تقدير استراتيجي (100) – تموز/ يوليو 2017.
ملخص:
تمس الأزمة الخليجية القضية الفلسطينية بطرق مباشرة وغير مباشرة، نظراً لوجود أبعاد مرتبطة بمواقف دول الحصار لقطر من تنظيمات ”الإسلام السياسي“، ومواقفها من مسار التسوية السلمية، والمقاومة الفلسطينية، ومواقفها من إيران، وكذلك مواقفها من الإعلام والسياسات الإعلامية القطرية.
وثمة رغبة إسرائيلية قوية في الاستفادة من الأزمة في تطبيع علاقاتها مع دول الخليج قبل الوصول إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية؛ وفي اللعب على وتر ”محاربة الإرهاب“ وعلى وتر مواجهة النفوذ الإيراني للظهور كشريك طبيعي لهذه الدول؛ مع سعي إسرائيلي لتقليص نفوذ حماس وقوى المقاومة، وقطع الطريق على إيران في استثمار الأزمة.
ويبدو السيناريو الكارثي المرتبط بشن دول الحصار لحرب ضدّ قطر احتمالاً مستبعداً لأسباب عديدة. وما يزال السيناريو الديبلوماسي هو الأقرب للتحقق عن طريق إيجاد تسويات مقبولة في النهاية لهذه الأطراف، ويكون ثمنها بعض التنازلات القطرية، والتي قد تحتمل بعض الخسائر لقوى المقاومة الفلسطينية، خصوصاً مع تصاعد الدور الأمريكي الغربي في حلّ الأزمة. ولذلك فعلى قوى المقاومة أن تبذل ما بوسعها لإفشال محاولات وضعها على ”قوائم الإرهاب“، ومحاولة إعادة ترتيب أوراق القوة لديها، مع تجنب الدخول في أي اصطفافات حاسمة لصالح أي من أطراف الأزمة؛ والدعوة إلى الحل السياسي بين ”الأشقَّاء“ العرب.
أولاً: مقدمة:
لم تكن الأزمة الخليجية التي انفجرت بين ثلاث دول خليجية (السعودية، والإمارات العربية، والبحرين) ومعها مصر يوم 5/6/2017 مُنبتَّة الصلة عن أزمات سابقة عرفها مجلس التعاون الخليجي وجرى سحب سفراء فيها، وكان بعضها معلناً، كما في سنة 2002 وفي سنة 2014، وبعضها كان صامتاً يمكن تلمُّسه من خلال فتور العلاقات بين بعض دول مجلس التعاون أو رفض إنشاء مزيد من الإجراءات التكاملية بين دول المجلس، ويتمحور جوهر هذه الأزمات حول أربعة أبعاد رئيسية يَمسُّ كل منها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة الموضوع الفلسطيني، وتتمثل في الآتي:
1. حدود العلاقة الخليجية مع إيران، وهذه العلاقة مع إيران لها بعدان، هما: السياسة الإيرانية تجاه الدول العربية بشكل عام من ناحية، والسياسة الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية من ناحية ثانية.
2. حدود العلاقة الخليجية مع تنظيمات ”الإسلام السياسي“، وخصوصاً جناح الإخوان المسلمين، حيث تنظر دول خليجية محددة (السعودية والإمارات بشكل خاص) إلى أن الإخوان المسلمين يشكلون التنظيم الأكبر حجماً والأكثر خبرة سياسية في العالم العربي، وأن هذا التنظيم يسعى لتولي السلطة في الدول العربية، وقد كان دوره السياسي بارزاً وبأشكال مختلفة في مصر، وتونس، والمغرب، وفلسطين، والأردن، وسورية…إلخ. وهو ما يعني —من وجهة نظر السعودية— احتمال انتقال تأثير هذا التيار للمجتمع الخليجي، خصوصاً السعودي، وهناك جذور تاريخية وبنية مجتمعية خليجية قابلة للإنصات للأدبيات السياسية لهذا التنظيم، وهو ما ينطوي، بناء على هذا الفهم، على احتمال ”القفز على السلطة في هذه الدول الخليجية خصوصاً في السعودية“. ومن هنا لا بدّ من وأد هذا التيار. ولما كانت القوى الفلسطينية الأكثر نشاطاً في الصراع مع ”إسرائيل“ ذات صلة تاريخية بالإخوان المسلمين، فإن ظلال الأزمة الخليجية امتدت لتصيب هذه التنظيمات، وخصوصاً حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
3. حدود سياسة الحريات الإعلامية الخليجية وفي قلبها السياسة التحريرية لقناة الجزيرة القطرية. إذ ترى دول الخليج (خصوصاً السعودية والإمارات) أن قناة الجزيرة تمثل منبراً ”تحريضياً“، وأنه الأكثر تعبيراً ضمنياً عن توجهات الإخوان المسلمين، ناهيك عن أنه يتجاوز الكثير من السياسات التحريرية الإعلامية التقليدية التي اعتاد عليها الإعلام العربي، وهو ما يشكل ”خضاً“ للمياه الراكدة في اتجاهات الرأي العام العربي، وبدا أثر ذلك كله خلال الفترة الممتدة من بداية الثورات والتغيرات العربية مع نهاية 2010 إلى الآن، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه السياسة التحريرية للجزيرة تجعل من الموضوع الفلسطيني مادة رئيسية لها.
