تمحلات الإسلام الثوري أو الحركات الجهادية من وجهة نظر سيكولوجية......حمزة الوهابي

كثرت الدراسات والكتابات حول الإسلام الجهادي أو ما يعرف بالسلفية الجهادية في العشرية الأخيرة، خصوصا مع صعود وتزايد اقبال الشباب المسلم على الانتماء إلى الحركات الجهادية الإسلامية، وذلك منذ الهجوم على برجي التجارة العالمية في نيويورك سنة 2001 وكذا مع الضجة الإعلامية التي أحدثها تنظيم القاعدة بقيادة زعيمه السعودي الأصل أسامة بلادن. ومع الهبة الإعلامية الجديدة للتنظيم الجهادي الإسلامي الجديد المسمى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ازداد اهتمام الباحثين بهذه الظاهرة كظاهرة الاجتماعية والسياسية والفكرية.

ولقد صب جهد جل هؤلاء الباحثين على مقاربة الموضوع بالأساس على البنية الفكرية المشكل للعقلية الجهادية، بمعنى تصب في مدارسة التراث الإسلامي أصولا وفقها وعقيدة وشريعة وتاريخا. ذلك أن السبب الرئيس في ظهور التنظيمات الإسلامية الجهادية قد جاء كردة فعل للشباب المسلم على أفول نجم الإسلام وتخلف أمته، وانضواؤهم تحت هذه الألوية لم يكون إلا سعي إلى إعادة مجد الإسلام من خلال تمثل أحكامه وغرسها في الواقع، وذلك فيما يعرف عندهم بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة دولة الإسلام التي ستتكفل بإحقاق الحق وتقويض عرى الباطل والكفر !  لعودة عزت الإسلام والمسلمين الذي بدأ مجده أول ما بدأ بقوة سيف أهله الذين جاهدوا ورابطوا ونصروا.

إلا أن هذه الدراسات أهملت دافعا مهما وأصيلا في الذات الإنسانية ألا وهو الدافع النفسي. فجلها لم يتطرق إلى الدوافع النفسية السيكولوجية التي جعلت من الشباب المسلم في العالم المتخلف بالخصوص يتأثر بهذه الشعارات السلفية المثالية والبراقة.

إن انفجار هذه الهجرة التي يقوم بها الشباب في العالم الثالث والدافعة له إلى تبني هذه الأفكار وهذه الأشكال وما يحيط بها من ظروف وما تحركه من قوى وعوامل، تعتبر في نظرنا فرصة كاشفة لما يعتمل في بنية المجتمعات المتخلفة من عنف، وما يصطرع فيها من مآزق وتناقضات، وهي بالتالي تبين لنا ما يتعرض له الشباب في هذه الأوساط من قهر واعتباط وما يحل بقيمته الإنسانية من هدر. وهذا ما دفعنا أساسا إلى افتراض أن الأساس الدافع إلى التسلف كان سيكولوجيا ابتداء وانتهاء. 

بداية وبداهة تجدر بنا الإشارة إلى أن هذه المحاولة مع ما يعتورها من ثغرات تطمح إلى فتح الطريق أمام أبحاث ميدانية أكثر تمرسا لمحاولة فهم الجهادي في معناه الحديث بنوعيته وخصوصية وضعه وبشكل حي وواقعي.

وعليه ما هي أهم الملامح والدوافع النفسية للجهادي؟  وما هي الدلائل السيكولوجية في مظاهره السلوكية؟

1. الملامح والخصائص والدوافع النفسية للجهادي:

ينحدر جزء كبير إن لم نقل معظم الجهاديين من أواسط أكثر فقرا وأكثر تخلفا في العالم، ذلك أن جلهم عاش في أحياء هامشية في دول متخلفة اقتصاديا واجتماعيا. ومعلوم أيضا أن هذه البنيات ينتشر فيها العنف بكل أشكاله، أولها عنف الطبيعة المسلط على هذا الإنسان، إذ تبدو أخطار الطبيعة مضخمة بالقدر نفسه التي تتضخم فيه مشاعر عجزه وقلقه اتجاهها، لذلك تجده دائما يحاول التخفيف منها من خلال التمسك بالماورائيات أو من خلال التقرب من القوى التي تسيطر على الكون.

