نحو فهم أفضل للسياسة الروسية الدولية وانعكاساتها على الشرق الأوسط

بقلم: علي البغدادي (خاص مركز الزيتونة)

مدخل:

ما تزال عودة روسيا النشطة للسياسة الدولية وتأثيرها في منطقتنا بشكل خاص تحظى باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة، لا سيما في منطقتنا العربية حيث لم تعد مجرد لاعب دولي له مصالحه في المنطقة، بل أصبحت منخرطة في قضاياها، لدرجة اعتبارها قوة إقليمية تؤثر وتتأثر بالوضع في منطقة الشرق الأوسط.

إن هذا الموقف الروسي الحالي النشط في العديد من بقاع العالم ينطلق من مقولة أن لروسيا مجالين حيويين رئيسيين: الأول هو مجال الاتحاد السوفياتي السابق والنظر إلى ارتباط مصالح روسيا مباشرة مع هذا المحيط القريب، وهذه المقولة تجلت بشكل واضح في أعقاب حرب عام 2008 مع جورجيا، حينما ردت روسيا بقوة على محاولات اللعب بخاصرتها الجنوبية في أبخازيا، وكذلك رفضها للنظام الأمني الذي تم بعد الحرب الباردة في أوروبا، ومحاولات توسيع الناتو، ولذلك كان الرد حاسماً في ضم جزيرة القرم لروسيا في عام 2014.

أما المجال الثاني فهو ما تقوم به موسكو في الآونة الأخيرة من توسيع لنطاق السياسة الخارجية في أجزاء مختلفة من العالم، خصوصاً في المناطق التي كانت محسومة للنفوذ السوفياتي سابقاً، بعد غياب استمر ما يقرب من ثلاثة عقود.

للوهلة الأولى قد يبدو أن محاولات موسكو لإنشاء شبكة من العلاقات والتأثير في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأجزاء أخرى من العالم، هي عنصر جديد في السياسة الخارجية الروسية؛ لكن حقيقة الأمر أن السياسة الخارجية الروسية ظلت تتطور إلى مرحلتها الموسعة الحالية لأكثر من عقدين. علاوة على ذلك فإن طموحاتها لها جذور أعمق بكثير وهي تمتد إلى الحقبة السوفياتية، بل وحتى إلى فترات سابقة في التاريخ الروسي القيصري.

لا بدّ من فهم ثلاثة دوافع رئيسية للسياسية الروسية المعاصرة، لفهم السلوك الروسي في العالم، ومن باب أولى في منطقتنا:

الدافع الأول: سعي روسيا إلى تحقيق عمق استراتيجي وتأمين حدودها ضدّ التهديدات الخارجية، فعند النظر إلى الجغرافيا الروسية، وغياب الحواجز الطبيعية الواقية بينها وبين القوى المجاورة، يصبح التوسع الجغرافي والحفاظ عليه سمة أساسية من سمات التفكير الاستراتيجي الروسي.

الدافع الثاني: الطموح في نيل الاعتراف كقوة عظمى، وهو ما ظلّ الكرملين ينظر إليه منذ فترة طويلة على أنه ضروري، لإضفاء الشرعية على غزواته الجغرافية وطموحاته الجيوسياسية.

الدافع الثالث: وهو مرتبط بالأول والثاني، وهو علاقة روسيا المعقدة بالغرب، التي تجمع بين التنافس أحياناً والحاجة إلى التعاون أحياناً. وهو ما ينعكس على تعريف الهوية الروسية بأنها (أوراسية) أي أنها حالة خاصة ليست أوروبية ولا آسيوية.

