إن الموقع الجغرافي الذي تتمتع به تركيا، وفر لها إمكانية امتلاك المنظورين الأوروبي والشرق الأوسطي على حد سواء. ولذلك، فإن الأبحاث والتقييمات التي يتم إجراؤها دون الاطلاع على طبيعة العلاقات مع أوروبا، ستظل غير مكتملة، كما أن إجراء تقييمات لعلاقاتها مع منطقة الشرق الأوسط، بمعزل عن الاطلاع على بقية المؤثرات، لن يوفر دراسة متكاملة، ولن يمنحنا قدرة الحصول على النتيجة المرجوة. لا سيما أن تركيا، تمتلك أهمية إستراتيجية، فهي بمثابة الجسرٍ الذي يربط بين الشرق والغرب.
في الواقع إن هذه الميزات التي تمتعت بها تركيا، جعلت منها هدفًا للقوى العالمية على مر التاريخ، حيث سعت تلك القوى لإعاقة التقدم التركي في جميع المجالات الاقتصادية والديمقراطية وغيرها من المجالات الأخرى. وعليه، فإن تركيا واجهت طيلة القرن الماضي، عمليات عرقلة، سياسية ومادية ونفسية متعددة الأبعاد.
أعتقد أنه يجب علينا النظرُ إلى تاريخ تركيا قبل عام 2000 م، لفهم مستوى التحول الديمقراطي الذي شهدته البلاد منذ ذلك التاريخ، خاصة وأن حزب العدالة والتنمية الذي حقق تحولاتٍ أكثر عمقًا وجذرية في تاريخ البلاد، جاء استجابة لطلب الشارع التركي الغاضب، الذي سئم من نهج “الستاتيكو” السياسي الذي كان قائمًا آنذاك.
مع أفول نجم الدولة العثمانية، عانت المناطق التي كانت تكوّن أجزاء الدولة العثمانية وتركيا التي هي وريثة تلك الدولة بطبيعة الحال، من المشاكل والصراعات المختلفة التي لا تزال مستمرةً حتى الوقت الحاضر، وعليه، فإن الصراعات التي تم خلقها داخل الجمهورية التركية، حالت دون امتلاك البلاد زمام المبادرة والاهتمام بشكل أكبر بسياساتها الخارجية، فضلًا عن وقوع سلطات البلاد تحت نير أنظمة الوصاية، التي كانت تصل إلى الحكم عبر وسائل غير ديمقراطية.
دأب نظام الوصاية في تركية على القيام بانقلاب عسكري كل عشر سنوات، ليكون الانقلاب بمثابة تأديب للشعب، مما خلق حالة عميقة من اليأس في ذاكرة المجتمع. كما تعرض النظام الديمقراطي في البلاد، لحالات انقطاع مستمرة، بسبب التدخل المستمر من قبل نظام الوصاية، ما حال دون تحقيق وتنفيذ جميع أنواع المطالب الاجتماعية، من خلال استخدام وسائل غير ديمقراطية. لذلك لم تستطع بلادنا، تفعيل إمكاناتها بالمعنى الحقيقي، والوصول إلى المستوى المرموق الذي تستحقه.
شهدت البلاد في تلك المرحلة التاريخية، قيام بعض المحاولات التي سعت لتحقيق ذلك التفعيل، وتنفيذ بعض الخطوات الإيجابية، إلا أن نظام الوصاية آنف الذكر والديناميات التي كانت تعمل على توجيهه، شكلت على الدوام حائلًا منع تلك المحاولات من الحصول على نتائج إيجابية. ومع ذلك، فقد استجاب القدر لتطلعات الشعب التركي، الذي تمكن من كسر القيد بتأسيس حكومة حزب العدالة والتنمية عام 2001م، تلك الحكومة التي تمكنت من القيام بدورها وتنفيذ إصلاحات جذرية كانت بمثابة ثورة في جميع المجالات آنذاك.
