مع كل اقتراب أجل التصويت في الانتخابات التشريعية أو الجماعية أو الجهوية يظل المواطن في حيرة من أمره مع كثرة تداعيات الأحزاب وبرامجها وأهدافها، وفي معرفة توجهاتها، ومعاني شعاراتها العريضة، وكلماتها الفضفاضة، وبرامجها الاستراتيجية، في مقابل تنامي الخطاب الخشبي السياسي للمنتخبين، حتى أصبح من العوائد لدى العديد من الناس ان الانتخابات مسرحية تبتدئ بإشارة وتنتهي بأخرى، وقد يحسب الحاسب القيام لها بمثابة القيام للدنيا للفوز بالآخرة، نظرا لكثرة تحرك أهلها من غير العادة المطلوبة أو المسؤولية الواجبة، مما احدث تنبيها للمواطنين بالاستحمار الذي تقوم به بعض الأحزاب، هذا الضجيج الذي يأتي مؤقتا - ونحسب أن ذلك فصل من فصول السنة- وَلَيْتَه استدام قياما لخدمة الموطنين ورعاية لمصالحهم، مما يطرح العديد من الإشكالات والتي من بينها: فلماذا هذا التحرك الذي سيطر على الفاعلين وكذا وسائل الإعلام بله العامة من الناس؟ وما رهانات ذلك القيام؟ وأين يتجلى البعد المقاصدي في الانتخابات؟ وهل يكون صوتي سبيلا إلى جلب المصالح ودفعا للمفاسد؟ أو هو مشاركة في الفساد بمفهوم المخالفة؟ ولماذا لا أنقطع مقابل كثرة البرامج واختلاف التوجهات؟ وهل لا يستحق هذا التطاحن بين الاحزاب سجالا من عدم التصويت ورفض الطاعة لبرامجهم؟
لعل هاته الأسئلة وغيرها تأتي تثرى على المهتم بالانتخابات، فضلا عن المشارك فيها أو من له زادا من العلم بعلم الاحتملات بلسان زعيم حزب الأصالة والمعاصرة "إلياس العمري"، وكذا الذي يحاول أن يقرأها أو يفسر رهاناتها داخليا وخارجيا يصعب عليه ترجيح توجه على آخر إذا ما نظر نظرة الفقهاء بفقه الأولويات والمقاصد بأهمية الاحتماء بالمواطن للسهر عليه وإسداء المجهود سبيلا في راحته.
وكافتراض لحل هذه الإشكاليات الممقوتة، أقول: قد تكون مشاركتي في الانتخابات مشاركة في التغيير، وأن تفاؤلي بالإصلاح إصلاح مستقبلي ما دامت يدي وصوتي جزء من هذا التفاعل الذي قد يكون إيجابا في التعبير عن رأيي كمواطن لي حقوق وعلي واجبات، وأن الانتظار من الغير تحقيق التغيير قد يكون تغييرا على مهب الرياح فبالأحرى انتظار المهدي للإصلاح، وهو ما يحصل في الغالب حسب قراءة العامة من الناس، لأنهم يرون كل مترشح يحاول أن ينطلق من الصفر للاستغناء الذاتي وهذا هو توجه بعض الأفراد إلا من رحم ربك.
توطئة لهذا الموضوع الشائك، تعد الانتخابات في الوقت الراهن فرصة لاختيار المرشح الذي تثق في برامجه والوفاء بوعوده، فليس من المعقول أن تصوت لحزب لا تثق في برامجه أو لا يتماشى مع أهداف مجتمعك، ومن أجل ذلك كَثُرَت الشعارات المرفوعة والكلمات المرفوفة التي تدعوا إلى اقتناص المترشحين والمترشحات والفوز بالمقاعد والنيل باستحقاقات الجهة أو الجماعة أو العضوية الانتخابية، وعليه فصوتي غال ولا يمكن إهداؤه لمن هب ودب، إلا إذا كان قادرا وافيا جاهدا في جعل نفسه مرآة لإصلاح شؤون العامة من البشر وممن كلفه الله باسترعائهم.
