بقلم: أ.د. وليد عبد الحي
(تقدير موقف خاص بمركز الزيتونة).
مقدمة:
يستهدف هذا التقدير استقراء مستقبل القدس، في المدى المنظور القريب والمتوسط، ضمن المعطيات المتاحة. وهو بغض النظر عن عواطفنا وعن مركزية القدس في اهتمامنا؛ يوضح أن المؤشرات الحالية تشير إلى سياقات مستقبلية خطيرة، وتنبه إلى ضرورة أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم تجاه القدس، وتجاه إنقاذها.
أولاً: مدخل: دراسة الظاهرة المستقبلية:
دراسة مستقبل الظاهرة السياسية تستوجب مراعاة عدد من الجوانب هي:
1. التركيز على الاتجاهات (Trends) لا على الأحداث (Events). ولعل متابعة السلوك التفاوضي العربي يشير إلى أن التغير في المواقف العربية والفلسطينية هو الاتجاه السائد. فقد بدأت الدبلوماسية العربية على أساس رفض قيام دولة إسرائيلية في فلسطين، ثم قبلت الهدنة معها، ثم قبلت التفاوض معها، ثم الاعتراف الكامل بها، ثم بدأ التخلي التدريجي عربياً عن الموضوع الفلسطيني… ذلك يعني أن الطرف العربي قد يواصل هذا التراجع في كل الموضوعات (اللاجئين، والحدود، والمياه، وحق المقاومة). مما يعني ضرورة عدم استبعاد “احتمال” الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لـ”إسرائيل” من قبل بعض العرب.
2. قياس موازين القوى من ثلاثة جوانب هي: المتغيرات المادية، والمتغيرات المعنوية، وفن إدارة وتوظيف هذه المتغيرات، وفي تقديري أن المتغير الأول هو في صالح الطرف العربي بالقياس الكمي، والمتغير الثاني مزيج بعضه لصالح الطرف الصهيوني (التطور، والتماسك الداخلي، والتكنولوجيا… الخ) وبعضه لصالح الطرف العربي (القدرة على تحمل الخسارة والمعاناة لفترة طويلة)، لكن المتغير الثالث وهو فن إدارة متغيرات القوة، وهو الأهم في ميزان القوى فهو لصالح الطرف الصهيوني بشكل كبير.
3. الامتناع عن التفكير الرغبي/ الرغبوي (wishful Thinking) على أساس رؤية الواقع كما هو، لا كما تزينه الرغبة سواء أكانت هذه الرغبة سياسية أم دينية أم عقائدية أم غير ذلك. واعتقد أن هذا الجانب يتجلى في التفكير السياسي العربي بشكل أكبر كثيراً منه في التفكير السياسي الصهيوني.
ثانياً: الموقف الأمريكي:
بدأ التغير في الموقف الأمريكي منذ إدارة ريغان (1981-1989) أي بعد خروج مصر من الصراع، وأخذ هذا التغير خطوات تدريجية تجعل من موقف ترامب الأخير غير مفاجئ:
1. امتناع (وليس رفض) الولايات المتحدة عن التصويت لصالح قرار مجلس الأمن رقم 478 في عام 1980 والخاص برفض القرار الإسرائيلي باعتبار القدس عاصمة إسرائيل الموحدة.
2. إدراج القدس كمدينة إسرائيلية في سجلات الخارجية الأمريكية (منذ فترة ريغان وبوش الأب).
3. الاتفاق على شراء أراض عربية في القدس لبناء السفارة الأمريكية فيها.
4. يقول السفير الأمريكي لدى إسرائيل في التسعينات من القرن الماضي مارتن انديك أنه كتب مذكرة للخارجية الأمريكية يطلب فيها بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في عام 1982. [1]
5. في عام 1995، أصدر الكونغرس قانون سفارة القدس الذي أعلن فيه بأنه “ينبغي الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل”، كما نصّ مشروع القانون على أن السفارة الأمريكية يجب أن تنتقل إلى القدس خلال خمس سنوات ومنذ ذلك الحين، وقع كلُّ رئيس أمريكي تأجيلاً متتابعاً لتنفيذ الخطوة.
6. فترة كلينتون تبنت الموقف القائل “عدم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس “في الوقت الحالي” وكان موقفه هو تأييد اعتبار القدس عاصمة لـ”إسرائيل”.
7. فترة ترامب ونقل السفارة، وهو تعبير عن خاتمة المسارات المشار لها أعلاه، كما أنها تعبير عن اتجاه متنامٍ ومتناغم مع موازين القوى، التي ازدادت خللاً لصالح “إسرائيل” مع اضطرابات العالم العربي منذ سنة 2011 وحتى الآن، خصوصاً مع زيادة التضييق على الطرف الفلسطيني لتحقيق مزيد من الخلل كالضغط على غزة عربياً ودولياً؛ وتقليص المساعدات للفلسطينيين، والتضييق على دور وكالة الغوث، ودفع دول عربية لإدراج حركات المقاومة الفلسطينية في قوائم التنظيمات الإرهابية، وتنامي ايقاع التطبيع العربي مع “إسرائيل”… وغيرها. وبالرغم من أن ترامب قال في إعلان نقل السفارة إن “حدود القدس تحددها المفاوضات بين الطرفين” فإنه بدأ يعمل على مزيد من الخلل في موازين القوى، ليضمن أن تكون نتيجة أي تفاوض مستقبلي هي لصالح الطرف الإسرائيلي؛ لأنه يدرك أن نتيجة التفاوض هي طبقاً لموازين القوى، وليست طبقاً لفن المُحاجَّة والجدل أو “ثقافة سوق عكاظ”!!.