الضيوف الأكارم
من دون أدنى شك، دخلت تركيا عام الـ 2000، وهي تشهد مخاضًا عسيرًا، واتجهت مع حزب العدالة والتنمية نحو تغييرات ترقى لأن تكون بمثابة ثورة في السياسة الداخلية والخارجية، مفرزةً بذلك تحولات مهمة على صعيد إنتاج فهم سياسي أكثر جوهرية وإِتّزان، كما اتجهت البلاد نحو مرحلة مفصلية حساسة، مثّلت نهاية حقبة وانطلاقة حقبة حقبة أخرى جديدة لبناء عهد جديدوقفت فيه البلاد على أفق تغييرات هي الأكثر عمقًا في تاريخها.
قادت تركيا هذه الفترة التي لا تعتبر منفصلة عن عملية التحول الجارية على مستوى العالم، متحلية بأعلى درجات المسؤولية التاريخية، ما أدى إلى ازدياد نفوذها يومًا بعد يوم، على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وفي هذا السياق، أود الإشارة أيضًا إلى أن جميع الأنشطة التي أجرتها تركيا خلال تلك المرحلة، لم تستند إلى اعتبارات حقبة الـ 100 عام الماضية، بل انطلقت من ديناميات المستقبل والتقاليد العريقة والثقافة المتميزة والإرث التاريخي المشترك، وتجربة العالم الديمقراطي، مستنهضةً حراكها على وفق فهم يهدف لتشكل نموذج مثالي في المنطقة. وانطلاقًا من ذلك، يمكننا القول إن الأنشطة المنفذة خلال تلك الفترة، استندت على أربعة أسس رئيسة. وهي:
- التحول الديمقراطي: تمكن حزب العدالة والتنمية، من تحويل تركيا التي كانت بلدًا يرزح تحت وطأة الوصاية العسكرية والبيروقراطية، إلى بلدٍ يتمتع بنظام ديمقراطي حقيقي، تتجلى فيه إرادة الشعب بأبهى صورها، والتخلص من جميع الأيديولوجيات والأفكار التي تعيق عملية التحول الديمقراطي. كما تمكن حزب العدالة والتنمية أيضًا في عهد قائدنا الشجاع “رجب طيب أردوغان”، من إنهاء “مرحلة الانقلابات”، التي بدأت بانقلاب 27 مايو\ أيَّار 1960، واستمرت نحو نصف قرن من الزمن، حيث تمكن الحزب من التصدي لمذكرة العسكر، التي صدرت في 27 أبريل\ نيسان 2007، وعرفت باسم “بيان المُذَكَّرة الإلكترونية”، ووضع النقاط على الحروف خلال اجتماع “المجلس العسكري الأعلى” الذي عقد عامي 2010 و 2011، وتصفية الوصاية العسكرية بشكل تام. كما تمكن العدالة والتنمية بفضل الشجاعة التي اكتسبها من التزامه بعدالة السلطة القضائية، من المساهمة بشكل إيجابي، في دفع مسيرة القضاء، الرامية لملاحقة التنظيمات الانقلابية والخارجة عن القانون، قدمًا نحو الأمام.
وفي السياق ذاته، تمكنت حكومة حزب العدالة والتنمية، من تصفية جميع المفاهيم المتعلقة بالوصاية، من خلال استفتاء 12 أيلول\ سبتمبر 2010، الذي أجري على حزمة تعديلات دستورية، ولقي قبولًا بنسبة 58%، وهكذا، فقد القضاء المسيَّس الذي طالما شكَّل التحدي الأكبر أمام انعتاق الإرادة الشعبية، تأثيره الذي خيَّم من خلاله على حياة المواطن منذ عام 1960، وتمكنت البلاد من جعل المراحل التي شهدت فيها عملية التحول الديمقراطي تقطعًا وتدخلاتٍ ووصاية من قبل العسكر، شيئًا من الماضي، لتسجل بعدها قفزات نوعية كبيرة نحو الأمام، في مجالات عديدة، على رأسها مجالات حقوق الإنسان وحرياته، ومجالات التعليم والحياة الاجتماعية ومجالات أخرى عديدة.