وفي الوقت الذي ترتبط فيه السياسة الخارجية الروسية النشطة المعاصرة بالرئيس فلاديمير بوتين Vladimir Putin، إلا أنها في الواقع قد تم إطلاقها قبل أن يصبح رئيساً، فالأب الروحي لهذه السياسة هو يفغيني بريماكوف Yevgeny Primakov، الذي تمّ تعيينه وزيراً للخارجية في عام 1996، وهو من صاغ ما أصبح يعرف باسم مبدأ بريماكوف. وحسب بريماكوف، فإن روسيا لم تعد تتبع قيادة القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، لكنها ستضع نفسها كمركز مستقل للسلطة على المسرح العالمي، مما يسهم في تطوير عالم متعدد الأقطاب كبديل للولايات المتحدة.

هذه الرؤية أصبحت معتمدة في السياسة الخارجية الروسية منذ ذلك الحين، وكان العديد من صانعي السياسة والمراقبين الغربيين بطيئين في أخذ رؤية بريماكوف في ظاهرها، مقتنعين بأن روسيا أضعف من أن تنهض بمفردها، ناهيك عن إنشاء نظام بديل للنظام الدولي الجديد الذي نشأ بعد عام 1989 بقيادة الولايات المتحدة. ولكن مع تحسن الاقتصاد الروسي وحصول موسكو على المزيد من الموارد لتنفيذ هذه الرؤية، تطورت سياستها من حالة الرفض السلبي نسبياً للمبادرات الغربية إلى شكل من المقاومة الأكثر نشاطاً، وفي نهاية المطاف تحولت إلى سياسة خارجية نشطة، مع نطاق جغرافي طموح. وقد سمح بذلك الاستفادة من الموارد الكبيرة الموجودة تحت تصرفها، والاستعداد للاستفادة من بيئة خارجية مواتية، وتراجع النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. كما أنه من المتوقع أن يزداد التأثير الروسي الدولي حيث إن موقع روسيا الجغرافي فريد من نوعه، وسيبقى كذلك لعدة عقود أخرى. إذ من المتوقع أن يتقلص الغطاء الجليدي في المحيط المتجمد الشمالي بدرجة كبيرة، وبالتالي سيتم تحويل هذا المحيط إلى شبكة من الطرق التجارية السريعة، مما يعطي روسيا فرصة تاريخية لتصبح قوة بحرية، وهذا سيكون تطوراً استراتيجياً مهماً.

السياسة الروسية: نجاحات وإخفاقات:

يشعر الروس بالفخر في هذا العام لما حققته سياستهم النشطة من إنجازات، لا سيما في الملف السوري، وفي الواقع فإن النجاح يولد المزيد من النجاح، ومنذ عودة بوتين إلى الرئاسة في عام 2012، تم تعزيز سجله من خلال ما يعدُّه المراقبون الروس انتصارات مهمة، إذ إن ضمّ شبه جزيرة القرم، والحرب في شرق أوكرانيا، والانتشار العسكري في سورية، والتحرشات العسكرية المتواترة مع الغرب في بحر البلطيق والبحر الأسود، والتدخل في السياسة المحلية الأمريكية والأوروبية، كلها عوامل عززت صورة روسيا كقوة عظمى ذات إمكانات كبيرة، بالإضافة إلى سمعة بوتين كداهية سياسي وشريك مهم، وقد أظهرت هذه الإنجازات للعالم أيضاً ميل روسيا إلى المجازفة والتحدي، إلى جانب تراكم قدراتها القتالية خصوصاً في مجال العمليات التكتيكية المحدودة، كما ظهر جلياً تفوقها في الحرب المعلوماتية. علاوة على ذلك، يشير سجل موسكو منذ عام 2012 إلى أنه لن يثنيها أو يعوقها صعوبات اقتصادية، لقد كان أداء الاقتصاد الروسي ضعيفاً منذ ذلك الحين، لكن الصعوبات الاقتصادية لم تضع العوائق أمام النشاط الروسي في الخارج. بل على العكس، فإن قدرة موسكو على تحمل كل من الصعوبات الاقتصادية المحلية والعقوبات الغربية، دون تغيير المسار، هي علامة على التزام موسكو بسياسة خارجية نشطة كخيار طويل الأجل.

