أحمد الحاجي – مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية
إن التدافع بين الأمم؛ سنّة ماضية في الخلق إلى يوم القيامة، وهذا التدافع تارة يكون بين أهل الحق وأهل الباطل، وتارة يكون بين أهل الباطل فقط، وتارة ينتصر هؤلاء وأولئك، وتارة يهزمون؛ بحسب توّفر أسباب النصر والغلبة عند الفريق الغالب، أو انعدامها عند المغلوب! قال تعالى: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) سورة البقرة. وهذه الآية نزلت تعقيبًا على التدافع بين الحق والباطل فبيّنت كيف تحقّقت شروط النصر عند أهل الحق رغم قلّة العدد والعدّة، وبيّنت أن موازين النصر والهزيمة لا تعتمد على مجرّد القوّة العسكرية، بل لا بد من الإعداد الروحي والنفسي وتعزيز الإيمان في نفوس الجنود، وانضباطهم الأخلاقي وتماسك الصفّ الداخلي المفضي للثبات فضلًا عن بناء الأحلاف والمعاهدات الدفاعية وغيرها… كلها أسبابٌ لا بد من توفّرها في كل معركة حتى يتحقّق النصر.
والتدافع: يعني وجود قوّة كبيرة ضاربة في مواجهة قوّة منافسة لها، أو مجموع قوى صغيرة متحالفة تكون في مجملها قادرة على منافسة تلك القوّة.
والذي يوكد ما ذهبنا إليه هو انجرار المنظومة الغربية برمتها إلى هذا الصراع. وهذا الصراع: (صراع مسيحي، مسيحي)، أو (مسيحي، عالماني إلحادي)، أو صراع إمبراطوريات حالمة وأخرى آفلة، أو صراع إعادة تموضع للدول كل دولة بما يتناسب مع حجمها في المجتمع الدولي، أو هو صراع من أجل البقاء؛ بقاء النظام العالمي أحادي القطب، في مواجهة احتمالية تعدّد الأقطاب، وهذه الرغبة بتعدّد الأقطاب ليست حكرًا على روسيا التي تحلم بعودتها إلى زمن الإمبراطوريات، بل هناك العديد من الدول القويّة التي ترى أنها لم تحصل على مكانتها المستحقّة رغم قدرتها وكفاءتها، وقبل هذا وذاك هو صراع منشؤه الخوف من اختلال موازين القِوى لصالح إحدى الحلفين، وبالتالي فإن الكثير من الدول الأوروبية مهدّدة بالزوال أو بخسارة شيء من سيادتها! وهذا يعني بأن الصراع قد يستمرّ لفترات طويلة، وفيه جولات وجولات…
وهذا يعني أن هناك فرصًا كبيرة جدًا للربيع العربي بصفة عامّة وللملفّ السوري بصفة خاصّة، فالأراضي الأوكرانية باتت مسرحًا للصراع بعدما كانت سوريا هي الساحة الرحبة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية!
واستمرار الصراع في أوكرانيا يعني أن الكلَّ سيخرج خاسرًا من هذا الصراع، والطرف المحظوظ (المنتصر) هو الذي سيخرج بأقل الخسائر الممكنة من هذا الانزلاق الحضاري.
والأمة اليقظة هي التي تسارع إلى اهتبال هذه الفرص وملء الفراغ، فتسارع إلى إعادة ترتيب بيتها الداخلي وفق مقتضيات المرحلة، ومن ثم تستأنف مسيرتها بوعي جديد، وروح جديدة…
-فرصٌ كثيرة ٌتهطل فوق الرؤوس، ويا لها من فرصة لو كان لنا معارضة بمستوى هذه الفرص!!
إنّ ما يمرُّ به عالَمُنا اليوم يشبه إلى حدّ بعيد ما كان عليه العالم قبل ولادة الأمة الإسلامية، فقد كان يتقاسم قيادةَ العالمِ آنذاك إمبراطوريتان قويتان عظيمتان؛ في الشرق إمبراطورية (فارس)، وفي الغرب إمبراطورية (الروم). وكان الناس عدا هؤلاء وأولئك؛ رعاع وأتباع وهملٌ يعيشون على هامش الحياة.
