بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
لا ينتبه الكثير من الناس إلى ما تحمله المصطلحات التي نستخدمها من مضامين فكرية وثقافية وحضارية، وما تعبر عنه من مواقف سياسية ودينية.
وفي أحيان عديدة تجد مصطلحات معينة لنفسها رواجا وانتشارا بسبب تبني وسائل الإعلام أو شخصيات ورموز سياسية وثقافية وفنية لها، ويتعامل الإنسان العادي ببراءة معها، إما لعدم الإدراك لخلفياتها، أو لسهولة استخدامها في التعبير عن الفكرة أو النقطة التي يتحدث عنها، حتى لو كانت تحمل مضامين غير دقيقة أو مشوهة.
في قضية فلسطين، أخذت تتكرر في السنوات الماضية مصطلحات بعضها غير دقيق أو ”غير بريء“، ويستهدف إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي، بما يتوافق مع المسارات السياسية لمشاريع التسوية السلمية، بينما يعيد استخدامها كثيرون دون إدراك لمضامينها.
ولعل مثالا صارخا على ذلك أنه ولسنوات طويلة ظلت الأنظمة العربية ووسائل الإعلام ترفض استخدام كلمة ”إسرائيل“ في التعبير عن الكيان الغاصب الذي نشأ على جزء كبير من أرض فلسطين سنة 1948، وكانت تشير إليه بمصطلحات: العدو، الكيان الصهيوني، الكيان الإسرائيلي، الاحتلال.. أو على الأقل يتم وضع لفظة ”إسرائيل“ بين علامتي تنصيص للدلالة على عدم الاعتراف. أما الآن فيتم استخدام مصطلح ”إسرائيل“، دون حرج ودون علامات تنصيص.
وقد يرى البعض أن ”لا مشاحة في الاصطلاح”؛ دونما إدراك أن المصطلح جزء من العملية التربوية والتكوين الثقافي والنفسي والحضاري. وأن فكرة “لا مشاحة في الاصطلاح“ تنطبق عندما يتعلق الأمر بإطار ثقافي ومعرفي واحد أو متقارب؛ ولكن المصطلح يصبح جزء من الهوية وعملية التربية والتوجيه والتعبئة عندما يتعلق الأمر بالاختلاف مع الأعداء. فلم يكن إطلاق الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا مصطلح ”أبي جهل“ على عمرو بن هشام (حتى لم يعد يُعرف إلا به) أمرا عبثيا. وقس على ذلك المصطلحات القرآنية في “المغضوب عليهم” و”الضالين”.. وغيرها.
من المصطلحات الإشكالية التي يجري تداولها منذ سنوات وأصبح لها انتشار واسع، مصطلح “شطري الوطن”. ويقصد به مستخدموه الضفة الغربية وقطاع غزة. وإذا كان ثمة “براءة” في استخدام هذا المصطلح، فلعل مرجعها إلى تأكيد الوحدة الوطنية بين مناطق السلطة الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية الموعودة، أو من باب الاختصار، ولكن اقتصار “الوطن” بالنسبة لفلسطين أو الشعب الفلسطيني على الضفة والقطاع اللذين يشكلان 23% فقط من فلسطين التاريخية هو أمر خطير، إذ إنه يخرج ببساطة فلسطين المحتلة سنة 1948 من مفهوم “الوطن”. وهو ما يشكل اعترافا ضمنيا بالكيان الصهيوني، كما يعطي دلالة سلبية معاكسة لمفهوم حق العودة الفلسطيني إلى “الوطن”، لأن حق العودة في جوهره هو للأرض المحتلة سنة 1948.
وهناك مصطلح ثالث يكثر استخدامه هذه الأيام هو “الأراضي الفلسطينية”، الذي يبدو للوهلة الأولى مصطلحا عاديا؛ غير أنه يُستخدم من قِبل الكثير من السياسيين ووسائل الإعلام للتعبير عن الضفة الغربية وقطاع غزة، أو الأراضي التي تديرها السلطة الفلسطينية. ويظهر ذلك واضحا عندما تتحدث الأخبار أو بعض السياسيين عن زيارة شخصية ما إلى ”إسرائيل“ ثم توجهها إلى الأراضي الفلسطينية؛ وكأن ”إسرائيل“ نفسها ليست قائمة على أراض فلسطينية مغتصبة. وهذا المصطلح يعطي مدلولات خاطئة خصوصا إذا استخدم إلى جانب مصطلح ”إسرائيل“ (فلسطين المحتلة سنة 1948).
أما المصطلح الرابع فهو “الضفة الغربية والقدس”. وقد يظهر للوهلة الأولى أنه يحمل طابعا إيجابيا بالتأكيد على القدس، غير أنه يجب التنبيه إلى أن شرقي القدس جزء من الضفة الغربية، وأن الكيان الإسرائيلي قام بضمه إداريا منذ سنة 1967، ورسميا سنة 1980؛ وبالتالي فصله عن الضفة الغربية.
