بقلم: د. محسن محمد صالح
معركة الصمود:
ربما اختصرت قرية “العراقيب” قصة الإصرار الصهيوني على اقتلاع الشعب الفلسطيني، وقصة الإصرار الفلسطيني على الانغراس في الأرض والصمود في وجه الاحتلال. مائة وأربعون مرة يقوم الصهاينة بهدم القرية، ومائة وأربعون مرة يعيد أبناء القرية بناءها، في منطقة النقب المحتل 1948.
قبلَ نحو سبعين عاماً، وفي حرب 1948، قام الصهاينة باحتلال 77% من أرض فلسطين ودمروا 413 قرية وبلدة فلسطينية على الأقل “يصل العدد إلى نحو 530 وفق تقديراتِ سلمان أبو ستة”، وشردوا نحو 800 ألف فلسطيني؛ حيث لم يبقَ في فلسطين المحتلة 1948 سوى 156 ألف فلسطيني؛ وجدوا أنفسهم أقلية مستباحة في أرضهم، وظلوا نحو 18 سنة تحت الحكم العسكري وأنظمة الطوارئ، وصودرت الأراضي لصالح المستوطنين اليهود الصهاينة، حتى لم يتبقَ في أيدي فلسطيني 1948 أكثر من 4% من الأرض.
حافظ فلسطينيو 48 على نسبتهم السكانية حتى الآن في حدود 17% تقريباً؛ إذ يبلغ عددهم نحو مليون ونصف “مع عدم احتساب أعداد فلسطينيي شرق القدس الذين تضيفهم الإحصاءات الإسرائيلية”. بالرغم من أن المشروع الصهيوني استجلب طوال السبعين عاماً الماضية (2018-1948) نحو ثلاثة ملايين و260 ألف مستوطن يهودي؛ حيث أسهمت نسبة الزيادة الطبيعية المرتفعة لفلسطينيي 48 في الحفاظ على نسبتهم.
نجح فلسطينيو 48 في معركة الصمود على الأرض، بالرغم من الإجراءات الصهيونية التي تعاملت معهم كغرباء في أرضهم وكرعايا، وأعطت الأفضلية والمزايا المختلفة لليهود، فضُيّقت عليهم سبل الإقامة والمسكن والبناء والاستفادة من الخدمات، وسبلُ التعبير عن هويّتهم الثقافية وانتمائهم الفلسطيني والعربي والإسلامي، وبينما حصرت البلدات والقرى العربية في مساحات ضيقة، ومنعت بناء قرى وتجمّعات فلسطينية جديدة، فإنها قامت ببناء أكثر من سبعمائة بلدة ومدينة ومستوطنة صهيوينة في الأرض المحتلة 1948.
وفي المقابل، فما زالت هناك 46 قرية عربية في النقب، يسكنها 137 ألف فلسطيني، يعدُّها الاحتلال “غير معترف بها” ما يعني أنها محرومة من الخدمات الأساسية والبناء فيها محظور أو معرّضة للهدم والإزالة؛ فقد قام الصهاينة مثلاً، إلى جانب هدم قرية العراقيب، بهدم قرى حرابا وعبدة وأبو الصلب وأبو تلول وقرنوب.
وهكذا، اضطر فلسطينيو 48 للبناء بدون ترخيص؛ حيث تشير التقديرات إلى وجود ما بين 50-80 ألف منزل بدون ترخيص، كلها معرضة للهدم، بمعدل منزل من بين كل سبعة منازل، مع احتساب منازل فلسطينيي منطقة النقب.
السياسات الصهيونية الممنهجة التي تسعى لتكريس الهوية المزيفة للأرض والشعب، ازدادت يمينية وعنصرية وانكشافاً في السنوات الماضية، وبرزت بشكل فاضح في قانون القومية اليهودي الذي أجازه الكنيست الصهيوني في صيف 2018، الذي أكّد أن “إسرائيل” هي الدولة القومية “للشعب اليهودي”، وأن حقّ تقرير المصير فيها هو لليهود فقط، وأن تنمية الاستيطان اليهودي هو “قيمة وطنية”، سيتم توظيف الدولة وأجهزتها لخدمتها، بينما استبعد اللغة العربية كلغةٍ رسميةٍ، وهو ما زاد من المخاطر والتحديّات التي يواجهها الشعب الفلسطيني من أبناء الـ 48.
معركة الهوية:
في بيئة الاحتلال الصهيوني، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تكريس هوية يهودية بثوب “علماني”، وتكريس عنصرية صهيونية بثوب “ديموقراطي”؛ كما تحاول تفتيت المجتمع الفلسطيني إلى هويّات طائفية أو اجتماعية، فتفصل الدروز عن غيرهم، وتفضل المسلم عن المسيحي، وكذلك تفعل مع البدو، وإذا كان ثمّة نجاحات في الوسط الدرزي (نحو 140ألفاً)؛ حيث تصوّت غالبيتهم الساحقة لأحزاب صهيونية، وحيث يتجند الكثير من أبنائهم في الجيش الإسرائيلي؛ فإن هناك أغلبية عربية متزايدة تشعر بقوة بهويتها الفلسطينية وانتمائها العربي والإسلامي، ونجحت في كسر محاولات التفتيت الصهيونية؛ وتكرّست لها روايتها الفلسطينية في مواجهة الرواية الصهيونية، وهي حالة ظهرت بقوة منذ ظهور حركة أبناء البلد في خمسينيات القرن العشرين، مروراً بالحركات ذات البعد الوطني والقومي والإسلامي.