4. مركزية الدور السعودي في القرار السياسي في مجلس التعاون الخليجي: منذ أن نشأ مجلس التعاون الخليجي سنة 1981 كرد فعل على قيام الثورة الإيرانية سنة 1979، كانت السعودية ترى فيه أداة للجم تداعيات الثورة الإيرانية في الخليج، وبأن الدور السعودي يجب أن يكون مركزياً، في هذا المجال، بحكم الثقل السعودي في الإقليم الخليجي. وبعد الإعلان عن المبادرة العربية لتسوية القضية الفلسطينية سنة 2002، والتي كانت السعودية مهندسها الرئيسي، تعزز الإحساس السعودي بمركزية دور المملكة في صياغة التوجهات الاستراتيجية العربية بشكل عام وليس الخليجية فقط، وهو ما اصطدم بنوع من ”القلق“ بين دول خليجية محددة أبرزها قطر، وعزوف عُماني عن مجاراة النزعة المركزية السعودية، مضافاً إليه قدر من الحرج الكويتي من هذه النزعة. ولما كان الموضوع الفلسطيني يشكل أحد أهم ملامح الاستراتيجيات العربية (بغض النظر عن جدواها) فإن السعودية رأت ضرورة تطويع الموضوع الفلسطيني لصالح توجهات أخرى، وهو ما لم يَرُق لعدد من دول الخليج أو الدول العربية الأخرى.
ثانياً: التصور الإسرائيلي للأزمة الخليجية:
من الضروري فهم العلاقة الإسرائيلية الخليجية ومن منظور تاريخي ومعاصر لفهم الموقف الإسرائيلي من الحصار الخليجي المصري لقطر ومن ملابسات الأزمة الخليجية، وتتمثل هذه العلاقة الخليجية الإسرائيلية في جوانبها العامة في الآتي:
1. العلاقات الخليجية الإسرائيلية (علاقات السعودية والإمارات العربية مع ”إسرائيل“):
يمكن اعتبار سنة 1990 نقطة تحول في الجهود الأمريكية لتقريب دول مجلس التعاون الخليجي من ”إسرائيل“. ولعل انتقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أيار/ مايو 2017 من السعودية مباشرة لـ”إسرائيل“ في رحلته الأخيرة للخليج يمثل جزءاً من علاقات خليجية إسرائيلية ”صامتة“. وتتجلى هذه العلاقات في عدد من المؤشرات مثل ظهور شخصيات أكاديمية سعودية ذات صلات سابقة بالأجهزة الأمنية السعودية في ”إسرائيل“، وما ذكرته صحيفة هآرتس عن مشاركة الإمارات العربية في مناورات عسكرية مع ”إسرائيل“ والولايات المتحدة ودول أوروبية في اليونان. وقبل ذلك بعام شاركت الإمارات في مناورات أخرى مشتركة مع ”إسرائيل“ ودول غربية في نيفادا في الولايات المتحدة، كما أن ”إسرائيل“ فتحت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 مكتباً ديبلوماسياً في أبو ظبي تحت ظل الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، وذكرت بلومبرج بيزنس ويك Bloomberg Businessweek في شباط/ فبراير 2017 أن هذا المكتب يمكن أن يقوم بدور السفارة لتعميق العلاقة بين ”إسرائيل“ وبقية دول الخليج. كما أشارت صحيفة تايمز أوف إسرائيل Times of Israel إلى سلسلة لقاءات سرية سعودية إسرائيلية [1]؛ ناهيك عن أن قسم وسائل الاتصال في وزارة الخارجية الإسرائيلية بدأ منذ فترة في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر…إلخ)، حيث أنشأ سفارة ”افتراضية“ virtual embassy لـ”إسرائيل“ في كل دولة خليجية (اسمها السفارة الافتراضية في دول الخليج) منذ 2013. ويتم التواصل مع أفراد في الخليج من خلال هذه السفارة الافتراضية التي يديرها السفير الإسرائيلي ييغال بالمور. ويتم في عمليات التواصل هذه التشجيع على العلاقات التجارية —عبر طرف ثالث— وهو ما جعل حجم التبادل التجاري (عبر طرف ثالث بين الخليج و”إسرائيل“) يصل إلى نحو نصف مليار دولار طبقاً لتقديرات يتسحاق غال أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة تل أبيب في حوار له مع صحيفة فايننشال تايمز [2] .
