د.نزار السامرائي – مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
لا أدري لماذا يربط بعض الكتاب العرب الذين يعيشون خارج المنطقة الجغرافية للصراع الدائر في منطقة الخليج العربي وجزيرة العرب وبلاد الشام، بل ويعيشون خارج الزمن المعاصر، عند طرحهم لأي موضوع يتعلق بسلبية نظرة الغرب إلى الإسلام، ووصول خميني إلى السلطة عام 1979، ومن بعدها نشوب حرب الثماني سنوات ويجردون الأمر من عمقه التاريخي الذي يعود لعدة قرون، ربما تبدأ مع فتح بلاد فارس في معركة القادسية أثناء خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من دون أن يمتلكوا أدوات المعرفة اللازمة بالجذور التاريخية لهذا الصراع، وحصر أسبابه بعوامل الاختلاف المذهبي فقط، ومع أننا لا ننكر أثر هذا العامل في نزاعات وصلت حد استخدام السلاح في أكثر من بقعة وأكثر من حقبة زمنية، إلا أن قصر الأمر على البعد المذهبي ليٍ لعنق الحقيقة ومحاولة توظيف البراعة في السرد، لتمرير أفكار ذات طابع لا يخلو من تزييف وتحريف واستفزاز.
ألم يقل أكثر من معمم إيراني فارسي بأن العرب حكموا باسم الإسلام عدة قرون وأن الأتراك حكموا باسم الإسلام أيضا عدة قرون أخرى، وأن الوقت قد حان ليأخذ الفرس فرصتهم في الحكم باسم الإسلام، فماذا نسمي هذه النزعة التي لم يرد عليها مرشد الثورة في إيران ولا أي من الوجوه القيادية في إيران وعما إذا كانت تمثل وجهة نظره، ألا يمثل هذا الرأي بمثابة البيان الأول لانطلاقة المشروع الإيراني الإمبراطوري؟
قرأت مقالة الدكتور عبد الله الجباري والمعنونة (أزمة الإسلام وأزمات فرنسا)، وبقدر ما رأيت أن الكاتب كان موفقا في عرض وجهة نظر مغاربية حاذقة عند الحديث في إشكالية علاقة الهوية بين الإسلام وبلاد المغرب العربي من جهة، وبين فرنسا بحكم تعرض المنطقة لاحتلال فرنسي طويل من جهة أخرى، وجدت أن كثيرا من كتّاب الأمة تأخذهم حماسة العقد القطاعية، مع جهل معيب في قضايا الأمة إذا ابتعدت عنهم جغرافياً، لأنها حينذاك ستتجاهل أهم مكونات التاريخ العربي الإسلامي الذي بدأت شمسه بالشروق من جزيرة العرب واستقرت هنيهة في الشام ثم أخذت بعدها الحضاري الإنساني المشرق في العراق، ولا أعرف لماذا يتجاهل الدكتور الجباري وقوف فرنسا مع إيران في الوقت الحاضر على الرغم من أن الأراضي الفرنسية كانت عرضة لعمليات إرهابية نفذتها منظمات إيرانية، هل لأن السبب يكمن في هذه النقطة بالذات؟ وخشية باريس من دور المنظمات الإرهابية التي لا يستطيع الغرب السيطرة على تحركاتها؟ أم لأن تحالفا بين إسلام إيران وكاثوليكية فرنسا يقتضي من باريس على لسان ماكرون توجيه أصابع الاتهام للإسلام السُنّي بأنه يعيش أزمة مفصلية، ولا يسمي الأشياء بأسمائها من أن الأزمة الحضارية الراهنة ناتجة عن إرهاب إيراني عابر للقارات، بما في ذلك دعم مالي وتسليحي وتدريبي مع مقرات آمنة لشيعة العالم مع استدراج فيه من الخبث أكثر مما فيه من حسن النية لعناصر من السُنّة تحركهم كيفما تشاء من أجل الإساءة للأمة الإسلامية وكي تظهر بأنها تمثل خط الاعتدال في محيط الإسلام السُنّي المتطرف.