ثالثاً: موقف الرأي العام الإسرائيلي:
طبقاً لدراسات معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب[2] فإن هناك علاقة بين درجة التمسك بشرقي القدس لدى الرأي العام الإسرائيلي وبين زخم المقاومة للاحتلال، فدراسات المعهد تقول بأنه:
• في الفترة 1994 إلى 1998 كان 80% من الرأي العام الإسرائيلي يرفض تقسيم القدس أرضاً أو بلدية.
• في الفترة 1998 إلى 2014 تراجع رفض التقسيم إلى ما بين 65% إلى 70%.
• في الفترة 2014 إلى 2015 و2016 تراجعت نسبة الرفض إلى 60%، ويقول تقرير المعهد إن انتفاضة السكاكين بين 2015-2016 كان لها دور مهم في التراجع المتواصل عن فكرة عدم التقسيم المدينة، كما أن وجود الجدار العنصري العازل بين الأحياء العربية واليهودية عزز التراجع وبلغ عام 2017 حوالي 49%.
وحول إجراء تغيرات في وضع القدس الحالي كانت النتائج كالتالي:
• إن 25% يريدون بقاء الوضع الحالي في القدس على ما هو عليه.
• إن 20% يؤيدون مزيداً من إجراءات الفصل بين العرب واليهود في القدس.
• إن 27% يؤيدون منح الفلسطينيين في ضواحي القدس العربية (شرقي القدس) مزيداً من الصلاحيات لإدارة شؤونهم باستثناء القدس القديمة.
• إن 28% يؤيدون بلدية مستقلة للفلسطينيين ولكن تحت سلطة “إسرائيل”، وهو مستوى أعلى من قبل، حيث كان في السنوات 2017 حوالي 23%.
ويرى المعهد أن هناك مشكلات تواجه السياسة الإسرائيلية في القدس تتمثل في الآتي:
• أغلب المجتمع الدولي ينظر للقدس الشرقية كأرض محتلة.
• كثافة البعد الديني لليهود والعرب (والمسلمين) يؤجج المشاعر ويجعل الانفجار محتملاً في كل مرة.
• الظروف المعيشية القاسية لسكان القدس الشرقية تجعل الاستقرار أمراً أكثر صعوبة.
• التحديات الأمنية المستمرة داخل القدس الشرقية ومحدودية التواجد الإسرائيلي في القدس الشرقية.
• أن 38% من سكان القدس (شرقية وغربية) هم من العرب واحتمالات زيادتهم (عدد سكان القدس الشرقية 230 ألف فلسطيني) – نسبة المستوطنين في الضواحي العربية في القدس أقل من 1% من السكان العرب في المناطق التي فيها المستوطنات. فمثلاً سلوان كان عددها 8,700 عام 1990 دون أي مستوطن، الآن هناك 500 مستوطن مقابل 20 ألف فلسطيني.. مما يعني أن نسبة اليهود للعرب تتزايد لصالح اليهود على أساس الارتفاع في نسبة المستوطنين من صفر مستوطن لكل 8,700 فلسطيني (عام 1990) إلى مستوطن لكل 40 فلسطيني حالياً.[3]
رابعاً: عوامل استراتيجية لغير صالح الطرف الإسرائيلي:
1. السكان: عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية الآن (2019) هو 6.4 مليون مقابل 6.3 مليون يهودي، وطبقاً لمعدلات النمو السكاني سيكون 54% من سكان فلسطين من العرب مقابل 46% من اليهود بين 2030-2035، وهي مشكلة كبرى لـ”إسرائيل” سيدفعها نحو إحدى التوجهات الثلاثة التالية:
أ. الانسحاب من الضفة الغربية، وفيه خطر تقليص العمق الاستراتيجي للدولة اليهودية.
ب. عدم الانسحاب (مشروع نتنياهو)، مع مخاطر التحول التدريجي لدولة ثنائية القومية، مع كل ما يترتب على ذلك من مخاطر.
ج. تكرار نموذج غزة؛ أي الانسحاب من أقل قدر من الأراضي بأكبر عدد ممكن من السكان العرب، وهو أمر يقتضي التهجير التدريجي للعرب، والتحول نحو نموذج المعازل العنصرية أو “البانتوستانات”.