2. العلاقات القطرية الإسرائيلية:
من المعروف أن العلاقات التجارية بين ”إسرائيل“ وقطر بدأت في سنة 1996 وبحضور الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز والذي عاد لزيارة قطر سنة 2007. وعلى الرغم من إغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي سنة 2008 إلا أن قطر استقبلت في سنة 2013 وفداً تجارياً إسرائيلياً. وفي سنة 2008 التقى وزير الدفاع الإسرائيلي حينها إيهود باراك مع الشيخ عبد الله بن خليفة آل ثاني في سويسرا خلال مؤتمر دافوس، كما التقت الوزيرة الإسرائيلية تسيبي ليفني أمير قطر سنة 2008 في مؤتمر للأمم المتحدة، وقامت ليفني بزيارة الدوحة في السنة نفسها، والتقت بعدد من المسؤولين القطريين. كما أبدت قطر ترحيبها بمشاركة ”إسرائيل“ في مباريات كأس العالم 2022 في قطر في حالة تأهلها رياضياً، وأسهمت قطر في بناء استاد رياضي بالاتفاق مع ”إسرائيل“ في مدينة سخنين الفلسطينية في أراضي 1948، ناهيك عن التواصل بين الطرفين لترتيب سبل إيصال المساعدات القطرية لقطاع غزة في ظلّ الأزمة المصرية مع حماس. وذكرت صحيفة ديلي تلغراف أن قطر أسهمت في ترتيبات وقف إطلاق النار بين حماس و”إسرائيل“ في غزة. كما تشير مصادر إسرائيلية إلى دورٍ قطري في ترحيل عدد من يهود اليمن ونقلهم لـ”إسرائيل“ سنة 2013 [3] .
وفي المقابل أبدت “إسرائيل” قدراً من الامتعاض من دعم قطر لحماس، وحقّ حماس في المشاركة في النظام السياسي الفلسطيني، وجهودها لفك الحصار عن قطاع غزة، وفي إعادة إعمار القطاع. حيث يُعدُّ الموقف القطري من أكثر المواقف العربية تقدماً في دعم القضية الفلسطينية. ولعل أكثر المنتقدين لهذا الدور القطري هو وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان.
ولكن ما علاقة الأزمة الخليجية بكل ذلك من المنظور الإسرائيلي؟
تنظر ”إسرائيل“ للأزمة (طبقاً لأغلب توجهات محلليها والذي يمكن اعتبار التقرير الذي صدر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS في جامعة تل أبيب الأكثر وضوحاً وعمقاً بينها) [4] من زاويتين، هما انعكاسات الأزمة الخليجية على حماس من ناحية، وعلى إيران من ناحية أخرى على النحو التالي:
1. اعتبار الأزمة من وجهة النظر الإسرائيلية مؤشراً على تصدع الجبهة ”الُسُنية“ في مواجهة إيران، لذا فإن ”إسرائيل“ تشجع بل وتضغط على الإدارة الأمريكية للعودة للوساطة لكي لا ينفرط هذا العقد المواجه لإيران. وترى ”إسرائيل“ أن الوساطة الأمريكية التي عرضها ترامب على أمير قطر في حزيران/ يونيو 2017 يجب أن تنجز عدداً من الأهداف أهمها (من المنظور الإسرائيلي) ما يلي:
أ. أن الوساطة الإمريكية يجب أن تُربط بتقليص دعم قطر ”لحماس تحديداً“، وهو ما يزيد من الضغوط المالية على غزة، ويجعلها أكثر قابلية للقبول بعودة السلطة الفلسطينية إليها، ونسخ نموذج الضفة الغربية (خصوصاً التنسيق الأمني في قطاع غزة) وهو الأمر الذي تحبذه كل دول مجلس التعاون الخليجي ومصر.