تضاف إلى هذا النوع من القهر نوع آخر هو أشد فتكا بنفسيته وهو القهر الإنساني، فالمجاهد كجزء لا يتجزأ من عالم القهر وهو التمثل العملي الواضح للإنسان المتخلف هو في النهاية مقهور أمام القوة التي يسلطها ويفرضها عليه المتسلط عليه (صاحب السلطة). فلا يجد الإنسان المقهور "الذي هو الجهادي في هذه الحالة" مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية، فهو يعيش في عالم بلا رحمة أو تكافؤ وإذا أراد المجاهد أو فكر في التمرد فسيأتي الرد أقسى وأمر فيقهره على كبت أفكاره، وهذا ما يؤدي إلى نشوء علاقة أنا-ذاك البديلة لعلاقة أنا-أنت القائمة على المساواة والتكافؤ، مما يجعل هذا المقهور يفتقد الاعتراف به كقيمة انسانية أو تقدير قيمي لحياته وقدسيته.

مع هذه التمحلات يصير الطابع الرسمي للخصائص النفسية المشكلة للجهادي قائم على محور التسلط والاستكانة وما يستتبعها من انعدام جذري للشعور بالأمن، غير أن هذه الاستكانة تبقى محطة أولية قد تطول أو تقصر باختلاف الظروف والملابسات التي تتعرض لها الشخصية الإنسانية. وأبرز ما يطبعها هو اجتياف عملية التبخيس المشكلة التي يغرسها المتسلط في نفسية المتسلط عليه، فيميل بالتالي إلى التقليل من ذاته ولومها وتحقيرها ونعثها بالتخاذل والإستكانة والركون.

إن هذه الحالة العلائقية وما يستتبعها من إحساس بالعجز أمام المصير المهدد دوما، وانعدام مشاعر الأمن اتجاه قوى الطبيعة وقوى التسلط الإنساني تؤدي إلى بروز مجموعة من العقد أهمها على الإطلاق حسب الدكتور مصطفى حجازي عقدتي النقص واضطراب الديمومة[1].

تعمد الفئة المتسلطة إلى تغذية عقدة النقص والعجز لدى الإنسان المقهور حتى تظل استكانتها وتبعيتها، وتتجلى هذه العقدة بوضوح ظاهر في موقف الإنسان المقهور من السلطة إذ أنه يكون دائم الخوف منها وغير قادر على مواجهتها مرحليا[2].

وعقدة العار هي التتمة الطبيعية لعقدة النقص، فيحصل أن يشعر المقهور بالخجل من ذاته الناقصة التي هي تعبير عن عار وجودي يصعب تحمله. ما يدفعه إلى التستر على عقدته من خلال استعراض أمجاد الماضي أو من خلال التمسك بأحلام مثالية ستحقق له من خلال نعيم الجنة التي سيدخلها بعد الاستشهاد[3].

أما اضطراب الديمومة فهو تعبير عن عجز الإنسان المقهور عن التحكم بمصيره، بحيث أن الماضي والحاضر والمستقبل تشكل الأبعاد الثلاث للديمومة، فالماضي يحدد الحاضر والمستقبل. بمعنى أن القهر المسلط عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم آلام الماضي وتأزم معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل[4].

وبما أن هذه الآلام المعنوية والمعاناة الوجودية لا يستطيع المقهور أن يتحملها إلا بقدر ولمدة معينة تدفعه إلى العيش في مرحلة احتقان داخلي وانفعال وتوتر نفسي خطير داخل طور سكوني سمي بمرحلة (الاضطهاد) لينفجر بعدها في مرحلة موالية هي مرحلة التمرد والمجابهة سميت بمرحلة(ردة الفعل) وهي التجسيد الفعلي لسلوكات الجهادي. فيصير العنف المسلح أسمى التعابير وأوضحها وأسهمها للتخلص من عقدة الجبن والنقص والعار والخوف التي غرسها المستلط في عروقه خلال مرحلة الاضطهاد.

