قلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

عادة ما يتم تعريف النخبة السياسية بأولئك الذين يمتلكون السلطة الحقيقية في الدولة. ويمكن توسيع دائرتهم لتشمل أصحاب النفوذ، والمؤثرين في صناعة القرار، وأولئك الذين يملكون أدوات السلطة والسيطرة الدينية أو الاقتصادية أو العسكرية أو العرقية والقبلية… وغيرها.

غير أن ما يميز النخبة السياسية الفلسطينية أنها نخبة لحركة تحرر وليس لدولة، وأنها مشتتة جغرافياً، وأن نسبة كبيرة منها تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو تحت حصاره، وأن البيئات السياسية خارج فلسطين تؤثر بدرجات متفاوتة في أفراد النخبة الذين يعيشون فيها، ويُضطرُّون إلى مراعاة سقوفها ومعاييرها.

وتكمن أزمة النخبة السياسية الفلسطينية الحالية في أن قطاعاً كبيراً ومهيمناً فيها يمارس سلوك الدولة ولكن من دون دولة، وينسق مع الاحتلال، ويدير حالته النخبوية وفق شروط الاحتلال وتحت بيئته، ويعاني من أزمات في الرؤية والمسارات وفي القيادة والرموز والتداول القيادي والبناء المؤسسي.

***

وقد تعددت الدراسات حول النخبة السياسية الفلسطينية، غير أن من أبرزها كتاب “سمات النخبة السياسية الفلسطينية: قبل وبعد قيام السلطة الفلسطينية” للدكتورة سمر جودت البرغوثي، وكتاب “توجهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي الإسرائيلي”، وكلاهما رسالة دكتوراه، وكلاهما أيضاً من إصدار مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، وكلاهما درس نخبتي منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من زوايا مختلفة. وكلتا الدراستين جديرة بالاطّلاع والاستفادة منها. وهذا المقال ليس استعراضاً لأي من الدراستين، ولكنه يستفيد من بعض معطياتهما.

***

تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 بقيادة أحمد الشقيري. وفي سنة 1968 تمكنت الفصائل الفلسطينية من السيطرة على منظمة التحرير، وقامت بإعادة تشكيل جذرية لنخبتها القيادية في مجلسها الوطني وفي لجنتها التنفيذية، حيث هيمنت حركة فتح ولا تزال على النخبة السياسية للمنظمة. وعندما تشكّلت السلطة الفلسطينية سنة 1994، قادت حركة فتح عملية تأسيسها وإدارتها، لتطبع حالتها النخبوية بطابعها. غير أن انتخابات المجلس التشريعي للسلطة سنة 2006 أدخلت حماس ورموزها بقوة في النخبة السياسية للسلطة بعد فوزها بأغلبية ساحقة، وتشكيلها للوزارة العاشرة والحادية عشرة، ثم سيطرتها على قطاع غزة إثر الانقسام الفلسطيني، في مقابل سيطرة فتح على السلطة في الضفة الغربية.

***

عكست أزمات منظمة التحرير آثارها على النخبة السياسية الفلسطينية، إذ دفعت أثماناً قاسية نتيجة محاولتها للعمل بِحرية في البيئة العربية المحيطة بفلسطين، في الوقت الذي لم تتحمل فيه البلاد العربية هذا “الضيف الثقيل” ولا الاستحقاقات التي يستوجبها وجود حركة تحرر في مواجهة العدو الصهيوني المدعوم بالقوى الكبرى، وحاولت تقديم نخب محسوبة عليها، وإلغاء نخبٍ تخاصمها.

وترافق ذلك، مع عدم وجود بيئات حرة للعمل السياسي الفلسطيني، ولا بيئات صحية للتداول القيادي الفلسطيني، ولا آليات “ديمقراطية” حقيقية لتشكيل المجالس التشريعية والقيادية. وبالتالي فإن الفرز القيادي للنخبة الفلسطينية، ظلّ محكوماً بهيمنة فتح على المنظمة، وبالحسابات الفصائلية.