ومصطلح “الضفة الغربية والقدس” يخدم حالة الفصل بينهما التي يريدها الاحتلال الإسرائيلي. ولذلك، فإذا كان ثمة من يرغب بالتأكيد الإيجابي على القدس وإبرازها فليقل “الضفة الغربية بما فيها القدس”.
وهناك مصطلح خامس تراجع استخدامه في السنوات الأخيرة لكنه موجود، وهو “عرب إسرائيل” أو “فلسطينيو إسرائيل”، ومشكلته أنه ينسب أبناء فلسطين المحتلة 1948 إلى الكيان الإسرائيلي الصهيوني الذي نشأ على أرضهم؛ وهو كيان طارئ بينما هم أهل البلد الأصليين. والأصل أن يُشار إليهم بأنهم أبناء فلسطين المحتلة 1948، أو فلسطينيو الـ 48 من باب الاختصار. وهناك مصطلحات أخرى ممكنة كـ”عرب الـ 48” وهو يعطي دلالة قومية دون أن يلغي الهوية الوطنية الفلسطينية. وكذلك مصطلح فلسطينيو ما وراء الخط الأخضر (واختصارا فلسطينيو الخط الأخضر) للدلالة على الفلسطينيين المقيمين في الأرض المحتلة 1948 باعتبار الخط الأخضر معيارا حدوديا لخط الهدنة مع الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما مصطلح “الثوابت الفلسطينية” فأصبح من المصطلحات التي تحمل دلالات مختلفة حسب الأطراف الفلسطينية التي تستخدمها. فالثوابت الفلسطينية التي أجمع عليها الفلسطينيون وقياداتهم لسنوات طويلة مبنية أساسا على أن كل أرض فلسطين التاريخية ملك للشعب الفلسطيني، وله حق حكمها والسيادة عليها، وبالتالي لا اعتراف بالكيان الصهيوني ولا بأي حق له على الأرض التي احتلها. والتعامل مع حق عودة اللاجئين إلى بيوتهم وقراهم ومدنهم التي أُخرجوا منها، باعتباره ثابتا وطنيا وحقا لا يقبل التنازل والمساومة.
وقد تعرض مفهوم “الثوابت” للاهتزاز عندما قبلت منظمة التحرير الاعتراف بقرار تقسيم فلسطين وبقرار 242 في المجلس الوطني التاسع عشر في الجزائر في 1988. كما تعرض لضربة قاسية عند توقيع اتفاقيات أوسلو 1993 بما تضمنه من اعتراف بـ”إسرائيل“ والتنازل عن فلسطين المحتلة سنة 1948؛ وتم تكريس ذلك في المجلس الوطني الذي عقد في غزة 1996 والذي وافق على حذف كل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تتعارض مع اتفاقيات أوسلو.. وهي بشكل عام معظم بنود الميثاق.
ومع ذلك، فما زالت قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة (والتي هي قيادة فتح) تتحدث عن “التمسك بالثوابت” بعد أن تم تضييع الثابت الرئيسي المتعلق بالأرض. مع وجود مخاطر للتنازل عن الثابت المتعلق باللاجئين، إذا ما تم عقد تسوية سلمية نهائية مع الكيان الإسرائيلي، خصوصا في ضوء وثيقة جنيف التي وقعتها سنة 2003 قيادات فتحاوية ومن السلطة الفلسطينية قريبة من صانع القرار الفلسطيني، والتي تتضمن التنازل عن حقّ العودة. ولذلك أصبح من حق المراقب أن يسأل عن أيّ ثوابت تتحدثون؟ وبأي ميثاق وطني تلتزمون؟!
ومن ناحية سابعة، فإنه تم استخدام مصطلحات معينة وتوظيفها في الانقسام والنزاع الداخلي الفلسطيني بين فتح وحماس؛ وهي في الغالب مرتبطة بقضية “الشرعية الفلسطينية” ومن يمثلها. ويندرج تحت ذلك أن الكثير من وسائل الإعلام كانت تتحدث في الفترة منذ بداية الانقسام الفلسطيني في صيف 2007 وحتى تشكيل حكومة الوفاق الوطني في أوائل يونيو/حزيران 2014 عن “حكومة السلطة الفلسطينية” إذا تعلق الأمر بالحكومة التي كلفها الرئيس محمود عباس (برئاسة سلام فياض ثم رامي الحمد الله) ومركزها رام الله؛ أما إذا تعلق الأمر بالحكومة التي تابعت عملها في قطاع غزة برئاسة إسماعيل هنية فكان يطلق عليها “حكومة حماس”. وانبنى على ذلك اتهام الحكومة التي تدير القطاع بأنها حكومة “انقلاب”، والإعلان بأن القطاع “رهينة” بيد حماس، بل وحديث البعض عن القطاع كإقليم “متمرد”.