- السياسة الخارجية: مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، شهدت السياسة الخارجية تغييرات جوهرية، لم يشهدها تاريخ البلاد من قبل، حيث رفضت تركيا عبر مذكرة 1 آذار\ مارس، السماح للولايات المتحدة بمهاجمة العراق، عبر قاعدة مطار “إنجرليك” الجوية جنوبي البلاد، مرسلة بذلك رسالة هامة، تتضمن خصوصية البنية السياسة الخارجية الجديدة للبلاد، ومع حلول مؤتمر “دافوس” عام 2009، تمكنت الحكومة التركية من الوصول إلى انسجام فريد، حققت من خلاله تميزًا خاصًا بها. كما تمكن العدالة والتنمية من تطوير لغة فريدة من نوعها، في مجال السياسة الخارجية، وتفعيل دور “السياسة النَشِطة”، بدلًا من “النهج الحمائي” الذي كان متبعًا، وإنتاج سياسة “صفر مشاكل مع الجيران” بدلًا من الخطاب السياسي الذي كان يتمحور حول أن البلاد “محاطة بالأعداء من كل الجهات”، وهكذا، ازدادت شعبية تركيا واحترامها على الصعيدين الإقليمي والعالمي، بالتزامن مع تقدّمها قدمًا نحو الأمام، على صعيد تحقيق والوصول إلى أعلى معايير الديمقراطية العالمية.
كان من المتوقع قيام تركيا بتطوير منظور يوفر الاستقرار الإقليمي، سيما وأنها تأثرت بجميع النزاعات والتوترات والتطورات الجارية في منطقتها، التي تمتلك درجة عالية من الحساسية على صعيد الاستقرار، فتبنت سياسات تتمحور حول إنتاج الحلول، وليس استنباط المشاكل، والقيام “بدور ريادي” عوضًا عن المحافظة على “النهج السلبي” حيال التطورات الجارية، وسعت لتطبيق ذلك وفق أنجع الوسائل الممكنة، ومع اعتمادها سياسة “صفر مشاكل مع دول الجوار” بدأت بخلق نطاق من السلام والاستقرار في المنطقة بشكل عام وفي محيطها المجاور بشكل خاص، واضعة نصب عينيها، تمكين جميع البلدان من العيش برفاه ورخاء، ونقل مستويات التكامل بين تلك البلدان إلى أعلى المستويات المتقدّمة.
لقد تمكنت تركيا بفضل هذا المشروع، من تطوير علاقات إيجابية للغاية، مع جميع بلدان الشرق الأوسط والبلقان وشمال إفريقيا والقوقاز، وشهدت سياساتها الخارجية، خلال العصر الذهبي لحزب العدالة والتنمية، مرحلة من أنجح المراحل في تاريخها، فأصبحت البلاد في وقت قصير، لاعبًا سياسيًا فاعلًا ومهمًا للغاية على المستوى العالمي، و”قوة عالمية” لها وزنها على الخارطة السياسية، بعد أن كانت في عهود الحكومات التي سبقت حزب العدالة والتنمية، دولة إقليمية تتمحوَرُ حول ذاتها. كما تمكَّنت البلاد في هذه المرحلة، من خلق محورها الخاص في السياسات الخارجية، وأصبحت واحدة من أكثر الدول تأثيرًا في العالم.
- الاقتصاد: إن فترة حكم حزب العدالة والتنمية، التي امتدت على مدار 15 عامًا، كانت فترة مليئة بالإصلاحات والنجاحات والازدهار الاقتصادي، ولعل منجزات من قبيل، حذف ستة أصفار من الليرة التركية، وتحقيق نمو مستقر وسريع وحجم تضخّم منخفض، والوصول بالصادرات إلى مستويات حققت من خلالها أرقامًا قياسية، تعتبر من أبرز القضايا الهامة، التي يمكننا ذكرها بادئ ذي بدء.
في هذه الفترة الذهبية، تمكن الاقتصاد التركي الذي لم يتأثر بالأزمة المالية العالمية، من الوفاء بجميع التزاماته المالية، وتسديد كافة الديون المستحقة، والانعتاق من نير “صندوق النقد الدولي”، وبموازاة ذلك، تمكن الاقتصاد التركي أيضًا، من تحقيق إصلاحات مهمة جدًا، على صعيد البنية التحتية والنقل.
- السياسات الاجتماعية: تمكنت تركيا من خلال السياسات الاجتماعية التي تم تنفيذها خلال تلك الفترة، من تحقيق مرحلة تغيير اجتماعي، ارتكزت على فهم جديد يلبي احتياجات شريحة واسعة من الجماهير، حيث بدأت بتصحيح مسار التوزيع غير العادل للدخل، ونفّذت إصلاحات كبيرة في مجالي التعليم والصحة. فكان العصر الذهبي لحزب العدالة والتنمية، أسرع مرحلة “تغيير” و”تحول” في تاريخ تركيا.
خلال تلك الفترة، تجنبت البلاد نهج “الدولة القمعية”، ولم تُضع وقتها في نقاشات لا طائل منها حول العلمانية، فامتطت ركب التماهي بين الدولة والمجتمع، واضعة نصب عينيها الوصول إلى أكثر مستويات الدَمَقرَطة تقدمًا. وفي المرحلة المقبلة، ستكتسب عملية التغيير في البلاد زَخمًا أكبر، مع بدء إعداد دستور جديد، وإدخاله حيز التنفيذ، وبالتالي، ستتمكن تركيا من تحقيق التقدم المنشود في جميع النواحي.
مما لا لَبْس فيه، هو أن سر هذا التقدم، لا يقتصر على معرفة حزب العدالة والتنمية لكيفية كَسب قلوب وعقول كتل الناخبين الأتراك فحسب، بل تقف وراءه أيضًا، رابطة المحبة التي بنى جسورها مع الناخب، والإجراءات التي كانت بمثابة ثورات إصلاحية، تتوائم مع تطلعات الشعب وما يتوق إليه، فضلًا عن الدور الذي لعبته التغييرات التي تم تحقيقها. لذا، استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق نجاح كبير، منذ الانتخابات العامة الأولى التي خاض غمارها في 3 تشرين الثاني\ نوفمبر 2002، وتمكن من الحصول على دعم اجتماعي آخذٍ بالتصاعد. أما السر الآخر، فيكمن في أن التغيير الحاصل، جاءَ في سياقات تدريجية سَلِسَةٍ وسِلمِيَّة، حققت الانسجام مع طبيعة التغيير الاجتماعي.
لقد تمكنت تركيا من تعزيز المؤسسة السياسية، وخوض غمار مرحلة انتقالية عملت على تسريع التحول الديمقراطي والمدني للنظام، من خلال مشاريع “الانفتاح”، التي كانت بمثابة كلمة سر للعبور إلى وجدان المجتمع، والتي طرحت العديد من القضايا على جدول أعمال الرأي العام.
لقد كان الهدف من تلك التعديلات، إزالة الحواجز بين الدولة والمجتمع، وخلق تراجع حقيقي لمفاهيم الدول الاستبدادية، زيادة فضاء المجتمع المدني، ووضع الفرد في صدارة الحراك الاجتماعي. وباختصار، فإن السنوات الـ 15 الماضية، كانت عبارة عن حكاية، تروي قصة بداية التغلب على الوضع المتأزم، الذي ساد في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والمخاض العسير الذي شهدته البلاد في مسيرة التعافي والترميم في جميع جوانبه.
حضرات الضيوف الكرام
تمر منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا اليوم، بمرحلة تغيير جذرية. و الوجه المرئي لعملية التغيير الجارية تلك، هي المرحلة التي باتت تُعَرَّفُ اليوم بمصطلح “مرحلة الربيع العربي”، حيث تمكنت الأنظمة الاستبدادية وحتى اليوم الأول من تلك المرحلة، من التصدي والوقوف في وجه جميع موجات التغيير التي حدثت في العالم قصد البقاء على رأس السلطة، إلا أن حركة التحرر والانعتاق التي قادها أبناء المدن والطبقة الوسطى في المجتمع، استطاعت أن تهزّ العديد من البنى المتجذّرة، التي اِعتُبِرَت في يوم من الأيام، أنها ثابتة وبمنأى عن رياح التغيير، وفي لحظة واحدة، اكتسبت المرحلة بعدًا، غيَّر نوعية وطبيعة السياسة في المنطقة والعالم على حد سواء. ورغم كل الهجمات التي اِستهدفتها، إلا أن المواقف القوية الإرادة، التي عبرت عنها شعوب المنطقة، زادت من حجم الأمل في بناء مستقبل أفضل لمنطقتنا.
إن مطالب الحرية والكرامة والازدهار، التي طالبت بها شعوب المنطقة، شكَّلت أسسًا لمرحلة جديدة، مرحلة مليئة بالتغييرات، التي تحتوي على فرص ، بدأتها المنطقة في رحلة طويلة وشاقة، لتشهد بشكل طبيعي بعد ذلك فترات صعود وهبوط، كغيرها من حركات التغيير العالمي.
