بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تمر هذه الأيام ذكرى مرور عامين على إطلاق “المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج” الذي شارك في تأسيسه نحو ستة آلاف فلسطيني، جاؤوا من مختلف بقاع العالم إلى إسطنبول، حيث اجتمعوا في 25/2/2017؛ مؤكدين على الارتباط المقدس لنحو ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني بفلسطين، ومعبرين عن تطلعات الشعب الفلسطيني في الخارج في تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، وفي عودة اللاجئين إلى بيوتهم وأراضيهم التي أخرجوا منها.
سعى القائمون على المؤتمر الشعبي إلى إنشاء هيئة شعبية مدنية مستقلة، غير حزبية، تقوم بتحشيد واستيعاب وتأطير مختلف قوى وشرائح الشعب الفلسطيني، وتطلق طاقاتهم بشكل منظم فعال في كافة جوانب العمل الشعبي، وبما يسهم في إيجاد بيئة صحية ناضجة تشارك في مجالات العمل الوطني، وصناعة القرار الفلسطيني، وتدعم صمود الشعب الفلسطيني في الداخل. وفي الوقت نفسه، فإنه وإن كان للمؤتمر مهمة سياسية فهو ليس حزباً سياسياً، ولا يخضع للمحاصصات والحسابات الحزبية، وليس لرموز وقيادات الفصائل حضور فيه، وإن كان المجال مفتوحاً للأشخاص من مختلف التوجهات أن يشاركوا كأفراد، دون أن يكونوا ممثلين لفصائلهم. والمؤتمر كذلك، وإن كان يسعى لخدمة الشعب الفلسطيني، إلاّ أنه ليس مجرد جمعية خيرية.
وقد شكلت عملية إطلاق المؤتمر دفعة معنوية كبيرة للقائمين عليه، نظراً للمشاركة الواسعة ولنوعية الحضور المميزة التي شهدها المؤتمر. فألقيت في الافتتاح كلمات لشخصيات كان لها مواقعها في منظمة التحرير أو في السلطة الفلسطينية مثل عبد المحسن القطان، وأنيس فوزي قاسم، وسلمان أبو ستة، ومنير شفيق، وفؤاد بسيسو؛ بالإضافة إلى مشاركة مجموعة كبيرة من الشباب الفلسطيني الواعد.
المؤتمر ضرورة وطنية:
أجمع المشاركون على ضرورة إنشاء هذا المؤتمر في ظلّ تراجع وتدهور منظمة التحرير الفلسطينية وتعطّل مؤسساتها في الخارج، وغيابها طوال 25 عاماً عن فلسطينيي الخارج وهمومهم، وعدم تجديدها لِبُنَاها التشريعية والقيادية، وهيمنة فصيل واحد عليها، مع غياب أو تغييب قوى فاعلة وذات حضور شعبي واسع عن العمل والمشاركة في أطرها.
كما لاحظوا من ناحية ثانية، حالة الضعف والانزواء التي تشهدها الاتحادات والنقابات الفلسطينية في الخارج وفشلها في تمثيل وتفعيل أبناء شعبها في مجال عملهم واختصاصهم.
ومن ناحية ثالثة، نبهوا إلى خطورة المرحلة وما يحاك ضد قضية فلسطين، ومحاولة طي ملفها، وتضييع حقوق الشعب الفلسطيني والعبث بثوابته، وعلى رأسها حقه في تحرير كامل أرضه ومقدساته، وفي سيادته عليها، وحقه في العودة؛ وبالتالي ضرورة استنهاض وتحشيد كافة قوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مدعوماً بأمته العربية والإسلامية، وبأحرار العالم، لمواجهة المشروع الصهيوني، وكل المشاريع التي تستهدف تصفية قضيته.
ولذلك، كان ثمة إدراك عميق بضرورة وأهمية استعادة فلسطينيي الخارج لدورهم الأساس في المشروع الوطني الفلسطيني، والحفاظ على الثوابت. ولم يكن ذلك جديداً ولا غريباً عن دورهم الرائد منذ نكبة 1948 وكارثة 1967. فإنشاء الفصائل الفلسطينية الرئيسية وقيادتها كانت على أيديهم، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها كانت على أيديهم كذلك، وقيادة المقاومة والعمل العسكري المقاوم، والمشروع الوطني الفلسطيني منذ 1948 وحتى 1993 كانت على أيديهم، وهو ما ينطبق على الاتحادات والنقابات الطلابية والمهنية والشبابية والنسائية. فحيثما كان الاحتلال الصهيوني يجثم على صدر الداخل الفلسطيني، ويمنع القدرة على العمل والمقاومة ويسحقها، كان الخارج يقوم بواجباته ومسؤولياته، فيتولى المبادرة، ويمدّ إخوانه وأهله في الداخل بعناصر الصمود والقوة والثبات.
أما بعد اتفاقات أوسلو 1993، فإن قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية تتحمل وزر تغييب فلسطينيي الخارج، وتقزيم أدوارهم، وتعريض حقوقهم وثوابتهم للخطر والضياع.