وشاءت إرادة الله أن يتصارع المعسكران وتدور الدوائر بينهما، تارة تكون الدائرة للفرس وتارة للروم في جولات حضارية متعاقبة. فانشغل كلُّ فريق بالآخر. وهذا نوع من أنواع التحضير الإلهي لهذه الأمة قبل ولادتها! ولعل من نافلة القول: أن نشير إلى تاريخ الجزيرة (أيام العرب) في تلك الفترة، فقد كانت القبائل العربية تعاني من صراع مرير وحروب متلاحقة أودت بالضعيف وأبقت على القوي، حتى أنه لم يدم على أديم الجزيرة العربية إلا فرسٌ وفارس (الأقوياء فقط)! وهذا نوع أخر من أنواع الإعداد الرباني فقد كانت الفروسية والحيوية والحركة متمثلة في شخصية هذه الأمة الجديدة التي ألفت الحروب والصراعات، ولأنها أمّة سوف تحمل على عاتقها عبء الخروج للناس وإعادتهم إلى الجادّة -جادّة الصواب والعدالة والرحمة والسلام العالمي- بعد شرودٍ وضياعٍ وتعطّشٍ وظمأ…
فالله تعالى بإغرائه الشرق بالغرب والغرب بالشرق والشرق بالشرق والغرب بالغرب… يهيئ الأرض لنا الظروف كما هيأها من قبل للأمة الإسلامية في صدرها الأول؛ بإغرائه الفرس بالروم والروم بالفرس ليدخلوا جميعًا في حربين كبيرتين، كانت نهاية الثانية منهما مؤذنةً بالنصر المبين للمؤمنين: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) (الروم: 1-5).
نزلت هذه الآيات والصحابة الكرام رضوان الله عليهم محاصرون في شعب أبي طالب، يُسامون الخسف والحرمان والاضطهاد والحصار…
وقد يتساءل الإنسان ما شأنهم بفوز فارس أو الروم وهم لا يجدون ما يطعمون به فلذات أكبادهم ما يسدون به رمقهم؟
ما شأنهم وجلّ همهم هو كسر الحصار المضروب بشدة؟
ولماذا يحزنون لفوز فارس، ويفرحون ببشارة القرآن بنصر الروم بعد مدة؟
أسئلة حضارية كبرى جديرة بالتأمّل والدّراسة والبحث…
ولعل الإجابة عنها تكمن في قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) الروم. من هنا كانت البداية؛ بداية النصر للمؤمنين المستضعفين. فانشغال فارس والروم بالحروب؛ صرف نظرهما عن القوّة الجديدة الصاعدة في جزيرة العرب (قوّة المؤمنين)؛ القوّة التي تحمل رسالة التوحيد، القوّة التي وحّدت العرب بعدما كانوا أشتاتًا من غير جامع، وأوزاعًا من غير رابط، وهملًا من غير دين.
فجاءت رسالة الإسلام بقيمها السامية الجديدة، تفنّد أباطيل فارس والروم وأباطيل المشركين أولا، ثم أخذت تبسط هيمنتها على أرجاء الجزيرة العربية في ظلّ الفراغ الدولي (الفارسي، والرومي)، ثم كتب الله لها النصر على فارس والروم فيما بعد!! ثم أصبحت هذه الأمّة الجديدة المؤمنة الموحّدة هي القوّة العظمى التي تقرّر مصير الأمم والدول والشعوب!
واليوم تمرّ الأمة في مرحلة مخاض عسر، فالحروب والدمار والتشّرد واللجوء والهوان على الناس… إنما هي أثمان زهيدة للولادة الجديدة، فهذه الأمّة قد تمرض وتضعف ولكنها لن تموت لأنها مزودة بدين عصيّ على الفناء، ولأن الله تكفّل لها بأن يبعث لها على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها. والأيام دول، قال تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ …)، فلا تغرنّكم انتفاشة الباطل إنما هي انتفاشة مؤقتة، ونصر جزئي ضئيل، والنهاية يحتكرها المؤمنون. قال تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55).