هنا استدرك لأقول، ليس من حق أي عربي أن يحجب حق أي مفكر أو كاتب أو سياسي عربي خارج منطقته الجغرافية أن يتصدى لهموم الأمة في أية بقعة جغرافية خارج منطقته الوطنية، فلا أزعم أن كتّاب المشرق العربي هم أولى أو حتى أقدر على معالجة قضاياهم المحصورة في الجغرافيا، وإلا سأمارس قمعا فكريا لا يمكن تبريره بأي حال.
على هذا فإن من حق الدكتور عبد الله الجباري أن يفكر بصوت عال عما يراه في قضايا الأمة في أي مكان كما أسمح لنفسي أن أكتب في شؤون المغرب العربي، وليسمح الدكتور الجباري أن أأخذ مقطعا واحدا من مقالته المشار إليها آنفا ولا أتجاوزه إلى سواه، وهو المقطع الذي يقول فيه، (أزمة العراق: شكّلت الثورة الإسلامية بإيران حدثا مفصليا في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، حيث أعظم ثورة ضد الظلم والعمالة في القرن العشرين، وقامت فرنسا بأمرين متوازيين أولهما دعم صدام حسين في حربه طويلة الأمد ضد الجار الإيراني، مع ما رافق ذلك من إشعال نار الطائفية التي لم تكن مستعرة.
ثانيهما: الإخلال بوعودها الموثقة مع إيران، حيث تراجعت عن عقود بيع السلاح مع نظام الشاه، مقابل تزويد العراق بالسلاح لإذكاء أزمة الشرق الأوسط التي لم تنته إلى الآن).
لا أعرف من أين كوّن الدكتور الجباري فكرته عن الصراع القائم الآن في المنطقة ويحصره في حرب الثماني سنوات؟
نعم اشارك الدكتور الجباري وجهة نظره من أن الثورة في إيران شكّلت حدثا مفصليا في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، ولكن لو كان الكاتب قد أضاف إلى ذلك الاستنتاج المبكر سلسلة أخرى من الأسئلة المهمة تبدأ بكيف ومتى ولماذا، لكان قد توصل من دون عناء وحتى من دون حاجة إلى الاستنجاد بكتّاب آخرين إلى حقائق تجعله يصطف معنا في تفسير أحداث المنطقة وتداعياتها مع الإلمام الكامل بأسبابها الحقيقية من دون إجهاد النفس في تفسيرات تقودها النوايا الطيبة والإفراط بحسن الظن بالآخر وتصوير كل ما عنده على أنه من عمل الملائكة وما عند الآخرين على أنه من فعل الشياطين.
1 – ابتداء أقول للدكتور عبد الله الجباري إن الخميني حملته من باريس طائرة فرنسية (إير فرانس) من طراز بوينغ 747 (جمبو) إلى طهران يوم 1 شباط/ فبراير 1979، فهل من حقنا أن نفسر ذلك الحدث على أنه تواطؤ بين العقلية الاستعمارية الفرنسية وبين الخميني أم أنه بحث عن مصلحة لفرنسا حكمتها ظروف ملحّة كما حكمت القرار الفرنسي بتزويد العراق بالسلاح؟ وعلى هذا فمن حقي أن أفسر التسهيلات الغربية لإيصال الخميني إلى طهران باعتبارها جزءً من خطة التآمر على الأمة، لا سيما وأن الصراع بين مركزي الاستقطاب بين الشرق والغرب كان في أوجه، وأن الولايات المتحدة رأت أن تطويق الاتحاد السوفيتي بحزام الفتن الدينية هو الذي يرجح الكفة الغربية من دون أن يبذل الغرب جهدا حربيا أو ماليا في المواجهة بل يتركها لأهلها.
2 – إن الثورة (الإسلامية) في إيران قامت على أكتاف حركات غير إسلامية، مثل حركة مجاهدي خلق والمتعاونين معها وهم كُر في أوساط الشعب الإيراني، ولكن العاطفة الدينية المستندة على سذاجة وجهل واسعين في أوساط الشعب الإيراني مكّن الخميني وبدعم دولي متعدد الأطراف من السطو على انجازات الشعب والقفز إلى السلطة.