فالتصويت أمانة يجب أن تؤدى لمن يستحقها، ولنعلم جميعا أن صوتي وصوتك وصوتنا من الوجب الوطني أن نؤديه باعتباره واجبا وطنيا مبثوثا في الدستور ومحفوظا بظل القانون، ينص الدستور على أن : "كل مواطن أو مواطنة الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات... والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وينص القانون على مقتضيات من شأنها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية، التصويت حق شخصي وواجب وطني"[1]
غير أن ما نأمل فيه أن يكون الرجل المنتخب مناسبا تماشيا مع القولة "الرجل المناسب في المكان المناسب"، الذي يقدر المسؤولية ويراعي من صوَّت عليه وثاق فيه ثقةَ الأمير لمستأمريه، بل محبا أن يظل واقفا بجنبهم، ملما بشؤونهم، قريبا من حالهم، مشاركا لهمومهم، متفاعلا مع تحركاتهم وسكناتهم، مسرورا بفرحهم، قلقا بعبوستهم اقتداء بحراسة عمر رضي الله عنه وشطرة ومسؤولية الأمراء، وإذا عجز عن القدرة والوفاء بأقواله فالواجب أن يبقى دائما واجبا باستخبار الرعية بذلك. ولو حاول الانسان تعدية ذلك بالشبهات والمتشابهات لصدِّه عنه، فقد أَغْفَل وتَغْفل لكن الله عزوجل لا يُغفل، لأنه لا تخفى عليه خافية ولا تُبهم عليه كاشفة، ولا تُجلى عليه ظاهرة، والله المستعان.
آفاق الفائز بالانتخابات:
مشاركتنا للفائز لا تقدر، خصوصا إذا كان ممن يُعرف حاله، ثقةً عند أهله، وفيا بقوله، مصمما بفعله، ذكيا في تصرفه، محبا لعمله، محسنا في تعامله لا تضره مشغلة الشياطين، ولا مكيدة الأعداء الميامين، ولا نصيحة الأحباب المُزوَّرِين، ولا قريحة النفس المكيدة، والشبهات القريبة...
فوزي في الانتخابات استحقاق وهِبَةٌ من الله لي قبل أي شيء، بل الله عزوجل شاء أن يختارني على لا غيري من البشر، لذا فلنكن مما وفقهم الله لهذه المهمة الصعبة السهلة، ولا يظن ظان أن تحركاته مع الناس هي التي أبانت له الفوز، وأظهرت له الاستحقاق كما يفعل بعض الوكلاء المترشحين، وإنما كل ذلك سبب يرتقي به الإنسان إلى الفوز، وإلا فمن يتكل على الله فهو حسبه، فلنكن على قدر تعظيمنا لهذه المسؤولية، ولنرعاها حق رعايتها، وما ذلك إلى لحث الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يبين فيه عظم المسئوليات بعد بيانه أدوار كل فرد من الأمة في الحياة، قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"[2]فلا ينبغي على من وُكِّلَ هذه المهمة أن يتقاعس في أداء واجبه اتجاهها، بل ينبغي أن يمتثل لقول الله تعالى: "إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"[3]وذلك مبدأ الإصلاح التي يسع المرء تحقيقه والقيام به، وهو مبدأ شرعي يدخل في السياسة الشرعية، ومن وكل إلى تدبير شأن الناس.
رهانات الخوف من السقوط في الفساد، ودعوى مقاطعة الانتخابات:
لما خلق الله من يصلح الأرض امتثالا لإعمار الأرض وحسن الاستخلاف فيها، أردفه سبحانه بمن يسعى في الارض فسادا، وأينما حل الحق إلا ومعه الباطل، ومن الحكمة التي أودعها الله في الكون وترادفا مع الحياة أن أبليس خلق امتحانا لآدم، ومن أهدافه السعي نحو الفساد والإفساد والذب بهذا المخلوق الطيني إلى أسفل السافلين، وقد أفلح في بعض أهدافه ولم يفلح في أغلب مخططاته وتلك سنة التدافع الكونية، ولا تخلو مصلحة الانتخابات من مفاسد زمنها دعوى المقاطعة بدليل عدم المشاركة في الفساد، ودوري يقتصر على نفسي وكفى!!!!.
