بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
ناقشنا في حلقات سابقة 12 وهماً في العمل الفلسطيني، ونناقش في هذا المقال وهمين آخرين.
الوهم الثالث عشر: تأخر الإسلاميين عن المشاركة في المقاومة المسلحة:
يتهم البعض التيار الإسلامي بغيابه عن المقاومة الفلسطينية المسلحة لعقود، وأنه جاء متأخراً بعد انطلاقة حركة حماس سنة 1987؛ وبعد أن حملت القوى الوطنية واليسارية العبء الأكبر لعشرات السنوات.
يخلط هؤلاء ويفصلون عن عمد أو عن جهل بين التيار الإسلامي وبين الإخوان المسلمين وبين حماس. فالتيار الإسلامي “الحركي” الفلسطيني أوسع من الإخوان وأوسع من حماس. ومقاومته المسلحة هي الأقدم والأعرق في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر. وحماس لم تنشأ من فراغ، والمقاومة المسلحة لتنظيم الإخوان الذي نشأت عنه وتنتمي إليه، تعود على الأقل إلى حرب 1948؛ مما تجعله أقدم تنظيم عامل في ميدان المقاومة، وإن شهد فترات من التقطّع كما شهدت التيارات الأخرى.
تعود أولى حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية التي تحمل طابعاً إسلامياً إلى مطلع 1919 مع بدايات الاحتلال البريطاني لفلسطين. وكان هناك جمعيتان سريتان الأولى جمعية “الكف الأسود” التي نشأت في كانون الثاني/ يناير 1919 والتي أصبح اسمها “الفدائية” في شهر أيار/ مايو 1919 وكان لها فروع في يافا والقدس وغزة ونابلس وطولكرم والرملة والخليل واستمرت حتى 1923، وكان زعيمها الذي تدين له بالولاء الحاج أمين الحسيني ابن مدرسة الدعوة والإرشاد التي كان يديرها العلامة محمد رشيد رضا. وسيكون الحاج أمين بعد ذلك مفتي فلسطين 1921 ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى 1922، وموجهاً وراعياً للانتفاضات من وراء ستار، ثم قائداً للثورة بعد نزوله للميدان 1936. والجمعية الثانية هي جمعية الإخاء والعفاف التي كان خلفها العلماء، وخصوصاً علماء القدس، وكان يرأسها الشيخ سعيد الخطيب، وفي قيادتها الشيخ محمد يوسف العلمي والشيخ حسن أبو السعود وغيرهم.
وهناك حركة رائدة أخذت شكل التنظيم الإسلامي الحركي هي حركة “الجهادية” التي أنشأها الشيخ عز الدين القسام سنة 1935، والتي بدأت بالمشاركة المسلحة منذ ثورة البراق 1929، غير أن إعلان انطلاقتها كان في تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، بعد أن نظمت ودربت سراً نحو ألف من الأعضاء والأنصار، وهي الحركة التي فجرت شرارة الثورة الكبرى في فلسطين في 15/4/1936 بالعملية العسكرية التي نفذها الشيخ فرحان السعدي الذي خلف الشيخ القسام في القيادة بعد استشهاده؛ وهي الحركة التي أطلقت المرحلة الثانية من الثورة الكبرى عندما اغتال أعضاؤها أندروز الحاكم البريطاني للواء الجليل في 26/9/1937. وقد قادت جماعة القسام في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، وخصوصاً مرحلتها الثانية، مناطق شمال ووسط فلسطين.
أما منظمة “الجهاد المقدس” بقيادة عبد القادر الحسيني، التي نشطت خصوصاً في مناطق القدس والخليل، والتي كانت برعاية المفتي الحاج أمين، فقد انسجم فيها الوعاء الوطني مع الروح الإسلامية؛ في تعبير صادق عن الروح الإسلامية المعتدلة المنفتحة للوطنية الفلسطينية المقاومة. وشارك فيها مقاومون مسيحيون. وقدم عبد القادر الحسيني ورفاقه نماذج بطولية كبيرة في الثورة الكبرى وفي حرب 1948.