وبالإضافة إلى روح التصميم والتحدي، استفادت موسكو من الفرص التي قدمها تردد الغرب وتقاعسهم عن اتخاذ قرارات حاسمة. على سبيل المثال، تم ضمّ شبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا على خلفية موقف منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو NATO) التي أوضحت أنها لن تتدخل وتخاطر بحرب مع روسيا على أوكرانيا. وبالمثل، تم نشر القوات العسكرية الروسية في سورية بعد أن أثبتت الولايات المتحدة وحلفاؤها عدم رغبتها في التدخل هناك. وفي أماكن أخرى، أدت الصراعات طويلة الأمد، مثل الصراعات في أفغانستان والعراق وليبيا، أو عدم المبالاة أو التردد الغربي في إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، كما هو الحال في البلقان، إلى إتاحة الفرصة لروسيا لإدخال نفسها وإيجاد حقائق جديدة على الأرض.

وفي الولايات المتحدة وأوروبا، أظهرت وسائل الإعلام الجديدة الانقسامات السياسية المتصاعدة، ووجود شرخ في النخب حول قضايا استراتيجية، وإحباط شعبي من النخب الحاكمة في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، وكل هذا مكن الروس من التدخل في السياسات المحلية عبر الأذرع الالكترونية.

وقد اشتمل نهج موسكو على الاستخدام المحدود نسبياً من حيث التكلفة للقوة العسكرية، بالاشتراك مع الأدوات غير العسكرية الأخرى. وقد تم دمج عمليات المعلومات والدعاية والتضليل، والعمليات السيبرانية، والحظر التجاري، ومجموعة واسعة من الأدوات الأخرى فيما أصبح يعرف باسم الحروب المختلطة. مما أوجد انطباعاً عند المراقبين بأن موسكو توصلت إلى مجموعة أدوات قوة جديدة بشكل أساسي.

وفي المقابل، أدى غزو روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 ودعمها للانفصاليين الأوكرانيين إلى نتائج عكسية؛ حيث وقعت كييف ومولدوفا وجورجيا اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وزادت من التعاون العسكري مع الدول الأعضاء في الناتو والدول الغربية الأخرى. وبالمثل في آسيا الوسطى، الفناء الخلفي لروسيا، حيث فقدت روسيا تفوقها الاقتصادي في المنطقة لصالح الصين، التي حققت أيضاً نجاحات عسكرية مهمة من خلال إجراء تدريبات مشتركة مع القوات المسلحة الطاجيكية والقيرغيزية. وما تزال موسكو تعاني من تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية، التي من غير المرجح أن تُرفع في أي وقت قريب، في حين أن محاولتها لإثارة الشعوبية اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا قد فشلت حتى الآن على الرغم من تصاعدها.

نحو فهم أعمق للعقلية الروسية:

ومع ذلك يفشل المراقبون، لا سيما في الغرب، في فهم العقلية الروسية والثقافة السياسية الروسية، إذ يحاولون إسقاط الواقع في الغرب على واقع روسيا، ونحن في منطقتنا من باب أولى لجديرين في مزيد من الفهم للروس، ففي حين إن المشاكل آنفة الذكر قد تكون كافية لإسقاط معظم الحكومات الغربية، إلا أن نفوذ بوتين على ناخبيه بقي قوياً، وذلك لأن السيادة السياسية في الغرب تنبع من الأسفل، بينما في روسيا تعتمد الحكومة على إجراءات قسرية للسيطرة على البلد الشاسع.

ومن هنا يفتقر الكرملين إلى القلق الشديد إزاء المظاهرات المناهضة للحكومة التي تعكس على النقيض من تضخيمها المفرط من قبل وسائل الإعلام الغربية، جزءاً صغيراً من السكان الروس، وحتى التجمعات الوطنية لمكافحة الفساد التي نظمها المرشح الرئاسي آنذاك، أليكسي نافالني Alexei Navalny لم تكن ذات تأثير يذكر.