فيجد ذاته أخيرا من خلال العنف، فينقي نفسه من الكسل والخبل والإتكالية التامة والتسويف، بحيث تنقل الأدوار من خلال السلاح. إذ يحدث الأخير انتقالا جذريا فيها، فيتحول الضعف إلى قوة بحيث يمد العنف الجهادي في مجابهة التسلط بنوع من الإحساس بالقوة يصبح رمزا للحياة فيتغلب الجهادي (الإنسان المقهور) على شعور الخوف من الموت. فتحدي الموت يصير انتصارا وجوديا وتغلبا معنويا على القهر والخوف كتعبير عن الموت.

يصبح السلاح حينذاك ذا دلالة مبالغ فيها تكاد تكون سحرية، إذ هو الإصلاح وهو الحل الأنسب للتخلص من كل المآسي والآلام بالنسبة للمقهور الذي لم يعد يفلت فرصة في استخدامه واستعراضه كقيمة وحقيقة وجودية وحيدة.

2. الدلائل الذهنية السيكولوجية في مظاهره السلوكية:

إن أكثر مظاهر الجهادي بروزا  هو توجهه إلى الماضي والتمسك والتقاليد والأعراف كتعبيرات دينية، وتزداد سلفيته شدة وبروزا بقدر ما يكون تخلف المجتمع كبيرا وبشكل يتناسب طرديا مع درجة القهر الممارسة عليه من طرف المستلط. وتشيع السلفية بشقيها الرضوخ إلى التقاليد والاحتماء بالماضي وأمجاده، و بمقدار ما يحسه الجهادي من عجز وضعف وغلبة على أمره اتجاه تسلط المتسلط عليه يحس أيضا بإحساس القهر اتجاه غوائل الطبيعة وعنتها.

تتعدد الأوجه الدفاعية لتمسك المقهور بالتقاليد وشرائع الدين كتعبير ذهني عن النقصان الذي يعانيه، أبرزها تلك الأوجه التي يتحصن بها لمجابهة السلطة أو الاستعمار اللذان يشكلان بالنسبة له تهديدا كيانيا لتراثه وانتمائه ونظرته للوجود، إذ أنه يحمل خطر الاندثار وفقدان الاعتبار الذاتي. فيصير الانسان المقهور (مشروع جهادي) الذي يحس بأن لا شرف له في القهر المسلط عليه يستمد شرفه من خلال التمسك بالتقاليد والأعراف ومراعاة العادات وشرائع الدين ويتخذ من قدرته على مراعاة المعايير مصدرا للكبرياء والرضا عن الذات.

وكذلك من المعالم الذهنية للجهادي رجوعه إلى الماضي المجيد زمن الفتوحات والانتصارات باسم الدين والله، والتماهي بأبطال هذه القصص التاريخية، ما يدفعه إلى اللوذ بها من الواقع..

ويضاف إلى هذه المعالم الذهنية سلوكات عملية يأتيها الجهادي كتعبيرات عملية لحالة القهر التي يعيش فيها، ومن أهم تلك التعبيرات السلوكية ذوبانه في الجماعة الإسلامية الجهادية والإتكالية[5].

إن التنظيم الجهادي في هذه الحالة حسب علم النفس الاجتماعي وليدة الاحساس بالتهديد الخارجي، بحيث ينقصم العالم في نظرها إلى خارج وداخل، الخارج هو العدو اللدود مصدر الخطر أو الكافر عدو الله وجند الله. والموقف منه بالنسبة لهذه الجماعات يكون في البداية انسحابي تجنبي، بحيث ينعزل ابناء هذه التنظيمات في ثكاياهم ومقراتهم وثكناتهم في مرحلة كمون للتشبع بأفكار ومعارف تحصنهم منه، ثم ينتهى الموقف السكوني ليتخذوا لهم موقف آخر يكون طابعه الهجوم التدميري من خلال ممارسة العنف المادي عليه بدل العنف الرمزي المعنوي المتخذ في البداية لشكل الاعتزال والتكفير والإخراج من الملة والجماعة والدين[6].

وأما الإتكالية فهي صورة لعدم قدرة الجهادي على التصدي لقدره ومجابهة تحدياته، إذ يلوذ الجاهدي بقوى كبرى خيالية تحميه ويجد نفسه في وضعية تبعية اتجاهها. ومن أهم هذه الشخصيات البطلة بالنسبة له الزعيم (زعيم التنظيم الجهادي) أو ما يسمى في أدبيات التنظيمات الجهادية بالأمير، وهناك الشخص الهلامي الآتي من وراء التاريخ ليخلص البشرية من الظلم والشرور (المهدي المنتظر).