غير أن التعبير عن هذه الهويّة واجهته صعوبات الجمع بين فكرة الانتماء لمؤسسات وطنية فلسطينية، وبين الاضطرار لحمل الجواز الإسرائيلي أو “الجنسية” الإسرائيلية، ومتابعة الحياة تحت سقف أو سيف “القانون” الإسرائيلي، وكذلك فكّ التعارض بين الحاجة لتحقيق الأمور المطلبية المعيشية المرتبطة بالسّكن والعمل والتعلم والصحة والحياة اليومية وبين الانفكاك عن المشروع الصهيوني وأدوات هيمنته، ومحاولة الجمع بين الحاجة للتعبير عن المواقف والمطالب السياسية لفلسطينيي 1948، وبين الحذر من الوقوع في “شرعنة” المنظومة السياسية الصهيونية، والدخول تحت غطائها، وإعطائها ديكوراً “ديمقراطياً”، يُسوّق مشروعها العدواني الإحلالي الاستيطاني.
الدور الوطني:
وبناءً على ما سبق، فقد عبر فلسطينيو 48 بأشكال مختلفة عن دورهم الوطني؛ فاشتركت معظم التيارات في التعبير عن هويتها الفلسطينية، من خلال تأكيد الانتماء للشعب الفلسطيني، ودعم المشروع الوطني الفلسطيني، وأن تكون منظمة التحرير المظلة الجامعة للفلسطينيين، وتأييد المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وإقامة دولة فلسطينية. كما اشتركت التيارات في دعم الأنشطة الثقافية والتراثية التي تحفظ الهوية الفلسطينية، والعمل من خلال البلديات لخدمة الشعب الفلسطيني.
غير أنها اختلفت في المشاركة في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ فاشتركت فيها تيارات كبيرة سعياً لحماية “الأقلية” العربية وخدمتها، من خلال ما يمكن أن يتيحه النظام السياسي ومحاولة توسيعه. ورفعت التيارات شعارات المساواة الكاملة و”دولة لكل مواطنيها”، وغير ذلك. بينما فضَّل تيار كبير تقوده الحركة الإسلامية، في شمال فلسطين، إلى أن يقاطع انتخابات الكنيست، غير أنه نشط في المجالات الأخرى، فكان له أداءٌ مميزٌ في الخدمات البلدية، وفي الحفاظ على الهويّة الوطنية، وفي الدعوة الإسلامية. وكان من أبرز إنجازاته المحافظة على القدس والمقدسات، إلى جانب إخوانهم في الحركة الإسلامية، في الجنوب، فلعبوا دوراً بارزاً في رعاية المسجد الأقصى وصيانته والمرابطة فيه، وتسيير قوافل المصلين إليه، كما ناضلوا في الحفاظ على باقي المقدسات في فلسطين، وسعوا لاستعادة الأوقاف وصيانة المساجد والمقابر وغيرها.
وشارك فلسطينيو 48 في العمل الانتفاضي، فكان يوم الأرض في 30/3/1976، وكان لهم دور بارز في بداية انتفاضة الأقصى في أواخر سبتمبر/أيلول 2000، وكذلك في انتفاضة القدس 2015-2017؛ غير أن التيار العام فضَّل عدم الدّخول في المواجهة المسلحة مع الصهاينة؛ نظراً للظروف الخاصة بفلسطينيي الـ 48. وكان لهم دور كبير كـ”رئة” لإخوانهم في الضفة والقطاع، مقدمين الدعم والرعاية والخدمات الاجتماعية والإنسانية، فضلاً عن الدعم السياسي والإعلامي.
ومع ذلك فقد ظلت هناك دائماً مبادرات من العديد من شباب الـ48 في العمل المقاوم، وفي الدّعم اللوجيستي للمقاومة المسلحة؛ والتي كان من أبرزها مؤخراً عملية “الجبارين” الثلاثة في المسجد الأقصى في صيف2017.
الاستحقاق الانتخابي:
ستعقد الانتخابات الإسرائيلية القادمة في 9 أبريل/نيسان القادم؛ وهي تُعقد في أجواء ازداد فيها المشروع الصهيوني عنصرية وتطرفاً، وتراجعت آمال كثيرٍ من فلسطينيي 48 أن تحقق المشاركة السياسية نتائج تستحق الأثمان المدفوعة من خلالها، خصوصاً بعد صدور قانون القومية اليهودية؛ ومجموعة القوانين والإجراءات العنصرية، التي تمّت في السنوات القليلة الماضية.
حملت الانتخابات الماضية تكتلاً فلسطينياً عربياً موحداً حصل على 13 مقعداً، وعُدَّ ذلك إنجازاً كبيراً على صعيد توحيد العمل السياسي لفلسطينيي 48، وظهرت كفاءات سياسية مميزة؛ غير أن هذه الكفاءات لم تسلمْ من المطاردة والمحاصرة ومحاولات العزل والتشويه الصهيونية، وفي هذه الانتخابات تنزل قائمتان عربيتان يُتوقّع أن تحصلا مجتمعتين على 12 مقعداً؛ في ظروف ما زال جانب كبير من فلسطينيي 48 يقاطع الانتخابات، التي لو شاركوا فيها جميعاً لربما زاد عدد المقاعد العربية إلى نحو 20 مقعداً، وهي زيادة لا تؤثر في المنظومة السياسية الإسرائيلية الصهيونية؛ حيث إن عدد مقاعد الكنيست 120 مقعداً؛ وإن كان هذا الأمر محطّ نقاش في الوسط الفلسطيني، وبشكل عام فإن هناك بيئة واسعة محبطة من إمكانية الاستفادة من الكنيست كرافعة سياسية في ضوء التجربة التاريخية، وفي ضوء الأثمان السياسية، وفي ضوء تزايد التطّرف العنصري والديني في المجتمع الصهيوني.