3 – قفز الدكتور الجباري على أحداث مفصلية مرّت بها إيران تحت قيادة الخميني قبل الحرب الدفاعية العراقية التي انطلقت يوم 4 /9 / 1980، ولكنه تجاهلها تماما وكأنها لم تحصل أصلا، ومع ذلك لأجاريه في وضع هذا التاريخ كخط فاصل بين تاريخين، فأقول إن العراق كان من الدول التي تعتمد على الاتحاد السوفيتي في تجهيزات السلاح وبنسبة عالية من احتياجاته، ولكن الحسابات السوفيتية المعروفة وقت الأزمات وخذلانه لحلفائه وأصدقائه كما حصل مع مصر، جعله يكرر لعبته المفضلة وهي الضغط بتوريد صفقات السلاح لتحقيق أهداف سياسية أبعد، وهنا أود أن أشير إلى أن صفقة دبابات سوفيتية حديثة من طراز T72 كانت على وشك الرسو في ميناء أم قصر العراقي قبيل اندلاع الحرب، ولكن برقية عاجلة من موسكو جعلتها تغيّر وجهتها وتغادر الخليج العربي، ولدى السؤال من السوفييت عن سبب ذلك، قالوا إن انعدام الأمن في المنطقة دفعهم إلى اتخاذ هذا الاجراء وإنهم أمروا السفينة بالتوجه إلى ميناء العقبة في الأردن، وظل العراق ينتظر تسلم الصفقة التي تبين أن الاتحاد السوفيتي أمر سفينته بالعودة إلى ميناء منسك أحد موانئ الاتحاد السوفيتي المهمة في ذلك الوقت، هذا حصل على الرغم من أن العراق يرتبط بمعاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي السابق كان قد وقعها في 9 نيسان/أبريل عام 1972، فهل يسلم العراق مفاتيحه إلى إيران أم يبحث عن مصادر أخرى للسلاح من مصادر لا تقبل الشبهة السياسية كما فعلت إيران بحصولها على صفقة سلاح إسرائيلية؟.
ربما عليّ أن أثبّت أن التعاون العسكري العراقي – الفرنسي والذي قال الدكتور عنه إن فرنسا قامت بأمريين متوازيين، ووضع تسليح العراق كأهم خيار لفرنسا في تأجيج حرب طويلة الأمد كما أسماها وجردّها من كل دوافعها القومية الفارسية وألبسها هذا الرداء الفضفاض للأسف الشديد، أكرر إن العراق لم يدخل السلاحَ الفرنسي إلى جيشه إلا بعد أن تصاعدت المعارك على نحو بات يهدد سيادة العراق ووحدة أراضيه من قبل بلد يتفوق عليه ثلاث مرات في عدد السكان والمساحة، وتقلصت توريدات السلاح من مصادرها التقليدية وخاصة من الاتحاد السوفيتي، ولأن العالم يقوم على قواعد من التوازن الدولي والإقليمي، ولأن العالم لم يكن يسمح لأي من الطرفين بابتلاع الآخر، فقد وجدت فرنسا أن مصالحها الاقتصادية مع العراق تقتضي الاستجابة لطلباته بالحصول على الطائرات فقط، فلا وجود للأسلحة الفرنسية على مستوى الدروع أو الأسلحة المتوسطة والخفيفة، والسلاح الفرنسي لم يدخل الخدمة إلا في عام 1983 عندما استعار العراق خمس طائرات من نوع سوبر أتندارد، وبعد ذلك بمدة ليست قصيرة دخلت طائرة ميراج F1، فكيف يصور الدكتور الجباري أن فرنسا دعمت العراق من أجل خوض حرب طويلة الأمد مع إيران؟.