الفساد كما هو مشهود في العوائد الانتخابية المغربية كثير ومعاين لدى بعض أهل الحل والعقد، ولقد ظل هذا اللفظ "الفساد" مترددا على لسان كثير من العامة، ونحن لا ننكر بأن الفساد في الانتخابات موجود؛ الرشاوي من جهة، والدعوة إلى التصويت الجماعي من قبل رب البيت في البوادي القروية، والمعرفة الشخصية، والشهرة والمكانة، وإطعام الطعام... وما خفي أعظم، ومِثلُ هذه التصرفات والسلوكيات هي من جعلت العامة من المواطنين يفقدون الثقة في وكلائهم، غير أن من الخطأ التعميم، وعدم التفريق بين حزب كذا وحزب كذا، وغالب ما يطلقون هذه الصفة من لا يتابع الشؤون العامة للبلد ومن ضمن ذلك برامج الأحزاب السياسية وأهدافهم، وأعضائهم، وما موقفهم في البلد... مما جعلهم يتبنون دعوى - حسب ما أدعي - وهي "مقاطعة الانتخابات" بدعاية عدم التصويت على الفاسدين والمشاركة في الفساد، كما تبنت بعض الحركات الإسلامية وبعض التيارات اليسارية، وهذا القول من الجهة المقاصدية فهو يحارب الفساد بالفساد، ولا يتجه خطى سد الذرائع وجلب المصلحة ودفع المفسدة الشرعيين إلا بالمواجهة والصد والممانعة والترشيح لاختيار الاصلح، وإلا فإنما هو ترك المجال في نفس الوقت للمفسدين كي يحققون مراميهم ويسعون في الارض فسادا بأكل أموال الناس بالباطل والله يقول "ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما"[4]على اختلاف المفسرين في المراد بالسفهاء.
مقاطعة الانتخابات من حق أي شخص أن يقاطع، لآن الدستور ينص على أن لكل مواطن وموطنة الحق في التصويت باعتبار التصويت حق شخصي، ويفهم بدليل الإشارة من هذا الكلام أن المقاطعة ينبغي أن تكون بطريقة قانونية:
ومنأولاها: أن يكون الفرد مسجلا في اللوائح الانتخابية،
ثانيها: أن يكون على علم تام بمستجدات الساحة الحزبية والسياسية، ثم عند التصويت من حقه ألا يوقع على أي حزب، وحينها يكون المشارك قد عبر بصوته عن عدم ارتضائه عن عمل المرشحين ، أو فقده الثقة في مقترحاتهم وبرامجهم.
وأخيرا وليس أخيرا فالدعاية التي تقوم بها الأحزاب السياسية لو أنها تفعل في أيامها العادية كما تفعل في أسبوع الانتخابات لفاز البلاد بالإصلاح والتغيير وفاز ومواطنوه بالارتقاء والتقدم والرفاهية، وتحققت كل البرامج والأهداف التي تسعى الأحزاب لها، زد على ذلك لو أنها تتشارك – الأحزاب السياسية – في بناء الدولة وتحقيق المشاريع لبلغنا بالبلاد إلى مرتبة التحسينيات وتجاوز الحديث عن الضروريات.
الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- موقع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، حقوق الإنسان كما يكرسها الدستور المغربي الجديد الفصل 30.
[2]- الجامع الصحيح المختصر للبخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير اليمامة – فبيروت 1987م - كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه رقم الحديث 2278.
[3]- سورة هود الآية 88.
[4]- سورة النساء الآية 5.