عناية الضيوف الأكارم:
في هذه المرحلة، بات من الواضح أن العالم الإسلامي، لم يعد مثلما كان عليه في المراحل السابقة، حيث شهد الشرق الأوسط، انبثاق صحوة جديدة تتحدى حالة الخدر التي كانت سائدة، وشعوب المنطقة قد وصلت الآن إلى نقطة لا رجعة فيها، في مسيرة تقرير مصيرها. وفي هذا السياق، نستطيع القول: إن الأحداث التي شهدتها المنطقة، تحمل طابعَ اختبارٍ للعديد من البلدان، على الصعيدين العالمي والإقليمي.
في هذه المرحلة، ينبغي علينا التأكيد على ضرورة أن لا تؤدي الثورات التي تشهدها المنطقة العربية، إلى حالة جديدة من الاستقطاب، مبنية على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية، والحفاظ على السلام الاجتماعي ووحدة التراب الوطني في بلدان الربيع العربي.
إن التطورات التي نشهدها اليوم، تُظهر أن منطقتنا تواجه تحديات خطيرة في هذا المجال. لذا، يتحتّمُ علينا القيام بمساعٍ مشتركة لمواجهة أولئك الساعين من أجل فهم وتفسير التطورات التي يشهدها الشرق الأوسط من زاوية الصراعات الطائفية والدينية، خاصة وأن المسؤولية ملقاة على عاتقنا، لإظهار مدى إمكانية أن تحمل المعتقدات الدينية طابع التوحيد والتكامل، ودحض المساعي التي تعمل على إظهارها كعنصر يغذي الفرقة والتشظّي. خاصة وأن بنية منطقة الشرق الأوسط الفريدة والمبنية على أسس التعددية الدينية والطائفية والثقافية، تشكل مثالًا حيًا للعيش المشترك بين الشعوب المنتمية لأديان ومذاهب متباينة، في أجواء مفعمة بالمحبة والاحترام المتبادلين.
حضرات الضيوف الكرام
إننا نواجه في هذه المرحلة، مشاكل رئيسة تهدد العالم الإسلامي خاصة والعالم بأسره عامة. حيث تعتبر العنصرية، والطائفية، والإقصاء، أبرز المخاطر التي تشكل تهديدًا مشتركًا للبلدان الإسلامية وغيرها من البلدان الأخرى، سيما أن المسلمين يقفون اليوم في مواجهة موجة عارمة من المآسي وأحداث القتل والفوضى والاضطرابات التي تشهدها مناطق العالم الإسلامي. إننا نقف اليوم وفي هذه الفترة التي نشهد أَحداثها ووقائعها، شاهدين على مجازر ترتكب بحق البشر من نساء وأطفال، على يد حركات وجماعات تحمل أسماءً مختلفة، وتقتل بلا سبب، رغم علمها ومعرفتها مسبقًا بالآية الكريمة التي يقول فيها الباري جل وعلى في الذكر الحكيم ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة – الآية 32).
إن وصول أتباع دين يعبر اسمه عن الأمان والرفاه والسلام إلى هذا الوضع وهذه الحالة، يعتبر وضعًا غير مقبول ألبتة، فالحالة التي يعيشها المسلمون، الذين تقاسموا المنطقة نفسها لقرونٍ طويلة، تعبر عن حالة مؤلمة للغاية. وبالرغم من امتلاك المسلمين للوسائل الكفيلة بأن تجعلهم أكثر يقظة من أي وقت مضى، لمواجهة كافة أشكال الألاعيب والمكائد التي تنصب لهم، إلا أن بعض الحركات الدينية في العالم الإسلامي، وللأسف، تواصل خدمة الإرهاب الإسلامي (الإسلام فوبيا)، الذي ما فتئ يتصاعد في العالم.