ومنذ ثمانينيات القرن العشرين أخذت تظهر قوى فاعلة ووازنة في الساحة الفلسطينية دون أن يكون لها تمثيل في منظمة التحرير (حماس، والجهاد الإسلامي على سبيل المثال) ودون أن يُحتسب قادتها ورموزها ضمن النخبة السياسية “الرسمية” الفلسطينية. وهي ظاهرة اتسعت وزادت مع تنامي هذه القوى وفوزها (حماس تحديداً) في الانتخابات التشريعية للسلطة سنة 2006.

ثمّ إن النخبة السياسية لمنظمة التحرير نفسها ظهرت عليها مظاهر الضعف والترهل وانعدام الفاعلية، مع حالة التردي والتدهور التي شهدتها مؤسسات المنظمة. ومع تعطُّل انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني لنحو 27عاماً إذ لم يعقد المجلس الوطني في الفترة 1991-2018، إلا للقاءات شكلية محدودة لتمرير بعض القرارات المسبقة أو “لشرعنة” عمل قيادة السلطة ( 1996،2009،2018).

وقد أدى ذلك إلى “تكلُّس” البنية النخبوية للمجلس الوطني، التي فاق متوسط السنّ فيها سبعين عاماً، وتجاوزت سنّ ممثل الطلاب فيها ستين عاماً، بينما لحق عشرات بجوار ربهم. وصرنا في المنظمة أمام نخبة “مزمنة” تعيد إنتاج نفسها وإنتاج مشكلاتها، وتعاني من فشل ذريع في القدرة على إنتاج أجيال جديدة.

***

من جهة أخرى، فإن إنشاء السلطة الفلسطينية أنهى حالة وجود النظام السياسي خارج أرضه، لكنه أوجد مشكلة جديدة بوجوده تحت الاحتلال الإسرائيلي وهيمنته. وقد ترافق ذلك مع تعقيدات انتقال النخب السياسية المقيمة في الخارج إلى الداخل الفلسطيني، وتحكُّم الاحتلال الإسرائيلي بالحدود والمعابر وحركة الأفراد والبضائع، وفرضه لشروط سياسية وأمنية واقتصادية على كيان السلطة.

بينما تَحوَّل الاحتلال إلى الجهة المانحة لبطاقات الفي آي بي VIP لرجالات النخبة في السلطة، مع إمكانية اعتقال أي من شخصيات “النخبة” ممن يتجاوز خطوط الاحتلال الحمراء. ومع تعطُّل مسار التسوية، وتراجع فرص تحول السلطة إلى دولة كاملة السيادة على أرضها، نشأ نظام سياسي مُشوَّه، متموضع في بيئة الاحتلال ومرتهن لشروطه، بينما أخذت النخبة السياسية “تكيّف” نفسها وفق متطلبات “التسوية” ومتطلبات “السلطة”… لتتحول من نخبة “حركة تحرُّر” إلى نخبة سلطة تمارس سلوك الدولة ولكن تحت الاحتلال، وتُضطرّ إلى التجاوب مع أجندة الاحتلال في مطاردة المقاومة وملاحقتها ضمن “التنسيق الأمني”، بينما تتسع في أوساطها أجواء الترهل والفساد المالي والإداري، والركون إلى حالات الرفاهية… في الوقت الذي يذوي فيه الجانب “الثوري” إلا من شعارات أو مفاخرات تاريخية أو توظيف تكتيكي.

في المقابل، تمكنت المنظومة السياسية للسلطة مع مرور الوقت من إفراز نخب سياسية أكثر تعليماً وأكثر شباباً وأكثر اندماجاً في البيئة الاجتماعية المحلية، وذلك مع انتخابات المجلس التشريعي 1996و2006، ومع تشكيل عديد من الوزارات، وتشكُّل طبقة من أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني في أطر السلطة.

