بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
على طريقة المثل الشعبي "فالج لا تعالج" أو القول المأثور عن سعد زغلول "مفيش فايدة يا صفية"؛ تبدو مسارات الوضع الداخلي الفلسطيني المتوقعة خلال سنة 2020 باعثة على الإحباط؛ إلا إذا دخلت عوامل جديدة خارج السياقات المعتادة.
ابتداء، فإن الأزمة المزمنة للمشروع الوطني الفلسطيني ستستمر في هذه السنة على ما يبدو؛ لأن العناصر المسببة لها ما زالت حاضرة وحاكمة للأسف. فما زالت منظمة التحرير الفلسطينية تعاني من حالة العجز والتردي وانعدام الفعالية، ومن تعطل المؤسسات، ومن الفشل في استيعاب قوى كبيرة وفاعلة في الساحة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي.
وما زال يتم تجاهل فلسطينيي الخارج الذين يمثلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. ومنذ أكثر من خمسين عاماً، ما زال هناك فصيل واحد (فتح) يهيمن على صناعة القرار الفلسطيني، وعلى منظمة التحرير وعلى السلطة الفلسطينية، وُيصِرُّ على عقلية التحكم والتفرد. وفي الوقت نفسه، لا تظهر في الأفق بوادر جدية للتوافق على برنامج وطني فلسطيني يتجاوز الانقسام، ويعالج الصراع بين تياري المقاومة والتسوية؛ ويُحدّد أولويات العمل الوطني.
من ناحية ثانية، فبالرغم من الأجواء الإيجابية التي سادت أواخر سنة 2019 في الحديث عن إجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، وبالرغم من موافقة حماس والفصائل الفلسطينية على اشتراطات الرئيس عباس، بما في ذلك اعتماد النسبية الكاملة، وفك التزامن بين انتخابات رئاسة السلطة وانتخابات المجلس التشريعي؛ إلا أن الأجواء العامة لا تشجع على توقع انعقاد انتخابات حرة نزيهة خلال سنة 2020.
وهذا لا يعود فقط إلى التعقيدات التي يضعها الاحتلال، خصوصاً مشاركة الفلسطينيين في شرقي القدس. وإنما لأن قيادة السلطة (قيادة فتح) ليست جادة في عقد انتخابات يمكن أن تفوز بها حماس، أو الخط الداعم للمقاومة. وقيادة حركة فتح التي عملت طوال السنوات الماضية لمحاصرة حماس وعزلها، وإخراجها من "الشرعية" الفلسطينية، وعطّلت كل مسارات المصالحة التي يمكن أن تؤدي إلى شراكة حقيقية في صنع القرار الفلسطيني (حكومة السلطة الفلسطينية، والمجلس التشريعي، ومنظمة التحرير...) ليس من المتوقع أن تكلّل جهودها، بفتح المجال لعودة حماس للسلطة، وفرض نفسها على الأجندة الوطنية، ولتنازعها "الشرعية" من جديد.
وببساطة فإن استطلاعات الرأي، تعطي تفوقاً لخط حماس والمقاومة في الانتخابات القادمة، مما يعني عملياً تأجيلها بشكل مفتوح، وبأعذار مختلفة. يضاف إلى ذلك، أن حركة فتح نفسها تعاني صعوبات حقيقية في تشكيل قوائمها؛ كما تعاني سيطرةَ تيار دحلان على جانب لا يستهان به من شعبية فتح، خصوصاً في قطاع غزة.
ثم إن الجانب الإسرائيلي والبيئات العربية والدولية، في الأوضاع الراهنة، لا تقبل بعقد انتخابات يمكن أن تجدّد الفوز و"الشرعية الرسمية" لحركة حماس ولـ"الإسلام السياسي" أو لخط المقاومة.
أما الجانب الثالث في المسارات المحتملة، فهو أنه في الوقت الذي سيستمر فيه تدهور السلطة الفلسطينية خلال سنة 2020، وانهيار مشروعها في التحول إلى دولة فلسطينية حقيقية، وانكفائها إلى بنية مشوهة تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم الشعب الفلسطيني؛ فإن العقلية التي تديرها ستستمر بالطريقة ذاتها دون مراجعات حقيقية أو قرارات حاسمة.