ب. قطع الطريق على إيران لاستثمار الأزمة القطرية، لأن الضغط المستمر على قطر سيقود لدفع قطر نحو روسيا وإيران بل وسورية والعراق. وهو ما يتضح في فتح المجال الجوي الإيراني لقطر، وإرسال الأغذية، واستقبال مسؤولين إيرانيين من مستوى رفيع في العاصمة القطرية.
ج. في المقابل، هناك رغبة لدى أطراف إسرائيلية بأن يكون هناك دور قطري في ”تكييف“ مواقف حماس. كما أن إبعاد قطر (طبقاً للتقارير الإسرائيلية) لبعض قيادات حماس من الدوحة مؤشر على أن الضغط على الدوحة قد يعرقل المسار التدريجي الهادئ في التراجع القطري عن دعم حماس [5] .
2. ترى ”إسرائيل“ أن رأب الصدع في مجلس التعاون الخليجي مهم للغاية، لضمان استمرار دعم المعارضة السورية، التي بدأت ظلال الأزمة الخليجية تمتد نحوها، و”إسرائيل“ تريد امتداد الأزمة السورية لأطول فترة ممكنة.
3. تلمح الدراسات الإسرائيلية في معرض التحليل للأزمة إلى أن هناك أبعاداً شخصية فردية بين القيادتين القطرية والسعودية، مما يحتاج لدراية ديبلوماسية عالية لمعالجتها، ولا بدّ من توظيف هذه الحساسيات الفردية بشكل يخدم الأهداف الإسرائيلية.
4. من جهة أخرى، فإن الأزمة الخليجية تشكل فرصة مهمة لاستنزاف دول الخليج سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ومدخلاً للابتزاز الأمريكي الغربي لأطراف الأزمة؛ وبالتالي يمكن توظيفها إسرائيلياً في تطبيع العلاقات مع ”إسرائيل“ كمدخل للرضا الأمريكي، وكجزء من صراع النفوذ مع إيران.
ثالثاً: سيناريوهات الأزمة الخليجية وانعكاساتها من المنظور الفلسطيني:
يمكن تحديد سيناريوهات الأزمة الخليجية في السيناريوهات التالية:
1. السيناريو الكارثي:
ويتمثل هذا السيناريو في استمرار التعقيد في الأزمة بشكل يدفع كل طرف نحو مزيد من الإجراءات العقابية للطرف الآخر، وصولاً لمرحلة المواجهة العسكرية لا سيّما أن 20% من مبيعات السلاح في العالم ذهبت سنة 2015–2016 إلى دول مجلس التعاون الخليجي، وتضاعف حجم مشتريات السلاح الخليجي خلال الفترة من 2011–2016 [6] .
لكن هذا السيناريو سيؤدي لخسائر مادية تجعل استمرار الدعم المادي لفلسطين يتراجع بقدر كبير من ناحية، كما سيلقي بظلال قاتمة للغاية على أولوية القضية الفلسطينية في نشاط الديبلوماسية العربية. غير أن أسوأ تطور في هذا السيناريو أن تستثمر ”إسرائيل“ حالة الحرب هذه من خلال تنافس الأطراف الخليجية المتصارعة على استرضاء ”إسرائيل“ كجسر لتوظيف اللوبي اليهودي في الدوائر الأمريكية لجر الموقف الأمريكي لصالح هذا الطرف أو ذاك. وسيكون ذلك مدخلاً لـ”إسرائيل“ لتطبيع العلاقة مع دول عربية أكبر، خصوصاً أن هناك توجهاً إسرائيلياً متزايداً نحو تسوية تقوم على أساس أولوية التطبيع العربي بأوسع قدر ممكن مع ”إسرائيل“ على حساب أولوية تسوية الموضوع الفلسطيني. إذ تبدو ”إسرائيل“ على ثقة من أن مكانة القضية الفلسطينية تراجعت في ”الوجدان والحساب العقلي“ السياسي لدى شريحة واسعة من المجتمع العربي، وعليه فهي ترى أن الباب أصبح أكثر قابلية لتوسيع ظهورها في العواصم العربية. وهو ما يعني أنها ستجعل التفاوض على التطبيع معها يسبق تحديد ماهية التسوية الفلسطينية، وبالتالي تحقيق المزيد من الخلل في موازين القوى بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي، مما يعني الاستمرار في تهويد الضفة الغربية وحلّ الصراع لاحقاً على حساب الجوار العربي.