ومع ذلك فأتمنى على الدكتور الجباري أن يعرض وثائق بصفقات السلاح التي عقدتها فرنسا مع العراق قبيل بدء الحرب وكانت سببا من إغراء صدام حسين بشنها على إيران، أو الصفقات الفرنسية مع إيران وألغتها فرنسا معها بعد (الثورة الإسلامية) ذلك بأن جميع المراقبين المنصفين والمحايدين يعرفون أن السلاح الإيراني بمعظمه أمريكي المنشأ تماما كما يعرفون بأن السلاح العراقي سوفيتي المنشأ، إلا إذا اعتبر تعليق اتفاقية التعاون النووي بين البلدين جزء من صفقات السلاح وحينذاك فإنه يُدخلُ نفسه في موقف عليه الدفاع عنه عن معلوماته بشأن هذه القضية، وأخيرا أتوجه بسؤال برئ إلى الدكتور الجباري وأقول له لماذا تشعر بالابتئاس لأن فرنسا جمدت عقودها مع إيران؟
ربما أجد نفسي ملزماً بالعودة إلى تاريخ العلاقات العلمية بين العراق وفرنسا، فقد وقع البلدان منتصف سبعينيات القرن الماضي اتفاقية لبناء مفاعل نووي من طراز أوزيراك، ولكن فرنسا التي تسلمت أقيام المفاعل، كانت تخطط لعدم تمكين العراق أو أي بلد عربي من امتلاك الطاقة النووية حتى للأغراض السلمية، كي لا تختل موازين القوى في المنطقة على حساب الحليف الإسرائيلي، (وهذا ما لا نلمس منه شيئا في تعامل فرنسا مع المشروع النووي الإيراني الآن والذي تعي فرنسا تماما أنه لا يهدد إسرائيل، وإنما القصد منه إخضاع العرب للطموحات الإيرانية الإمبراطورية التي لا تعرف من الإسلام إلا صور التشويه واللعن والبراء وغيرها من المفاهيم التكفيرية التي يرتكز عليه التشيع الإيراني)، ولهذا وعندما رأينا أن فرنسا أكملت بناء المفاعل ووضعته في ميناء طولون لغرض شحنه إلى البصرة، كانت المخابرات الفرنسية تترصده وسهلت للموساد الوصول إلى المفاعل وتفجيره يوم 6 نيسان/ أبريل 1979، وعندما أعادت بناءه وشحنه للعراق لاحقا، وعندما كان في مرحلة البناء وقبل تشغيله وبتعاون ثانٍ مع المخابرات الفرنسية شنت الطائرات الإسرائيلية غارة ناجحة دمرته يوم 7/6 /1981، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، بعد أن نفذت الطائرات الإيرانية عدة غارات فاشلة عليه.
فمن أين توصل الجباري إلى استنتاجاته الملتبسة بأن فرنسا هي التي سلحت صدام حسين لشن الحرب على إيران؟.
أما قوله إن الحرب هي التي أثارت الطائفية التي لم تكن مستعرة قبل الحرب، فيبدو أن الدكتور الجباري لم يقرأ تاريخ فارس أبدا، بل هو مأخوذ بشعاراتها الراهنة التي تستهوي المبتدئين بالسياسة والصحافة وليس المفكرين إلا من كان يحمل نزعة مبكرة ذات ولاء محكوم بعقد التاريخ والجغرافيا.
هنا أعود بالدكتور الجباري إلى بدايات القرن السادس عشر وأنصحه بقراءة تاريخ نشوء الدولة الصفوية، التي اعتمدت التشيّع الجعفري الاثني عشري كمذهب رسمي لها، ومن أجل إزاحة سُنّة فارس الذين كانوا يشكلون الغالبية الساحقة من سكانها من الخارطة السكانية، ارتكب إسماعيل الصفوي مجازر ذهب ضحيتها أكثر من مليون سنّي وفرضَ التشيعَ بحدِ السيف على فارس، فهل يعتبر تلك الحقبة فترة وردية في تاريخ المنطقة ولا يجوز الحديث عنها؟
4 – ومن أجل ألا أذهب بعيدا في تفسير النوايا الإيرانية التي نعرفها نحن أبناء المشرق العربي بالتطبيق والممارسة، أرى أن أرجع إلى نصوص الدستور الإيراني التي بإمكانها أن ترد نيابة عني وعن كل شخص لم يكن قد أقتنع بما طرحه الدكتور الجباري في مقالته وخاصة في الفقرة التي أوردتها آنفاً، فأقول إن الدستور الإيراني الذي شُرّع عام 1979، حمل نصوصا طائفية لا لبس فيها، فهو يشترط برئيس الجمهورية الإيرانية أن يكون من أتباع الذهب الجعفري الاثني عشري، فهل هذا من نتائج الحرب؟ أم هو قناعة مختزنة في الوجدان الإيراني الرسمي، ويراد لها أن تنتشر عبر نصوص دستورية ملزمة للحكومة، ثم لنأخذ المادة 12 من الدستور الإيراني والتي نصّت على أن “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الاثني عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد، وغير قابلةٍ للتغيير”، أما المادة الثانية منه فتنص على “يقوم نظام الجمهورية الإسلامية على أساس الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة والاجتهاد المستمر من قِبل الفقهاء جامعي الشرائط”.
