤسسي الفلسطيني، فإنها تعبر أيضاً عن صلابة الإرادة الشعبية الفلسطينية في الصمود والمقاومة؛ على الرغم من أنها تعمل في بيئة عربية ضعيفة مفككة وفي بيئة دولية غير مواتية. ثم إن الظروف المحلية والإقليمية والدولية بقدر ما تحمل من مخاطر، بقدر ما تحمل من فرص. وهو ما يُملي على أصحاب الحق الفلسطيني التعامل معها بفاعلية وكفاءة، في أجواء مفصلية من تاريخ قضية فلسطين وتاريخ الأمة.