معوقات حدوث هذا السيناريو:
يبدو أن احتمال هذا السيناريو (الحرب) ما زال ضعيفاً، ولا أحد يستطيع تقديم إجابة قطعية بأن الحرب ستشتعل أم لا تشتعل، فقد يغير حدث ما وغير متوقع أو طارئ المسارات كلها (مثل حدوث صراع على السلطة في إحدى دول الحصار لقطر). لذا فإن الإجابة عن احتمال اشتعال الحرب يبقى ضمن نظرية الاحتمالات ”العقلانية“، وما زال المشهد الخليجي يشي بأن احتمالات إعلان الحرب على قطر ما تزال ضعيفة ومستبعدة. وقد تأخذ طابع ما يسمى ”ديبلوماسية عرض العضلات“ مثل إرسال القوات من قبل دول الحصار قريباً من حدود قطر، أو إرسال المزيد من القوات التركية لقطر، أو القيام بمناورات حربية على الحدود أو قبالة الشواطئ القطرية، أو خرق المجال الجوي لقطر؛ دون الوصول لمرحلة الغزو العسكري الذي يبدو مستبعداً للأسباب التالية:
أ. عدم وجود رغبة جدية لدى دول الحصار بالذهاب إلى سيناريو الحرب، كما يظهر من السلوك السياسي والميداني لهذه الدول
.
ب. أسعار البترول: إذا نشبت الحرب فإن حركة النقل في منطقة الخليج ستتوقف بشكل كامل طيلة فترة الحرب، فإذا علمنا أن الخليج يقدم نحو 24 مليون برميل يومياً وهو ما يعادل 30% من الناتج العالمي تقريباً، فإن اشتعال الحرب سيرفع أسعار البترول بشكل يجعل المستفيد الأول منه روسيا وإيران وفنزويلا، وهي دول لا يبدو أن الدول الغربية حريصة على تنامي اقتصادها، ناهيك عن أن ذلك سيكلف أوروبا الكثير، فالنفط ومشتقاته يمثل 78,2% من الواردات الأوروبية من الخليج، كما أن تعطل حركة التجارة سيضر أوروبا التي يصل حجم تبادلها التجاري مع دول مجلس التعاون قرابة 138,6 مليار دولار، ويمكن تطبيق النظرة نفسها على الصين والهند واليابان، حيث تشكل أوروبا والصين والهند واليابان 49,5 % من إجمالي تجارة الخليج.
ج. المخاطر على الأجانب والاستثمارات الأجنبية في دول الخليج: يشكل الأجانب نحو 48% من سكان الخليج الذي يصل إجمالي عددهم (مواطنين وأجانب) قرابة 51 مليون نسمة، فإذا علمنا أن 90% من سكان قطر هم من الأجانب فإن المخاطرة على حياة هؤلاء ستكون عالية. أما الاستثمارات الأجنبية (وأغلبها من أوروبا وأمريكا) فعلى الرغم من تراجع وتيرة الاستثمار الأجنبي من نحو 58 مليار دولار سنة 2008 إلى أقل من 25 مليار سنة 2016، فإن الحرب تعني تعريض هذه الاستثمارات للخطر، وهو ما لا تقبله الدول المالكة لهذه الاستثمارات.
د. وجود القواعد الأمريكية أو القوات الأمريكية لدى طرفي الصراع (قرابة 35 ألف عسكري أمريكي في دول مجلس التعاون) سيضع هذه القوات في موقف حرج، فإذا تدخلت في الصراع فذلك يعني تدخلاً متعاكساً، وإذا لم تتدخل للدفاع عن مناطق وجودها وخصوصاً في قطر، فقدت قيمتها للدولة الحاضنة لها. ففي التدخل خسارة أمريكية وفي عدم التدخل خسارة أخرى، وهو ما ينطبق على بقية الدول التي لها وجود عسكري في الخليج مثل بريطانيا وفرنسا بشكل خاص.