والشكاوى من التغول الإسرائيلي الاستيطاني، ومن اقتطاع أموال الضرائب، ومن الاعتداء على المقدسات؛ ستكون شكاوى العاجزين. أما التهديدات بوقف العمل باتفاقات أوسلو وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل" فستكون أقرب للاستهلاك الإعلامي منها للإجراءات الجادة.
بل لعل قيادة فتح ستكون مشغولة أكثر بـ"التمكين" لنفسها في الساحة الفلسطينية من خلال استخدام أدوات السلطة سواء في الإنفاق "الزبائني" على مؤيديها، ودعمهم سياسيّاً وأمنيّاً وإعلاميّاً، أم في الضغط على خصومها ومحاولة تهميشهم أو تطويعهم.
وهذا الاتجاه الفتحاوي المنفرد جرى تكريسه في السنتين الماضيتين من خلال العقوبات على قطاع غزة، وعقد للمجلس الوطني، والمجالس المركزية بخلاف التوافق الفلسطيني، وحل للمجلس التشريعي، وتشكيل حكومة فتحاوية. وهو ما تسبب بعزلة فتح، ونفور الفصائل الفلسطينية داخل وخارج المنظمة من سياساتها؛ وهو اتجاه لا يظهر أن فتح جادة في العودة عنه خلال سنة 2020، أو فلنقل خلال حياة محمود عباس.
وبناء على ذلك، ومن جهة رابعة فمن المتوقع أن يستمر مسار التنسيق الأمني بين سلطة رام الله والاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من قرارات المجلس المركزي الفلسطيني بوقفه، وبالرغم من إعلان الرئيس عباس وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الكيان الإسرائيلي في يوليو/ تموز 2019.
ولعل قيادة فتح تدرك أن بقاء السلطة ومبرر وجودها "إسرائيلياً" مرهون أساساً بالتنسيق الأمني. وهو ما دفع عباس للتصريح أكثر من مرة بأن هذا التنسيق "مقدس". ومما يؤكد استمرار هذا المسار أن الجانب الأمريكي الذي أوقف كافة أشكال دعم السلطة الفلسطينية استثنى الأجهزة الأمنية وأقر لها 61 مليون دولار. كما أشارت تقارير إسرائيلية في مايو/ أيار 2019 بأن أجهزة أمن السلطة أحبطت 40% من عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
من ناحية خامسة، فإن موضوع خلافة عباس، مع تزايد أعراض المرض والإعياء عليه (85 عاماً)، سيشغل جانباً من الهمِّ الفتحاوي، وهو انشغال سيشمل أيضاً الساحة الفلسطينية، والجهات العربية والدولية المعنية بالشأن الفلسطيني.
إذ ثمة قلق من صعوبة لملمة "البيت الفتحاوي" بعد وفاة عباس، لعدم توفر شخصية كاريزمية تجتمع عليها فتح، سوى مروان البرغوثي الأسير في السجون الإسرائيلية. وبالإضافة إلى دحلان الذي يرغب في العودة قائداً للبيت الفتحاوي، فإن ثمة متطلعين يحاولون الاعتماد على القاعدة الفتحاوية، كما أن ثمة متطلعين آخرين يسعون للاستفادة من عوامل خارجية لتعزيز مواقعهم.
وكما أن اختيار قائد جديد لفتح قد يعزز فرص فك عدد من "العُقد" الفلسطينية المرتبطة بمسار المصالحة والانتخابات وإصلاح منظمة التحرير، والموقف من مسار التسوية؛ فإنه قد يتسبب أيضاً في مزيد من التعقيدات، وفي مزيد من التراجع لفتح ومكانتها؛ خصوصاً إذا صعدت للواجهة شخصية تفتقد الكاريزما، وتستقوي بالسلطة وتنسيقها الأمني، وبالبيئة العربية والدولية لتثبيت مكانتها.
المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) - تركيا، 21/1/2020