وتكون أحاسيس الجهاديين اتجاه هذه الشخصيات سحرية هوامية إذ يمثل الأمل والخلاص الحقيقي من وضعية المأزق الذي لا حيلة له في رفعه أو رده بجهده الشخصي. إنه يحلم أن يستيقظ يوما ما على صورة مفاجأة يجد بطله قد خلصه من كل القيود والقهر الرازح فيه.

وتكون العلاقة اتجاه الزعيم المنقذ هوامية كما قلنا، لأنها ليست علاقة مع انسان فعلي له قدرات وطاقات وحدود وعيوب، إنها نوع من التماهي الإسقاطي، بمعنى أنه يسبغ على شخصه كل تصوراته الطفلية بالقوة والقدرة ويجعل منه الصورة النقيض تماما لصورته عن نفسه. إنه يعيش بتصور خرافي يسقطه على الزعيم، يجعل علاقته مع لا تقوم على أساس انسان وآخر بل على أساس علاقة انسان- ما فوق الإنسان.

وما يميز الجهادي سلوكيا أيضا تماهيه بالمتسلط على بعدين، هناك مستوى التماهي ببعد عدوانيته حيث يقوم الجهادي بقلب الأدوار فيلعب دور القوي المعتدي من خلال قهر الحلقة الأضعف منه، وهذا التماهي يحمل في ثناياه وهم الخلاص الذاتي  من خلال فض الالتزام بوضعية القهر والتنكر للحالة السابقة. فيدفن الصورة السابقة المحقرة عن الذات من خلال دفن الماضي من ناحية وسحب الاعتراف بارتباطاتها الانسانية من ناحية أخرى[7].

وهذا عين ما يفسر الميل العدواني والشطط والتطرف والعنف في سيكولوجيا الجهادي، إذ بمقدار ما يبرز الماضي في الوجود يندفع الجهادي في حركة هروب من الذات وارتماء في أحضان المتسلط فيما مضى من ممارسة القهر والتجبر على الضعفاء، وقهر الخصوم والمعارضين حتى من داخل جماعته وذلك في تماهي سافر مع القيم التي ثار ضدها.

وما يفسر هذا هو خوف المقهور من العودة إلى حالة القهر التي جاء منها والتي رزح تحتها وقتا من الزمن، فكلما تجلى الماضي أمامه سارع إلى طمس معالمه بقوة السلاح، غير مكترث لقيمة العدل والدفاع عن الضعفاء وغيرها من الشعارات التي كان يحمل في مرحلة الكمون التي مر بها.

أخيرا يمكننا أن نقول أن المواجهة الأسلم لهذه الحركات الجهادية ليست عسكريا، إذ أن المواجهة العسكرية لن تفضي إلا إلى مزيد من العنف والعنف المضاد، وازدهار امثال هذه الجماعات العنيفة، والواقع خير مثال على فشل الطرح العسكري اتجاه الجماعات الجهادية الإسلامية، فالعسكر لم ينهي العنف الجهادي في افغانستان ولا هو أنهاه في العراق وكذلك الحال اليوم بالنسبة لسوريا. إن ما يجب أن نفعله حيال هذه الظاهرة الاجتماعية ذات الابعاد السيكولوجية هو ترسيخ ثقافة الحرية والديمقراطية والاختلاف في البلدان المتخلفة والقضاء على الهشاشة والتخلف والفقر، والقضاء على كل أسباب الاضطهاد المؤدية إلى تنامي العنف والتمرد، وبعبارة مختصرة يجب القضاء على التسلط حتى يتأتى لنا منع شبابنا من الاحتماء بالجماعات الجهادية.

   

الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

باحث في العلوم الاجتماعية والقانونية

[1]مصطفى حجازي،التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور،المركز الثقافي العربي، الدر البيضاء-المغرب، ط.10، سنة 2013م، ص 40.

[2] المصدر نفسه، ص 45.

[3] المصدر ذاته، ص 47.

[4] نفسه، ص 49.

[5] نفسه، ص 103.

[6] نفسه، ص 113.

[7] نفسه، ص 126.

 المقال على موقع المركز 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top