من جهة أخرى، فإن جماعة الإخوان المسلمين التي تشكَّل تنظيمها الفلسطيني في أربعينيات القرن العشرين، قد شاركت بفعالية في حرب 1948. وعندما انتهت الحرب لم يُلقِ الإخوان المسلمين السلاح، وأعادوا تنظيم أنفسهم في تنظيم عسكري سري في قطاع غزة، خصوصاً في الفترة 1952-1954، برعاية الإخوان المصريين، وبقيادة وإشراف كامل الشريف (وقد سبق أن نشرنا دراسة حول هذا العمل). ولذلك، كان تنظيم الإخوان هو من أوائل من أطلق العمل العسكري المقاوم بعد حرب 1948، إلى جانب بعض مجموعات المقاومة التي كان يرعاها المفتي الحاج أمين.
وقد كان واضحاً أن حركة فتح خرجت من بيئة الإخوان الفلسطينيين، وخصوصاً تنظيمهم العسكري، وتركزت عضويتها وتجنيدها على أفراد الإخوان في سنواتها الأولى؛ حيث نحت منحى وطنياً بعد أن قام نظام عبد الناصر بضرب تنظيم الإخوان ومطاردتهم، حتى تتمكن من متابعة المقاومة بعيداً عن حالة العداء للإسلاميين. ولعل القارئ يعلم الخلفية الإخوانية لخليل الوزير (أبو جهاد)، وعبد الفتاح حمود، وصلاح خلف (أبو إياد)، ويوسف عميرة، وكمال عدوان، ومعاذ عابد، وحمد العايدي، وهاني الحسن، وسليم الزعنون، ورياض الزعنون، ومحمد يوسف النجار، ورفيق النتشة، وأبو هشام المزين… وكثير غيرهم.
أضعفت المطاردات الشرسة للإخوان، وصعود التيارات اليسارية والقومية، من قدرة الإخوان والتيارات الإسلامية على العمل المقاوم، مما أدخلهم في مرحلة من الكمون والمحافظة على النفس، منذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الستينيات. غير أن الإخوان عادوا للمشاركة بفعالية في العمل المقاوم من خلال معسكرات الشيوخ 1968-1970 بالتنسيق مع حركة فتح.
ويبدو أن التيار الإسلامي الفلسطيني، أراد أن يؤسس حالة تنظيمية وشعبية قوية عميقة الجذور تستطيع الصمود والاستمرار عند الدخول في العمل العسكري المقاوم؛ ففضلوا التريّث في الوقت الذي نشطوا فيه دعوياً وتربوياً واجتماعياً ونقابياً. وهو تريُّثٌ لم يرضَ عنه عدد من شباب الإخوان؛ فقام الدكتور فتحي الشقاقي وعدد من رفاقه بتأسيس حركة الجهاد الإسلامي 1980، لتصبح هذه الحركة أحد أبرز قوى المقاومة المسلحة الفلسطينية منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
من ناحية أخرى، قام أبناء الحركة الإسلامية من فلسطينيي 1948 بإنشاء “أسرة الجهاد” أواخر سبعينيات القرن العشرين برعاية الشيخ عبد الله نمر درويش، وقيادة فريد أبو مخ وعدد من رفاقه، ونفذوا العديد من العمليات. غير أن الاحتلال الإسرائيلي تمكن من ضربها، واعتقال الكثير من أفرادها.
وفي أوائل الثمانينيات أنشأ الشيخ أحمد ياسين تنظيماً عسكرياً في قطاع غزة، غير أن سلطات الاحتلال تمكنت من ضربه، ومن اعتقال الشيخ أحمد ياسين وعدد من رفاقه 1984. وقد أفرج عن الشيخ أحمد في صفقة تبادل الأسرى في السنة التالية.
لذلك، فإن ظهور حركة حماس 1987 هو استمرار لمسيرة طويلة من العمل الإسلامي الفلسطيني المقاوم، الذي لم يتوقف على مدار المائة سنة الماضية.