غير أن عقلية الهيمنة واحتكار صناعة القرار التي صاحبت قيادة المنظمة والسلطة لم تمكِّنها من استيعاب نتائج العملية الديمقراطية لانتخابات 2006، ولم يكُن ثمة ترحيب أو قبول بالنخبة السياسية الجديدة (حماس) التي فرضت نفسها من خلال برنامج المقاومة أو من خلال الشرعية الشعبية. وأصبح لدينا أزمة في محاولات جهات معيَّنة “احتكار النخبة”، أو في محاولة إخراج نخب فاعلة ومؤثرة من الإطار “الشرعي” أو “الرسمي”.

وتولدت أزمة ثانية مرتبطة بهيمنة فصيل معين على السلطة والمنظمة، مُصِرّ على مسارات سياسية معيَّنة (التسوية)، وغير راغب في عمل أي شراكات تؤثّر سلباً على هيمنته السياسية، ولا على المسارات التي اختطّها للعمل الوطني، وهو ما أدَّى إلى تعطيل الفرز الطبيعي للنخبة، وتعطيل بيئة التداول السلمي للسلطة، وغياب البيئة الصحية للتغيير والإحلال القيادي. وهذا أدى بدوره إلى إغلاق المجال أمام ظهور القيادات الشابة، ووجود فجوة كبيرة بين النخبة الحالية التي طال عليها الأمد، وبين الأجيال الصاعدة.

من ناحية أخرى، فإن انتقال القيادة الفلسطينية إلى الداخل، وضمور دورها ودور المنظمة في الخارج، أدى إلى إهمال الشتات الفلسطيني، (أكثر من نصف الشعب الفلسطيني) المليء بالكفاءات والخبرات والطاقات، بينما تركّز أداء النخبة السياسية الحالية في رام الله، المحاطة بالاحتلال وأدواته. هذا مع إقرارنا بأن النخبة الفلسطينية في الأرض المحتلة 1948  لم تأخذ مكانها ولا دورها الذي تستحقه في المشروع الوطني الفلسطيني.

وتعكس الدراسة التي قام بها عزام شعث لخمسين شخصية من النخبة الفلسطينية، حالة الإرباك وفقدان الرؤية المتماسكة لدى النخبة السياسية الفلسطينية.

ففي الوقت الذي يؤيد 7ِ2% منهم إنهاء اتفاق أوسلو، ويُقِرّ 80% بأن المفاوضات هي غير ذات جدوى بعد قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ويوافق أكثر من نصفهم على أن ميزان القوى لا يسمح ببلورة مبادرة سياسية جديدة لحل الصراع، ويؤكد 72% أنهم مع هدف تحرير كل فلسطين وأشكال النضال كافة؛ فإنه من جهة أخرى يؤيد 76% منهم عقد مؤتمر كامل الصلاحية على أساس الشرعية الدولية. وعندما يتحدثون عن الوسائل الأكثر جدوى في مواجهة العدو يؤيد 28.2% المقاومة الشعبية، و17% المقاومة المسلحة، بينما يتشتت آخرون على نسبٍ أقل، كما أن ثمة انقساماً وغياب رؤية حول ما يمكن عمله في حال سقوط السلطة نفسها.

هذا التداخل أو التفكير غير المتسق يعبِّر عن أزمة الرؤية والمسارات لدى النخبة السياسية الحالية، ولعلّ ذلك يتوافق مع حالة انسداد الأفق والإحباطات والانقسامات التي تشهدها الساحة الفلسطينية.

وبشكل عامّ، فإن أزمة النخبة الفلسطينية هي أزمة عميقة تمسّ جوهر المنظومة السياسية وتشكيلاتها القيادية، وأدوات فرزها النخبوي، وتؤثر عليها حالة التشتت، وبيئات الاحتلال وأدوات النفوذ الخارجي العربية والدولية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top