ومن أجل تبرير التدخل الإيراني في شؤون الدول الأخرى، نصت المادة على أن تنظيم السياسة الخارجية للبلاد، يقوم على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي الأرض، فمن هو الذي منح إيران هذا الحق وخولها حماية مستضعفي الأرض؟
أما المادة 154 فقد نصت على أن جمهورية إيران الإسلامية تعتبر “سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله، قضيةً مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل، حقَاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطةٍ من العالم، وفي الوقت نفسه، لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”، فهل نرى شيئا من السعادة والحرية في إيران اليوم أم أن قوة البطش هي التي تتحكم بالملايين من مختلف الأعراق والمذاهب هناك؟
ومن أجل بث الحماسة في أنصاره يقول الخميني: “كل ما نفتقده هو عصا موسى وسيف علي بن أبي طالب، وعزيمتهما الجبّارة، وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي، سنحصل على عصا موسى وسيف علي بن أبي طالب أيضًا”.
هل يوافق معي الدكتور الجباري أن تلك النصوص الدستورية والتي بوشر بوضعها موضع التنفيذ العملي في كل بقعة تمكنت إيران من التحكم بمصيرها، أو خطب الخميني وأوامره تعد سببا كافيا ومشروعا لأي بلد يريد الحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه بالتصدي للمشروع التوسعي بكل الوسائل المتاحة بما فيها الحرب وحتى الحرب الوقائية؟ ولعل في الشعارات التي رفعها الخميني بعد وصوله إلى السلطة وقال فيها إن طريق القدس يمر من بغداد، ما يعطي حقا شرعيا وقانونيا للعراق للدفاع عن نفسه بكل الوسائل المشروعة المتاحة له، على الرغم من أنه لم ينحدر إلى المنزلقات التي انزلق إليها الخميني عندما وافق على الحصول على السلاح الإسرائيلي، وهنا لا بد أن نطرح سؤالا محددا وهو ماذا فعلت إيران منذ أن احتلت العراق فعلا بعد أن تسلمته هدية مجانية من الولايات المتحدة؟ وهل تقدمت خطوة واحدة على طريق تحرير فلسطين؟ أم أن انشغالها بتصفية الحسابات داخل العراق وتوجيه السلاح إلى صدور العراقيين والفلسطينيين المقيمين في العراق منذ نكبة عام 1948، ثم الانتقال بعد ذلك للقتل وممارسة أبشع أنواع الاضطهاد والتنكيل في سوريا ثم اليمن، وتخيير الناس بين التشيع وبين الموت والسجن مع التعذيب والتهجير ألم يطلع على الأحداث الجارية يوميا في هذه الأقطار؟ أليس هذا ما يحصل الآن في أكثر من بلد عربي؟ ولأطرح سؤالا مجردا على الدكتور الجباري، وأقول له هل إن ما قامت به المدرسة العراقية في الرباط والمُدارة بإشراف إيراني بالخروج عن المنهاج التربوي الرسمي المغربي ومحاولة نشر التشيّع في المملكة هو جزءٌ من مخطط فارسي عابر للقارات يسعى لتوظيف المذهب خدمة لمشروع إمبراطوري فارسي، وكذلك ما قام به الملحق الثقافي الإيراني في الجزائر من خرق قواعد العمل الدبلوماسي وحوَل مكاتبه إلى مراكز للتبشير والدعوة للتشيّع، أو ما حصل في السودان والجزائر ومصر، هل كان ذلك من نتائج الحرب العراقية الإيرانية ومن فعل صدام حسين؟ أم أنها جزءٌ من الأسباب الحقيقية لنشوب الحرب العراقية الإيرانية؟