ينبغي على العالم بأسره، تطوير موقف مشترك، لمواجهة المخاطر التي تهدد جميع البلدان. كما ينبغي على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، اتخاذ جميع الاحتياطات، قبل أن تشمل تلك الأخطار العالم كله، بما في ذلك البلدان الإسلامية، التي ينبغي عليها تطوير سياسات مشتركة، تقوّض من خلالها جميع أفكار التعصب العرقي والطائفي، التي توقع بين المسلمين وتقض مضاجعهم، وقطع الطريق أمام الأفكار التي تتغذى على الفرقة والتمييز، والعمل بشكل جماعي وبذل جهود مشتركة ومكثّفة، أكثر من تلك الجهود التي تم بذلها بالأمس، سيما وأننا كبلدانٍ إسلامية شقيقة، تمتد مساحاتها على مساحة جغرافية مترامية الأطراف، نمتلك روابط تاريخية عميقة ومتجذّرة، تدفعنا نحو بذل تلك المساعي المشتركة.
وفي هذا الإطار، ينبغي على جميع الدول الإسلامية، تعزيز وتوطيد أواصر التضامن السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعاون المتبادل فيما بينها، ودعمه دومًا نحو الأمام، لتحقيق المزيد من مستويات التعزيز والتعاون.
المشاركون الكرام؛
تولي تركيا أهمية كبيرة لاستقلال البلدان التي تأثرت جراء الربيع العربي، وحماية وحدتها السياسية ووحدة ترابها الوطني، ولتسلم شعوب البلدان آنفة الذكر زمام قيادة وتوجيه مراحل الإصلاح. سيما أن تركيا بذلت مساعٍ كبيرة على صعيد تقاسم معارفها وخبراتها وتوفير الدعم اللازم لتلك البلدان، التي تمر بمرحلة انتقالية عصيبة.
وهنا أود التنويه إلى أن تركيا لا تسعى لأن ينظر إليها كنموذجٍ للبلدان الأخرى في المنطقة، وهي ليست بصدد ذلك، لأنها تدرك أن لكل بلد من بلدان المنطقة ظروفه الموضوعية الخاصة به.
نحن أكّدنا في هذه المرحلة الحساسة، على أهمية النظام الذي يستند إلى أسس ومبادئ المواطنة التي تكفلها الضمانات الدستورية، وعلى تبنّي نهج يرفض جميع أنواع التمييز الديني والطائفي والإثني في المجتمع. لذا لم نألوا جهدًا في توفير جميع أشكال المساعدات الممكنة لبلدان المنطقة، مستفيدين من الخبرات المتراكمة، التي حصلنا عليها من خلال تجربتنا الخاصة بالتحول الديمقراطي.
كما أن احتضاننا إخواننا من اللاجئين السوريين والعراقيين الذين لجؤوا إلى بلادنا، على وفق ما تقتضيه مسؤولية الأنصار تجاه إخوانهم المهاجرين، ولم ندّخر ولن تدخر أي جهد، من أجل الوفاء بمسؤولياتنا فيما يتعلق بتقديم المساعدات الإنسانية لهم.
السادة العلماء الأفاضل.. حضرات الضيوف..
أمامنا طريقة واحدةٌ فقط، للتخلص من الأزمة التي نعيش وقائعها، وهي بناء منظومة قيم ونظام تعليمي، يسمح لنا بتعلّم الإسلام والقيم المتعلقة به، بشكل صحيح وقويم. فبناء نظام تعليمي قوي، يعتبر الطريقة الوحيدة الناجعة، في التصدي للديناميات التي تعمل على رفع حدة المواجهة والصراعات بين الحضارات.
وفي هذا السياق، أود الإشارة إلى أن تركيا، شكلت مصدر إلهامٍ للعالم الإسلامي، من خلال المنجزات التي تمكنت من تحقيقها خلال السنوات الـ 13 الماضية. لذلك، فإن الاستفادة من الخبرات التراكمية لبلدان متطورة مثل تركيا وماليزيا في مجال التحوّل الديمقراطي والحريات العامة، وتنفيذ مشاريع مشتركة،سيكون له مساهمات كبيرة وخلّاقة في التعافي من هذه الأزمات التي تشهدها مناطق شتى من العالم الإسلامي.
ومن هنا، أود أن أنتهز هذه الفرصة، لأعرب عن تمنياتي القلبية، في أن يكون هذا المنتدى وسيلة خير يَعم على ربوع العالم الإسلامي أجمع، متمنيًا لكم دوام التوفيق والنجاح.