ويساعد هذا أيضاً في تفسير فشل العقوبات في إحداث التأثير الحاسم الذي توقعته الحكومات الغربية. صحيح أن عدد الروس الذين أفقرتهم العقوبات ازداد بشكل كبير، ولكن في حين كان من المحتمل أن يؤدي هذا في الغرب إلى احتجاجات جماهيرية أو حتى تغيير الحكومة، لم يحدث شيء من هذا القبيل في روسيا.

الروس في ذاكرتهم التاريخية وطنوا أنفسهم على الصمود في وجه سلسلة طويلة من الاعتداءات الغربية، من الحصار البولندي لموسكو في القرن السابع عشر، إلى الملك السويدي تشارلز الثاني عشر Charles XII وتوغلاته في القرن الثامن عشر، إلى الغزوات النابليونية والنازية. فالروس يعتبرون أنفسهم ضحايا للغطرسة الأوروبية؛ وهذه النظرة في جانبها الوطني والتاريخي، تساعد على توحيد السكان ضدّ العدو الخارجي القائم أو المحتمل.

التضحية من أجل الوطن في المفهوم الروسي له وقعه على مر التاريخ، فقد قام الروس بإحراق مدنهم بأكملها بما في ذلك العاصمة الروحية موسكو عام 1812 عندما دخلها نابليون Napoléon، وتعرضت مدنهم للحصار لأشهر أو حتى سنوات (على سبيل المثال، لينينغراد وستالينغراد في الحرب العالمية الثانية)؛ وأبدى الشعب الروسي جلداً وصبراً وعدم اكتراث بالاحتياجات الأساسية، التي تعتبر حيوية في مجتمعات أخرى.

الاحترام والطاعة للسلطة هو أيضاً عنصر أساسي في الروح الاجتماعية والسياسية للمجتمع الروسي. والمجتمع الروسي الحالي ليس مجتمعاً ديموقراطياً بشكله الصارم في الغرب ولا هو آسيوي استبدادي. إن الروس دائماً ما يكونون مشغولين في البحث عن صيغة متفردة يمكن أن تساعدهم في فهم أنفسهم وتطلعاتهم، فقد تبنوا المسيحية والسلافية في ظلّ القياصرة، والشيوعية في العصر السوفييتي، والأوراسية في عهد بوتين. وهكذا يتطور المجتمع الروسي لكن وفق ثقافة ومبادئ ليس بالضرورة أن تكون متماشية مع النموذج الغربي.

تساعد هذه النقاط المختلفة في فهم لماذا يُساء قراءة الصورة الروسية، لأنه في الوقت الذي يبذل الغرب فيه جهوداً لإسقاط النظام السياسي الروسي، فإنه على العكس تؤدي العقلية الروسية، بالإضافة إلى مشاعر الضحية العميقة الجذور تجاه الغرب، إلى تعزيز قدرة النظام على تسخير جميع الجوانب السياسية والإنسانية والموارد الاقتصادية لتحقيق الهدف النهائي للبقاء السياسي.

إن روسيا تحت حكم بوتين تعيد الدورة التاريخية الروسية، عندما تكون الدولة القديمة في حالة انحدار، تنبع الفوضى ويظهر زعيم جديد قوي لإعادة بناء روسيا. هناك الكثير من الشواهد في التاريخ الروسي التي تفسر صعود بوتين ونجاحه، ولكن هناك اختلافات جوهرية أيضاً، تساعد في تفسير عدم قدرته على تحويل روسيا إلى قوة عالمية حقيقية.