ه. إن الحرب الخليجية تعني مكاسب استراتيجية لإيران تتمثل في إضعاف دول الخليج، ودفع بعض الأطراف الخليجية للاستعانة بها في المواجهة سواء للدعم اللوجيستي أم لغيره طبقاً لتطورات المعركة، وهو أمر ليس في صالح الدول الغربية ولا دول المجلس في ضوء مواقفها من إيران، فليس من مصلحة الولايات المتحدة تحطيم حلفائها في ظلّ ظروف كتلك القائمة في الخليج.
و. إن الحرب في الخليج تعني صرف الأنظار عن الأزمة السورية وهو ما يضر باستراتيجية دول الخليج، لا سيما السعودية التي تسعى لتغيير النظام في سورية.
2. السيناريو الديبلوماسي:
ويعني استمرار الجهود الديبلوماسية الأمريكية تحديداً، مضافاً لها الجهود العربية والأوروبية وغيرها، بهدف الوصول لتسوية يحقق كل طرف فيها قدراً من المكاسب، تتوازى مع موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية من ناحية، ولا تهدر ماء وجه أيّ منهما. ولا شكّ أن هذا السيناريو هو الأنسب للطرف الفلسطيني لأنه يقلص من الآثار الكارثية للسيناريو الأول، لكن ذلك لا يعني “نجاة” القضية الفلسطينية من بعض الخسائر من تداعيات الأزمة الخليجية في هذا السيناريو، مثل:
أ. ربما ستكون السنوات القادمة هي الفترة الأكثر عسراً للحركات الإسلامية ولا سيّما الإخوان المسلمين، نظراً لأربعة عوامل رئيسية هي: فقدان هذه الحركة لأي سند إقليمي فاعل في مواجهة الضغوط عليها، فهذه الحركات —خصوصاً الإخوان— لم تعد قادرة على توظيف التناقضات العربية لصالحها، على غرار ما كان عليه الحال في الفترة الناصرية أو ما بعدها، نظراً لتضييق مجال المناورة السياسية عليها. كما أن عدداً من التنظيمات الإسلامية المسلحة المشاركة في الحراك العربي منذ 2010 وحتى الآن شوهت صورة “الجهاد” وجعلته أقل جاذبية جماهيرية، وخصوصاً تناحراتها الداخلية، وهَوَجِ عملياتها الخارجية والداخلية. يضاف لذلك الخناق الدولي عليها وطبيعة التطور الإنساني في مشهده العام. وأخيراً عداءُ المؤسسات العسكرية العربية للتيارات الإسلامية، ولا شكّ أن بيئة كهذه لن تكون مواتية للتنظيمات الفلسطينية ذات الصبغة الإسلامية خصوصاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ب. من الواضح أن تصنيف الحركات الجهادية (إرهابية أو غير إرهابية) اتسع بشكل عام من نطاق الحركات الإسلامية العربية ليمتد نحو الحركات الإسلامية الفلسطينية، وهو أمر سعت له ”إسرائيل“ والولايات المتحدة وبريطانيا منذ بدء الحديث عن قوائم الحركات الإرهابية. وشكل اصطفاف السعودية والإمارات بشكل خاص مع فكرة دمج حركة حماس ضمن قوائم الإرهاب أحد أسوأ التطورات المعاصرة في الموقف العربي من الموضوع الفلسطيني، ويبدو أن حذف اسم حماس أو أي من أسماء شخصيات فلسطينية مقاومة للاحتلال الإسرائيلي من القائمة الأخيرة (قائمة الـ 59) التي أعلنتها دول الحصار، جاء نتيجة مسعى مصري أكثر منه توجهاً خليجياً، نظراً لملابسات كثيرة في العلاقات المصرية الفلسطينية، خصوصاً بروز بوادر على رتق بعض الفتق في العلاقات المصرية مع حماس.