2. احتمالات التحول الاستراتيجي الأمريكي من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادي (الباسيفيكي)، وتراجع أهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، خصوصاً مع المشكلات الاستراتيجية التي تواجهها الولايات المتحدة مثل: تنامي الدور الصيني، والاستقلال الطاقوي الأمريكي، ومشكلات الاقتصاد الأمريكي (المدين الأول عالمياً)، وتنامي سوء توزيع الدخل، وارتفاع الجريمة لأعلى نسبة بين الدول الصناعية.
3. عدم النجاح الإسرائيلي (حتى الآن) في دفع الولايات المتحدة أو قوى أخرى عربية أو دولية، لمواجهة إيران عسكرياً، لتعميق الخلل في موازين القوى في المنطقة.
4. التطور التكنولوجي عند تنظيمات ما دون الدولة، وهو أمر قد يؤدي إلى صعوبة السيطرة على تداعيات ذلك مستقبلاً.
5. تدل كل استطلاعات الرأي العام الدولي على تراجع تدريجي في درجة التعاطف مع “إسرائيل”، وهو أمر تشعر “إسرائيل” بمخاطِرِهِ بعيدة المدى.
6. بروز بعض تشققات في البنية الاجتماعية الإسرائيلية مع الفلاشا، أو تجمع الروس في أحزاب معينة دون غيرها، إلى جانب الحساسيات القديمة المعروفة في الثقافات الفرعية في المجتمع الإسرائيلي الصهيوني.
7. القلق من أن عدم استقرار المنطقة العربية، قد يقود إلى تغيرات في بعض الأنظمة، باتجاه وضع غير مناسب لـ”إسرائيل”، سواء نتيجة انقلابات عسكرية أم بسبب الثورات أو الفوضى في بعض الدول مثل الخليج أو مصر…إلخ.
خامساً: المستقبل:
وفق المعطيات الحالية المتاحة، فإن هناك مخاطر كبرى تواجه القدس ومستقبلها المنظور القريب والوسيط. ووفق خلاصة المعطيات والمدركات والمؤشرات التي بين أيدينا، يمكن تحديد الوضع المستقبلي على النحو التالي:
ذلك يعني أن:
1. احتمال قيام دولتين هو 26%: بمسارين: عاصمتان وبلديتان 11%، أو عاصمة بقسمين بلديين 15%.
2. احتمال قيام دولة واحدة هو 74%: بثلاثة مسارات: بعاصمة واحدة ولكن بلديتان منفصلتان 22%، أو بلدية بقسمين 26%، أو بلدية واحدة 26%.
وهو ما يعني أن مسار الهيمنة الإسرائيلية هو الأرجح وفق المعطيات الحالية، وأن “إسرائيل” ستتابع تهويد القدس وتغيير هويتها، وفق موازين القوى الحالية.
سادساً: التوجه الإسرائيلي:
يبدو أن التوجه الإسرائيلي في موضوع القدس هو نحو: تشجيع قيادات محلية عربية على الظهور، وإيكال مناصب بلدية لها، وتحسين الظروف المعيشية في شرقي القدس وضواحيها، وهناك اقتراحات جرى تداولها في “إسرائيل” مثل:
1. اقتراح مناحيم فرومان: بلدية واحدة فيها دائرة دينية للمسلمين والمسيحيين.
2. اقتراح أستاذة القانون الدولي روث لابيدوت Ruth Lapidot: تقسيم القدس حسب الدين، وتأجيل موضوع السيادة إلى 30 سنة قادمة.
3. اقتراح أستاذ قانوني آخر هو شمويل بيركوفيتز Shmuel Berkovitz اعتبار الأماكن المقدسة الإسلامية “مقاراً للبعثة الدبلوماسية الفلسطينية” فتكون السيادة داخل المقر لهم لكن ضمن الأراضي الإسرائيلية.
سابعاً: الخلاصة:
إن موازين القوى هي التي ستحدد مصير القدس، ويبدو أن موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية ليست لصالح الطرف الفلسطيني في المدى المنظور؛ مما يعني أن “إسرائيل” ستعمل على توظيف خلل موازين القوى لصالحها بأكبر قدر ممكن؛ وستعمل على تسريع قطف ثمار هذا الخلل، خوفاً من تداعيات العناصر السبعة التي أشرت لها. وهو ما يعني أنها ستحاول دفع المزيد من الدول لنقل سفارتها للقدس (كوستاريكا أعادت سفارتها للقدس عام 1980، ولحقتها السلفادور عام 1984، ولكن الدولتين عادتا بسفارتيهما إلى تل أبيب عام 2008) مع ملاحظة أن هناك 9 قنصليات أجنبية في القدس (الولايات المتحدة، غواتيمالا وهندوراس وتوغو وجزر الهادئ: مارشال ومايكونيزيا ونورو وبالو). كما ستسعى لتغيير التركيبة السكانية في القدس والتضييق على سكانها لدفعهم للهجرة أو للانتقال لمناطق أخرى داخل الضفة الغربية.
إن مواجهة المخاطر الحقيقية المشار إليها أعلاه، يستدعي استنفار جميع الجهود الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية للحفاظ على هوية القدس العربية والإسلامية، وحفظ مقدساتها ودعم صمود أهلها.