كيف تعمل السياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط؟

اتسمت السياسة الروسية في المنطقة بالاتصال مع جميع الأطراف الفاعلة، وقد ظهر هذا في علاقتها مع دول المنطقة المتنافسة؛ فإقليمياً هي على علاقة ذات مستوى جيد مع كل من إيران وتركيا والسعودية ومصر و”إسرائيل”، وكذلك في قضايا المنطقة هي على تواصل مع جميع الأطراف في الحالة الليبية، وكذلك في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية هي على تواصل مع السلطة الفلسطينية ومع “إسرائيل”، ومع حماس، وهذا يتيح لها القيام بدور فعال في الوساطة بين مختلف الأطراف.

كذلك تسعى السياسة الروسية إلى تبني الحلول البراغماتية، فهي لا تريد فرض نظام أيديولوجي معين، ولا نشر مبادئ مجتمعية، بل تسعى في علاقاتها إلى تحقيق المصالح المشتركة، دون اعتبار لما يثيره الغرب من الاهتمام بنشر الديموقراطية أو حقوق الإنسان.

وتتعامل السياسة الروسية بشكل متحفظ مع دعوات التغيير وتتبنى النظم الحاكمة المستقرة.

إن نظرة إلى الصورة الكلية في المشهد الإقليمي يشير إلى نجاح روسي في إحداث اختراق كبير في المنطقة، فبالنسبة للروس أدى تدخلهم في الأزمة السورية إلى تثبيت أجندتهم في دعم النظام السوري وإضعاف المعارضة، وإجلاس الجميع على طاولة المفاوضات سلماً أو حرباً، في مقابل فشل أمريكي في تحقيق حلّ للصراعات في الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا وفلسطين.

وإذا كان الإمساك بالملف السوري له بعده الجيوسياسي المهم بالنسبة للروس، فالإمساك بملف الصراع العربي الإسرائيلي يمثل قيمة استراتيجية كبرى فهو مفتاح المنطقة الرئيسي، لذلك يريد الروس أن يدخلوا منطقة الشرق الأوسط من أوسع أبوابها عبر إطلاق مفاوضات إسرائيلية فلسطينية جديدة، خاصة في ظلّ تعثر تلك التي رعتها الولايات المتحدة، والتي وصلت إلى طريق مسدود منذ العام 2014، ويرى الروس بأنهم بعلاقاتهم الجيدة مع جميع الأطراف قادرين على إحداث اختراق في هذا الملف.

وعلى الرغم من أن المنطق الأولي قد يجد في التوجهات الروسية فرصة جيدة، إلا أن الواقع السياسي يشير إلى أن الروس لا يمتلكون أدوات الترغيب ولا الترهيب في حالة القضية الفلسطينية، فلا يوجد لديهم الإمكانية لتقديم مساعدات مغرية للأطراف للجلوس وتبني مبادرة روسية، كما لا يملكون أدوات الضغط في حالة رفض الأطراف لمبادرتهم.

هل يملك الروس رؤية للمنطقة؟

غالباً ما تثار تساؤلات:

هل للروس استراتيجية واضحة المعالم؟ ما هو الهدف من التدخل الروسي في سورية؟ هل فعلا حقق الروس أهدافهم؟ ما هي خطوتهم التالية؟ ما هي نقطة النهاية في التدخل الروسي؟

وهي أسئلة مشروعة لكنها تنم عن عدم فهم لطريقة التفكير الروسية خصوصاً الطريقة الروسية للتخطيط، فغالباً ما تشير المدرسة الغربية إلى ضرورة المعرفة الكاملة للعدو قبل التصرف وبالتالي تفترض معرفة النقطة النهائية منذ أول خطوة، بينما تفترض الطريقة الروسية أنه في الانخراط مع العدو ستظهر المعرفة التي تتيح التصور الاستراتيجي. لذلك احتار عدد من المراقبين وهم يشاهدون التصرفات الروسية التي تحدث على حين غرة، مثلاً الاجتياح العسكري لأبخازيا في صيف 2008، أو التدخل العسكري في شرق أوكرانيا، أو ضم جزيرة القرم، أو التدخل العسكري في سورية. إن النهج الروسي في التخطيط مغروس ثقافياً وتاريخياً وقد عبر عنه تولستوي Leo Tolstoy في رواية الحرب والسلام بتعبير دقيق إذ قال:

“دائماً ما يكون القائد الأعلى في خضم سلسلة من الأحداث المتغيرة، وبالتالي لا يمكن في أي لحظة النظر في المشهد الكامل للحدث، لحظة بلحظة، يتشكل الحدث بشكل غير محسوس، وفي كل لحظة من هذا التشكيل المستمر للأحداث، يكون القائد الأعلى في وسط مسرحية معقدة للغاية”.

إن المنطق الروسي يقوم أساساً على الفعل السلبي، بمعنى توقع نية العدو ثم قطع الطريق عليه، دون تأجيل لاتخاذ الإجراء لحين إيجاد تصور متكامل للمشهد، وهو بهذه الحالة لا يتجاهل تماماً الحاجة إلى تحديد هدف العمل قبل التنفيذ لكنه يتحاشى التردد الذي يسببه نقص المعلومات في المراحل الأولية، ففي المرحلة الأولى لا يطلب هذا المنطق أكثر من إحباط مسار عمل العدو، ربما هذا هو المنطق الذي أدى إلى قرارات روسيا في جورجيا وأوكرانيا وسورية، وهو ما سبب حيرة المراقبين الذين يبحثون في التصور النهائي الذي يريده الروس، بينما في الحقيقة ليس بالضرورة أن يمتلك الروس تصوراً نهائياً لخطواتهم.

إن هذا المنطق، كما أنه عامل قوة في مرحلة التدخل الأولى، ويعطي انطباعاً بامتلاك زمام المبادرة ويوفر المرونة في العمل، فإنه أيضاً يمثل عائقاً عن تحقيق رؤية محددة. ولعل هذا هو أحد إشكالات السياسة الروسية في منطقتنا تحديداً.

عناصر القوة والضعف:

مما سبق يمتلك الروس عوامل تدعم موقفهم الدولي وهي:

1. المساحة الجغرافية الواسعة والموقع الجغرافي المتميز.

2. الموارد الطبيعية الكبيرة، خصوصاً في السلع الاستراتيجية، مثل النفط والغاز والحبوب والمياه.

3. سلطة مركزية تمسك بمفاصل الدولة بقبضة قوية.

4. وجود روح التحدي والإصرار على الممانعة للنظام أحادي القطبية.

5. إمكانات عسكرية تنافسية، بالإضافة إلى القدرة على إيجاد أدوات جديدة فيما يعرف بالحرب المختلطة.

6. قرار سياسي جريء ومغامر.

ويعاني الروس من عقبات تكبح انطلاقتهم وهي:

1. الفرق الكبير في توازن القوى مع الولايات المتحدة.

2. ضعف الإمكانيات الاقتصادية.

3. غياب رؤية متكاملة للهدف المطلوب تحقيقه.

4. غياب نظام سياسي شفاف، يتيح للشعب اختيار ومحاسبة قيادته.

5. ضعف وسائل الضغط التي تستطيع من خلالها فرض نفسها.

خلاصة:

كما هو واضح فإن روسيا قوة دولية كبيرة، وذات دور متصاعد في المنطقة، لكنها لا تمثل بديلاً للتأثير الأمريكي في المرحلة الراهنة. وتبقى روسيا دولة لها تأثيرها الدولي والإقليمي الكبير، ومن الأهمية بمكان زيادة الفهم والتواصل مع الدبلوماسية الروسية، وتراكم العمل السياسي والاستفادة من توجهاتها الممانعة للنفوذ الأمريكي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(1 تصويت)

دليل المراكز

اضغط للدخول لدليل المراكز

استطلاع رأي !

ما رأيك في موقعنا الجديد !

انضم لقائمتنا البريدية

Go to top