إن المراكز الثقافية الإيرانية في جميع أنحاء العالم أصبحت من بين أبرز أدوات السياسة الناعمة التي انتهجتها إيران لنشر التشيّع على مستوى العالم، وتعتمد هذه المراكز على توزيع المنشورات الطائفية التي تركز على تكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمهيد الأرضية للقبول في الجامعات الإيرانية المتخصصة في شؤون المذهب ووسائل التحرك في الأوساط الشعبية، والتي تغدق الأموال على طلابها، وتوفر لهم أجواء المتعة الجنسية باعتبارها أهم أداة لكسب الشباب، أما المراكز الثقافية فتم توظيفها في البرامج التمهيدية للانتقال إلى الخطوات الأكثر وضوحاً في كشف الوجه الحقيقي للتشيّع كحركة تكفيرية تبدأ برامجها في تكفير كل من لا يؤمن بالولاية بل وتكفر صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والنيل من أزواجه، وتم افتتاح مكاتب لمؤسسات طائفية تحت مسميات ثقافية، في كل من أفغانستان وتركمانستان والعراق وطاجيكستان وقيرغيزستان، وأسست إيران مثل “المجمع العالمي لأهل البيت”، والذي يمتلك مكاتب في أكثر من 90 دولة فله 39 مكتبًا في آسيا، و42 في إفريقيا، و18 في الأمريكيتين، و40 في أوروبا وهذه الأرقام ليست ثابتة فهي تتناسل باستمرار طالما شعرت الزعامة الإيرانية بأن وجودها مرحب به أو على الأقل مسكوت عنه، ولا يثير إلا قدرا ضئيلا من ردود الفعل المتحفظة، وتستقطب هذه المراكز الشباب من مختلف البلدان وترسل بهم إلى طهران عبر “منح دراسة” لغرض حصولهم على شهادات جامعية في الفكر الشيعي الجعفري الاثني عشري حتى وإن كانت تخلو من تزوير على نطاق واسع النطاق.
هذا بخلاف عشرات الفضائيات وآلاف المواقع الإلكترونية التي تروج للفكر الطائفي التكفيري الشيعي المتشدد الذي يجهد نفسه بتأويل آيات القران الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة، في الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أزواجه المطهرات من الأرجاس، وتطرح أحاديث تنسبها للأئمة الاثني عشر وتنسب لهم معجزات وكرامات لم تتوفر حتى للأنبياء سلام الله عليهم بمن فيهم الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أغرب ما يلفت نظر المراقب أن التشيّع الإيراني وهو يطرح كل مفاهيم التكفير، يستميت في إلصاق تهمة التكفير بمن يسميهم بالنواصب، ولكن هل سمع أحدنا بأن الولي الفقيه أو مكتبه، أو علي السيستاني قد صحح ما يطرح المعممون الطارئون على العلوم الدينية؟ أم أن مرجعية النجف ومرجعية طهران تريان أن الايجابيات المتحققة من وراء الشرك البواح في تلك البرامج يمكن توظيفها في خدمة المذهب، في حين أن سلبياته ستنحصر في المعممين أنفسهم.
وأخيرا أتمنى على كل من يتصدى للحديث عن الحرب العراقية الإيرانية خاصة وللعلاقات العربية الفارسية وعقد التشيع الفارسي من قادة فتح فارس وإلباس ذلك الحقد طابعا مقدسا تحت لافتة الولاء لآل البيت، أن يرجع إلى حقائقها التاريخية المؤكدة وليست تلك المعبرة عن وجهات نظر جاهزة أو مقدمة من طرف واحد، فإذا كان التاريخ يُقرأ بهذه الطريقة المبتسرة ولما تمض أحداثه إلا سنوات معدودة مع توفر وسائل الاتصال الحديثة، فكيف سنصدق الروايات التاريخية التي مضت عليها عشرات القرون؟