نجاحات… ولكن:
خلال العامين الماضيين، وبالرغم من الصعوبات والعوائق وشحّ الإمكانات، نجح المؤتمر الشعبي في تجاوز العقدة التي صاحبت العديد من المبادرات المشابهة السابقة، والتي كانت تتبخر أو تذوي بُعيد قيامها بقليل؛ فتمكن المؤتمر من تشكيل هيئاته القيادية، ومن عقد هيئته العامة، ومن اعتماد نظامه الأساسي، ومن إعداد رؤيته وخطته الاستراتيجية لسنوات عشر قادمة، ومن تشكيل العديد من لجانه التي بدأت عملها على الأرض، ومن تنفيذ العديد من الفعاليات في لبنان وتركيا وقطر والأردن وغيرها. كما عقدت أمانته العامة نحو عشرة اجتماعات على مدى السنتين للمتابعة التنفيذية للبرامج والتصورات، ونمت بشكل عام أجواء إيجابية وصريحة وقاعدة فهم وعمل مشترك بين أعضائه، على اختلاف خلفياتهم السياسية والأيديولوجية.
وهكذا، أثبت القائمون على المؤتمر جديتهم في العمل، واستعدادهم لتحمل الكثير من الصعاب، والعمل على تذليلها لإنجاح الفكرة ونموها واتساعها؛ وأخذ المؤتمر يثبت نفسه كرقم صعب في أوساط فلسطينيي الخارج.
وفي المقابل، فيظهر أن ما تمّ إنجازه كان أقل من طموحات الكثيرين ممن شاركوا في إطلاق المؤتمر:
– فما زالت العضوية في المؤتمر متواضعة، قياساً بأعداد الفلسطينيين في الخارج، وما زال نموها ضئيلاً.
– وما زالت القدرة على تحقيق دور فاعل في الجاليات محدودة.
– وما زال المؤتمر غير حاضر بقوة في أوساط الاتحادات والنقابات المهنية.
– وما زال المؤتمر يُمثل حالة نخبوية، لم يتفاعل معها الجمهور الفلسطيني في الخارج بالشكل المطلوب.
– وما زال هناك الكثير من الرموز والشخصيات والكفاءات الفلسطينية ممن لم تنضم للمؤتمر، أو تتردد في المشاركة الفاعلة فيه.
– ولم ينجح المؤتمر حتى الآن في توفير التمويل والإمكانات الذاتية، التي تمكنه من تنفيذ برامجه على الأرض.
صعوبات ومعوقات:
وككل المشاريع الكبيرة التي تواجهها العقبات والصعوبات، فإن هناك أسباباً ذاتية وأخرى موضوعية تجعل المنجز دون طموح القائمين على المشروع.
ومن الأسباب الذاتية أن هذا المشروع شاركت فيه شخصيات بخلفيات سياسية شتى، وجاؤوا من بيئات جغرافية متنوعة، ولديهم درجات متفاوتة من الرؤى والطموح، ودرجات متفاوتة من الاستعداد للعمل، ولديهم وجهات نظر متنوعة حول أولويات المرحلة وطرق الوصول إلى الأهداف. فهناك من يحاول تجميع الجهود باتجاه انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير، وهناك من يحاول تركيز الجهود باتجاه دعم الداخل الفلسطيني وانتفاضته لدحر الاحتلال؛ وهناك من يرى أولوية تفعيل الجاليات والنقابات والاتحادات المهنية، وتعبئة الشعب الفلسطيني في الخارج للحفاظ على الثوابت وعلى رأسها حقّ العودة؛ وهناك من يحاول المزج بين هذه النقاط. وقد انعكس ذلك على عملية بناء التصورات والخطط والمسارات، التي احتاجت وقتاً غير قصير من النقاش والتداول في أروقة الأمانة العامة والهيئة العامة للمؤتمر.
ولعل حاجة المؤتمر، من ناحية ثانية، إلى مزيد من الرموز والشخصيات الفاعلة في أوساط الجاليات الفلسطينية تضاف إلى العوامل الذاتية. كما أن ضعف الإمكانات المالية وقلة المتفرغين لهذا العمل، تضاف إلى العوامل المعوِّقة لقدرة المؤتمر على الانطلاق والتوسع السريع.
أما العوامل الموضوعية فلها تأثير كبير في عملية التعويق. ولعل أولها أن أعضاء المؤتمر منتشرون في الخارج في أرجاء الكرة الأرضية، من أستراليا إلى الأمريكيتين الجنوبية والشمالية. وبالرغم من توفر وسائل التواصل عبر الانترنت، إلا أن الكثير من القضايا التي تحتاج نقاشاً معمقاً خصوصاً في مرحلة التأسيس، تستدعي الحضور والاجتماع، وهو أمر يستهلك المال والجهد، ولا يمكن أن يتم إلا بضع مرات في السنة، وعلى مستوى الأمانة العامة.