ولسنا هنا بصدد الخوض في الجدليات السياسية والقانونية؛ ولكننا نشير إلى أن التعامل مع المصطلح لم يأخذ بعدا منهجيا بقدر ما عبر عن مواقف سياسية تريد أن تعطي الشرعية لجهة وتنزعها عن جهة أخرى.
فوفق النظام الأساسي الفلسطيني (الدستور)، فإن الذي يشكل الحكومة هي الجهة التي تفوز في الانتخابات، وهي في هذه الحالة حركة حماس، ولا تصبح أي حكومة “شرعية” إلا إذا أخذت موافقة المجلس التشريعي الفلسطيني، والذي تملك أغلبيته الساحقة حماس أيضا. والرئيس الفلسطيني له حق تسمية وتكليف رئيس الحكومة، ولكنه لا يملك إعطاءها “الشرعية”. والنظام الأساسي يشير إلى أن الحكومة المقالة تتحول إلى حكومة تسيير أعمال بانتظار إتمام تشكيل الحكومة الجديدة، وهذا ما استندت إليه حكومة هنية في غزة.
أما الرئيس عباس فعندما شكل حكومة طوارئ برئاسة سلام فياض، فقد تجاوز مسألة “حكومة تسيير الأعمال”؛ كما حوّل حكومة الطوارئ إلى حكومة عادية، دون أن يذهب إطلاقا للمجلس التشريعي لإقرارها لتصبح حكومة “شرعية”. وظلت حكومة رام الله تمارس صلاحيتها لسبع سنوات متواصلة، دونما إقرار ودونما محاسبة أو مراقبة من المجلس التشريعي الذي رفض عباس دعوته للانعقاد؛ لمعرفته المسبقة أن حكومته سيتم إسقاطها من المجلس التشريعي في أول جلسة انعقاد له، وأن هذا المجلس سيعطي الشرعية لحكومة ترأسها حماس أو توافق عليها على الأقل.
وإذا كان ثمة من يعترض على حكومة تسيير أعمال تعيش لسبع سنوات، فعليه أن يعترض أيضا على حكومة طوارئ تعيش للمدة نفسها، أو على أي حكومة تتجاوز السلطة التشريعية في نظام السلطة الفلسطينية. وعند ذلك، فإذا أردنا تسمية الحكومة في غزة بـ”حكومة حماس”، فيجب تسمية الحكومة في رام الله في تلك الفترة بـ”حكومة فتح” أو “حكومة عباس”.
وبالطبع، فقد استفادت قيادة فتح من قيادتها لمنظمة التحرير ومن رئاستها للسلطة، ومن موافقتها على اتفاقيات أوسلو وسيرها في مسار التسوية، لتكسب البيئة العربية والدولية إلى جانبها، ولتصدح أغلب وسائل الإعلام بالمصطلحات التي تناسب “الشرعية” التي تتبناها.
وبغض النظر عن إصرار الرئاسة على حقها في تسمية رئيس الحكومة، وعن إصرار حماس على أن الحكومة وتشكيلها ومحاسبتها تعود للمجلس التشريعي الذي تقوده؛ فإن مصطلح “الشرعية” جرى توظيفه في إدارة الاختلاف السياسي.
والملاحظة الأخيرة أنه إذا كان الفلسطينيون بشكل عام وبكافة فصائلهم متوافقون على منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة تجمعهم وتمثلهم؛ إلا أن هناك اختلافا كبيرا حول استمرار أو انتهاء مدة صلاحية المؤسسات القيادية والأعضاء الذين يشغلون مواقعهم في المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية. فهؤلاء القيادات والأعضاء تمّ اختيارهم قبل أكثر من عشرين عاما، وانتهت صلاحياتهم الافتراضية قبل سنوات طويلة.
وبالرغم من اتفاق القاهرة في مارس/آذار 2005 الذي ينص على إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، فإن ذلك لم يتم حتى الآن؛ بينما هناك فصائل (حماس والجهاد..) تمثل نحو نصف الشعب الفلسطيني غير ممثلة في المنظمة، وبالتالي نجد أنفسنا أمام وضع إشكالي، تقوم فيه جهات معينة باحتكار “الشرعية” وتتبنى مسار التسوية السلمية وتدخل المفاوضات باسم الشعب الفلسطيني، وهي مستعدة لتقديم تسويات تاريخية.. حتى قبل أن يتم ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، ليعكس الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني.
***
لم يسْعَ هذا المقال إلى حصر كل المصطلحات التي قد تحمل طابعا إشكاليا، وإنما سعى إلى تسليط الضوء على عدد من المصطلحات التي تستحق انتباه السياسيين والإعلاميين والباحثين، ليتم التعبير بشكل أكثر دقة وموضوعية في الأمور المتعلقة بشأن قضية فلسطين.
المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة 27/2/2016