ج. وضعت الأزمة الخليجية صناع القرار الفلسطيني —خصوصاً تنظيمات المقاومة المسلحة— في مأزق يتمثل في جعلها أمام خيار العلاقة مع إيران أو العلاقة مع دول الخليج، ولعل الدعم المالي القطري، وبعض الدعم الشعبي من دول الخليج الأخرى، والدعم الإيراني المادي والمعنوي هما الرافدان الأكثر أهمية لحركات المقاومة الفلسطينية، وخسارة أي منهما يمثل مزيداً من الضغط المادي والمعنوي على المقاومة المسلحة من ناحية وعلى جمهورها الفلسطيني، الذي يعاني من سياسات التضييق الإسرائيلية، وسياسات القضم المادي التدريجي للسلطة الفلسطينية في رام الله من ناحية ثانية. وتبدو المعطيات الأولى أن الطرف الفلسطيني سيعرف خلال الفترة القادمة قدراً أكبر من التضييق المالي خصوصاً في ظلّ الضغوط العربية والأمريكية (لا سيّما دور جناح الرئيس الأمريكي والبيت الأبيض مقارنة بتوجهات الخارجية الأمريكية) وبعض الدول الأوروبية. وقد يكون مطلب مدّ نفوذ السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وتعميم التنسيق الأمني من الضفة لقطاع غزة هو الهدف المركزي المباشر لكل هذه الضغوط. ويبدو أن قدرة إيران في المرحلة القادمة على تجاوز أسوار الحصار العربي والدولي لتنظيمات المقاومة ستكون أضعف من المراحل السابقة، لأسباب دولية وإقليمية وداخلية إيرانية. فإيران تتنازعها في الأزمة الخليجية الحالية رغبتان: الأولى تعميق العلاقة الإيرانية القطرية بهدف تحقيق ضغط أكبر على السعودية، والثانية توظيف العلاقة الإيرانية القطرية في حال تطورها في تعديل الموقف القطري في سورية… ويبدو أن إيران معنية في الظرف الحالي بالرغبة الأولى بشكل أكبر… لكنها ستعمل في مرحلة لاحقة بعد نجاحها في الرغبة الأولى على توظيفها في تحقيق الثانية [7] .
رابعاً: السيناريو الأرجح:
إذا استبعدنا احتمال الحرب، فإن مصلحة الدول الغربية لا سيما أمريكا وبريطانيا وفرنسا استمرار الأزمة ضمن قيود معينة مما يدفع نحو العسكرة (بمزيد من صفقات التسلح، أو استحضار المزيد من القوات الأجنبية الغربية خصوصاً للمنطقة، وهو ما يشكل غطاء لمزيد من التطويق لإيران وممارسة الضغط عليها عبر تكثيف الوجود العسكري الغربي حولها) ولكن دون الوصول لمرحلة الحرب، وقد تندفع دول خليجية نحو انفتاح أكبر على ”إسرائيل“ بغرض ضمان وقوف اللوبي اليهودي في المؤسسات الأمريكية لجانبها في الصراع الخليجي كما أشرنا سابقاً.
وتدل معاينة تطورات الأزمة على الملامح التالية:
1. لا يبدو أنه سيكون هناك أي حلّ خارج الرؤية الأمريكية، وسيعمل الوسطاء (أمريكيون أو عرب) ضمن الحدود التي تضعها الولايات المتحدة لتسوية الأزمة، ولن تكون أي تسوية تشرف عليها الولايات المتحدة معنية بتحقيق أي مصلحة فلسطينية في العلاقات الخليجية الفلسطينية.
2. من المستبعد أن يكون هناك حلّ عسكري للأزمة لا سيّما أن القوات الأمريكية (قرابة 35 ألف عسكري أمريكي) موجودة، ولو بمستويات مختلفة على أراضي جميع أطراف الأزمة، كما أن من مصلحة القوى الكبرى جميعاً عدم تصاعد الأزمة لما لذلك من آثار سلبية على سياسات الطاقة وعلى فرص الاستثمار لدى الطرفين، وهو أمر يقع في صالح الطرف الفلسطيني بشكل غير مباشر.
3. يبدو أن تلبية مطالب السعودية والإمارات ستعلو على تلبية المطالب المصرية المتمثلة بشكل خاص في تسليم بعض الأشخاص للسلطات المصرية. وهو ما يعني أن انعكاسها على الجانب الفلسطيني سيظل محدوداً؛ إلا إذا كان ثمة إصرار على الاستقواء بالأمريكان بشكل كبير لتحقيق مطالب حاسمة من قطر.
4. قد تكون الفترة القادمة هي أكثر الفترات حرجاً وتضييقاً على حركة الإخوان المسلمين بشكل خاص و”الإسلام السياسي” بشكل عام في كل العالم العربي، لكنه سيكون أكثر وضوحاً في ليبيا وسورية وفلسطين.
5. إذا ما وافقت قطر على بعض التنازلات، فإن الأرجح أن قناة الجزيرة لن تغلق، ولكن قد يجري تغيير في مجلس إدارتها وربما استبعاد لبعض كبار مذيعيها وتغيير تدريجي هادئ وطويل المدى في توجهاتها الإعلامية وبشكل لا يحرج الديبلوماسية القطرية، وهو أمر أقل فائدة للطرف الفلسطيني.
6. من المستبعد أن تتجاوز الضغوط على حماس حدود ما هو قائم حالياً، ولكنها قد تُدفع نحو “التواري التدريجي” في المشهد القطري. ولعل من مصلحة حماس في الظرف الحالي القيام بتصعيد “مدروس ومحدود” للتوتر مع الجيش الإسرائيلي لإرباك العرب الساعين للتطبيع مع ”إسرائيل“، لا سيّما في المناخ الذي أفرزته أزمة السياسات الإسرائيلية الأخيرة تجاه المسجد الأقصى مثل إخضاع المصلين للتفتيش الإلكتروني وغيره، نظراً للمكانة الكبيرة التي يحتلها المسجد.
7. من المتوقع أن تبقى العلاقات القطرية الإيرانية في حدودها الحالية مع تأكيدات قطرية على “فكرة عدم التدخل الإيراني في الشأن العربي والالتزام بعروبة الجزر الثلاث” لكن العلاقات الاقتصادية ستبقى على حالها، وهو أمر لا يضير الشأن الفلسطيني.
8. يبدو أن الأزمة ستؤدي في المدى المتوسط والبعيد إلى تحجيم نسبي للدور القطري في التفاعلات الإقليمية، وهو ما قد يفقد حماس وقوى المقاومة الفلسطينية داعماً رسمياً عربياً مهماً.
9. يبدو أن عملية تأجيج الصراع بين السنة والشيعة (وإشكالات الصراع الطائفي والعرقي) قد بدأت تستنفد أغراضها، وهناك فرص لأن تتوارى تدريجياً؛ غير أن هناك قوى عربية وإقليمية ودولية ستسعى لتأجيجها. وبشكل عام، فإن تراجع الصراع الطائفي والعرقي في المنطقة يصب في مصلحة القضية الفلسطينية.
خامساً: التوصيات:
في ظلّ المشهد السابق، قد يكون من الأجدى لو اشتملت الاستراتيجية الفلسطينية على ما يلي:
1. على تنظيمات المقاومة المسلحة أن تعمل على جعل جهودها الديبلوماسية تنصب في المرحلة القادمة وبكل جهد شعبي ورسمي على المستوى المحلي والإقليمي والدولي نحو عدم إدراجها ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية، لأن الإدراج سيمثل غطاء شرعياً لـ”إسرائيل“ ولدول عربية عديدة لنزع سلاح المقاومة، ومدّ التنسيق الأمني لغزة.
2. من الضروري أن تعمل المقاومة الفلسطينية على رأب الصدع مع حلفائها السابقين ولكن بشكل تدرجي وعبر توظيف القوى الإقليمية العربية أو غير العربية المستفيدة من إعادة ترميم جبهة المقاومة (مثل إيران، وتركيا، وحزب الله، وبعض التيارات العلمانية العربية المساندة للمقاومة، وبعض الدول العربية كالجزائر)، إذ إن المرحلة القادمة ستشهد على الأغلب ضغطاً متصاعداً لا سيّما من الناحية المادية والعسكرية على المقاومة الفلسطينية خصوصاً في غزة.
3. من الضروري ألا تقوم التنظيمات الفلسطينية المقاومة بالاشتراك في أي اصطفافات حاسمة لصالح أي من أطراف الخلاف الخليجي، والتركيز على ضرورة الحل الديبلوماسي “بين الأشقاء”، وبعيداً عن تصريحات قابلة للتأويل المباشر.
4. الدفع باتجاه حلّ مشاكل المنطقة بشكل سلمي بين الدول المعنية، وإبعاد الأطراف الأمريكية الإسرائيلية عن التدخل في إدارة و”معالجة” أزمات المنطقة.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ الدكتور وليد عبد الحي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.
لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:>> التقدير الاستراتيجي (100): تداعيات الأزمة الخليجية على القضية الفلسطينية (15 صفحة، 98 KB) >> التقدير الاستراتيجي (100): تداعيات الأزمة الخليجية على القضية الفلسطينية (15 صفحة، 779 KB) |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 20/7/2017