الوهم الرابع عشر: إطلاق حركة فتح للرصاصة الأولى سنة 1965:
كما لاحظنا في مناقشة الوهم السابق، فإن المقاومة الفلسطينية المسلحة أصيلة وعميقة الجذور في التاريخ الفلسطيني الحديث؛ وقد قام رجالها بمواجهة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني منذ البداية. ونشأت تنظيمات مسلحة سبقت انطلاقة حركة فتح بأكثر من أربعين عاماً. وانطلقت رصاصات أبطال المقاومة في ثورات القدس 1920، ويافا 1921، والبراق 1929، والقسام 1935، والثورة الكبرى 1936-1939، وحرب فلسطين 1948.
وقد يجادل مؤيدو فتح أن المقصود بالرصاصة الأولى هو الثورة التي تلت نكبة حرب 1948؛ غير أنه (كما أشرنا) فإن العمل المقاوم لم يتوقف بعد النكبة، فنشأ التنظيم العسكري للإخوان في قطاع غزة في النصف الأول من الخمسينيات، وقام بعدد من العمليات، وكان في قيادته خليل الوزير وعدد من رفاقه ممن أنشأوا فتح لاحقاً.
وحتى إذا كان المقصود بالرصاصة الأولى فترة الستينيات، فقد كانت هناك تنظيمات فلسطينية انشغلت بالعمل الفدائي أو التحضير له، مثل فرع فلسطين في حركة القوميين العرب الذي شكّل في أيار/ مايو 1964 “الجبهة القومية لتحرير فلسطين”، ومارس العمل الفدائي، وقدّم أول شهدائه في 2/11/1964 قبيل انطلاقة الجناح العسكري لفتح بنحو شهرين. كما أطلقت “جبهة تحرير فلسطين” عملها العسكري في منتصف 1965.
ومن الناحية التاريخية، ثمة تجاهل في الأدبيات الفلسطينية للعمل المقاوم في الفترة 1949-1956، حيث نفّذ أفراد فلسطينيون ومجموعات صغيرة الكثير من العمليات. وتعترف التقارير الإسرائيلية بعشرات الآلاف من الاختراقات الحدودية، كان جزء منها مرتبطاً بالعمل المقاوم. كما تعترف هذه التقارير بمقتل نحو 280 إسرائيلياً مدنياً، ونحو 260 جندياً إسرائيلياً في الفترة نفسها، حيث قُتل عدد كبير منهم على يد رجال المقاومة، أو من تسميهم التقارير الإسرائيلية “المتسللين”.
تمتلئ أدبيات حركة فتح بأنها أطلقت الرصاصة الأولى، حتى بدا وكأن ذلك بديهية لا تقبل النقاش، ونحن هنا معنيون ابتداء بإثبات الحقائق التاريخية. وحركة فتح لن تخسر كثيراً بالتخلي عن هذا الادعاء. فما هو أهم أنها عندما أطلقت رصاصتها استمرت دونما توقف، وعملت في أجواء وظروف صعبة وقاسية، وقد نجحت فتح في التعبير عن هموم الإنسان الفلسطيني العادي “غير المؤدلج”. كما قادت المشروع الوطني، وحافظت على شعبية واسعة، على مدى عشرات السنوات. وكانت العمود الفقري للمقاومة المسلحة حتى منتصف الثمانينيات، وشاركت بفعالية في الانتفاضات الفلسطينية. وما زال أسراها هم الأكثر عدداً في السجون الصهيونية.
ومن ناحية أخرى، فيجب التنبيه إلى أن عدداً من منتسبي فتح يستخدم هذه المقولة في التوظيف السياسي، بشكل يلغي أو يقلل من دور الآخرين، ويحاول أن يعطي الشرعية لمن أطلق هذه الرصاصة للتحدث باسم الفلسطينيين وتمثيلهم أو لإسكات الخصوم والناقدين والمنافسين؛ خصوصاً بعد أن تبنت فتح مسار التسوية السلمية وتولت قيادة السلطة الفلسطينية…، وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق.
المصدر: موقع ”عربي 21“، 29/10/2021