من ناحية ثانية، تقف قيادة منظمة التحرير (التي هي قيادة السلطة وحركة فتح) ضدّ المؤتمر، وتعمل جاهدة على تعطيله وإفشاله؛ بدل أن تجد فيه رافعة للمشروع الوطني، وأداة لتفعيل فلسطينيي الخارج، وللحفاظ على الثوابت. وعوضاً عن ذلك، ترى فيه خروجاً عن شرعيتها، وإحراجاً لها وللمسارات التي اختطتها، ودعماً للقوى السياسية المنافسة لها، وخصوصاً التيارات الداعمة للمقاومة ولـ”الإسلام السياسي” وتحديداً حماس.
وبالرغم من أن أداء قيادة المنظمة البئيس في الخارج تسبب في فراغ هائل، وفي مخاطر مستقبلية كبرى على فلسطينيي الخارج؛ إلا أن هذه القيادة لا تريد أن تعمل… ولا يبدو أنها تريد لغيرها أن يعمل. ولذلك حاربته في إعلامها، وتواصلت مع العديد من الدول محذرة من المؤتمر وأنشطته، متهمة إياه بأنه يسعى إلى تشكيل بديل عنها؛ مع أن المؤتمر أكد في كل أدبياته أنه ليس بديلاً عن المنظمة، ولا يسعى أن يكون كذلك. وقد تسبب سلوك قيادة المنظمة في تعطيل انعقاد الهيئة العامة في إسطنبول في آذار/ مارس 2018، عندما قام الرئيس عباس بنفسه بالتواصل مع وزير الخارجية التركي لمنع انعقادها، كما تسبب في تعطيل عقده لمؤتمر موسع في بيروت. كما تسبب في التعامل الحذر مع المؤتمر من عدد من الدول التي لا ترغب في إغضاب قيادة المنظمة. ثم إن العديد من الشخصيات الفلسطينية ترددت في المشاركة في عضوية المؤتمر، نتيجة حملات التحريض والتشويه التي قامت بها قيادة المنظمة والسلطة.
أما من الناحية الثالثة، فإن البيئة العربية الرسمية، وحيث يتواجد الثقل الشعبي الفلسطيني، هي بيئة ذات سقف سياسي منخفض وذات بيئة حريات منخفضة؛ وهي في الوقت نفسه بيئات تتعامل إما بخصومة أو بحذر مع التيارات المؤيدة للمقاومة أو تيارات “الإسلام السياسي”؛ وهي بيئات متساوقة مع مسارات التسوية السلمية، ولا ترغب في إغضاب قيادة فتح والمنظمة، كما لا ترغب في إغضاب الأمريكان. وبالتالي؛ فإن سقف عمل المؤتمر الشعبي يظل محدوداً في هذه البيئات، التي يعيش فيها أكثر من 80% من فلسطينيي الخارج. ويكون تفعيل الجاليات وإعادة تنظيم وتنشيط الاتحادات والنقابات، وأوجه النشاط السياسي والإعلامي والتعبوي محكومة بسقف النظام وشروطه. ومع ذلك، فإن هناك مجالات لعمل معقول، وإن بدرجات متفاوتة، في عدد من البلدان العربية كلبنان وقطر والكويت والأردن وفي بلدان إسلامية كتركيا وماليزيا، وفي معظم بلدان العالم الغربي.
وتُعدُّ إشكالية التمويل وتوفير المال الكافي لإطلاق الأنشطة والفعاليات والوصول إلى الناس عقبة رابعة، تحول دون تنفيذ الكثير من الأفكار والبرامج. وهي من التحديات التي يجب على المؤتمر تجاوزها من خلال الوصول إلى رجال الأعمال الفلسطينيين المؤمنين بالفكرة، ومن خلال توسيع دائرة العضوية والاشتراك، ليتمكن المؤتمر من تغطية تكاليفه من خلال أنشطته.
خلاصة:
أما وقد مضى عامان على المؤتمر، وقد استقر بنيانه، ونضجت إلى حدّ كبير تصوراته ومساراته؛ فإن العمل الرتيب لم يعد كافياً، حتى لا يتسرب الإحباط والضعف في نفوس المشاركين. وآن الأوان لانطلاقة قوية ممنهجة، تتعامل بواقعية مع الحقائق على الأرض، ولكن لديها من الإرادة والطموح، والقدرة على المبادرة، وتحمل الأعباء ودفع التكاليف، بما يكفي لتجاوز العقبات، وتحقيق نتائج ملموسة، تكون حافزاً للكفاءات والخبرات والطاقات المذخورة في الشعب الفلسطيني للانضمام للمسيرة ودعمها. كما لا بدّ من طمأنة المتشككين والمترددين قولاً وعملاً، من أن هذا الإطار ذو أجندة وطنية خالصة، ومفتوح للجميع ومنفتح على الجميع، وليس بديلاً عن أحد، ولكنه إطار جامع لإطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في الخارج والمحافظة على ثوابته.
المصدر: هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في موقع ”TRT“ عربي ، 2019/2/15
موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا