ما هي السياسة الخارجية التي تبنتها إيران إزاء الأزمة الخليجية الحالية ؟؟ وما هو شكل الموقف الإيراني المتوقع إزاء ما سبق ؟
وماذا جنت طهران من مكاسب جراء تفجّر الخلافات البينية الخليجية ؟ وما هي أبرز السيناريوهات المتوقعة لشكل هذه الأزمة ومسارها، ونتائجها المتوقعة على إيران ؟.
لرصد مسارات وتوجهات الموقف الإيراني إزاء قطر، لا بدّ من إجراء ومسح دقيق ومتابعة للتحليلات الإيرانية، فضلاً عن التصريحات الرسمية، في مقاربة لفهم السياسة والتفكير الإيراني.
شعرت طهران بعد تولي (ترامب) مقاليد الرئاسة في واشنطن، ومع حالة الاصطفاف الإقليمي والدولي الذي تشكل ضدها، والانتقال السياسي السلس في الرياض، بأن ساعة الحقيقة لمواجهة إيران قد اقتربت .
الموقف الأمريكي الجديد وتطوراته لم تذهب بعيداً، وتبنى علناً فكرة دعم الخيار السعودي لمواجهة المشروع الإيراني علناً، وسط ذلك نشطت الجهود السعودية لمحاولة بناء تحالف إسلامي عريض، هدفه الأساس إيجاد مقاربة جديدة لتحجيم الدور الإيراني، وتصاعد معها وتيرة خطاب المواجهة والتحدّي والتلويح بالردّ، في المقلب الآخر، بقي النفس الإيراني في الرد على قرارات قمم الرياض الثلاث مضبوطاً بالخطاب السياسي والتصعيدي البعيد عن دبلوماسية حافة الهاوية التي تجيدها طهران باحتراف، ما عكس عدم رغبة أو لنقل عدم قدرة إيرانية على المواجهة مع الاصطفاف الإقليمي الذي تشكل؛ إلا ضمن السجال والوعيد الذي يندرج في إطار توجيه الرسائل للداخل على مقياس متعدد الدرجات، كما عودتنا عليه الماكينة الإعلامية الإيرانية .
نفسّر الأمر – لغاية الآن وقبيل اندلاع الأزمة الخليجية – بأن “إيران” تعلم أنها باتت لا تملك مساحة مناورة كبيرة، أمام هذا الاصطفاف الإقليمي والدولي؛ خاصة الموقف الأميركي المندفع، وغير المسبوق الذي بات يُطالب علناً، وبشكل رسمي بتغيير النظام السياسي الإيراني، وعلى لسان وزير الخارجية (تيلرسون) .
في المقابل، وأمام توصيف هذه الحالة، أدركت طهران تقلص هامش المواجهة والمناورة، وكذلك الرضوخ للإملاءات والطلبات التي كانت السعودية، والتحالف الوليد يريدان تحقيقها من طهران، والذي تشكل ضدها بعد أن قضت عقوداً، تروج لثورتها، وتسعى لبناء مجال حيوي مؤثر، وتسوّق لنفسها بصفتها دولة إقليمية فاعلة ومؤثرة في صناعة القرارات، ومحاولة إدارة أزمات المنطقة دون تحدّي .
من جهة ثانية، تحسبت إيران من قضية خطيرة بعد حالة الاصطفاف التي تحققت، وهي أن تسعى السعودية ومن والاها من الدول إلى محاولة كسب تأييد الحركات الإسلامية السنية والفاعلة، وتوظيفها في حلف المواجهة الذي تشكل؛ مما قد يخلق تياراً شعبياً مناوئاً لإيران ولسياساتها الطائفية، ومن شأن ذلك في حال نجاحه أن يخلق أزمة كبيرة لإيران، خاصة مع الشعوب العربية والإسلامية التي راهنت عليها إيران الدولة والثورة طويلاً، وقد تخلق أرضية داعمة لتأييد أي مشروع لمواجهتها .
على الأقل كانت الدولة الإيرانية تراهن دوماً على عدم خسارة الرأي العام في العالم العربي والإسلامي؛ حيث كانت تدرك تماماً بأن الأنظمة السياسية العربية وبعض الإسلامية سيقفون ضد إيران، أما الشعوب والأحزاب الإسلامية سيقفون إلى جانب إيران .
الأزمة الخليجية : طوق النجاة لإيران :
لا نبالغ إذا قلنا : إن الأزمة الخليجية المتفجرة تكاد لا تفارق الإعلام الإيراني بتقسيماته وتفريعاته منذ اندلاعها في 5 يونيو/حزيران الماضي.
بداية لا شك بأنها أزمة فاجأت الدولة الإيرانية من حيثُ المضمون والتوقيت، فدعت على لسان مسؤوليها الرسميين إلى تغليب لغة الحوار والدبلوماسية لحل المشاكل البينية داخل المنظومة الخليجية على لغة التهديد والحصار، ولجأت إلى تبني دبلوماسية مكوكية خاصة تجاه الطرف التركي، حيث حثت أنقره على استخدام علاقاتها الايجابية للوساطة من أجل التوصل إلى حلول إيجابية سلمية للخلافات الخليجي .
ردُّ الفعل الرسمي الإيراني الأولي قد اتسم بالدعوة إلى التهدئة، أما الجالب في الأمر أن رد الفعل الإعلامي في البداية قد اتسم بمحاولة التسخين لجهة الهجوم على السياسة القطرية، واعتبارها شريكة للسعودية في دعم الحركات المتطرفة، وتحميل المسؤولية كاملة لشخص الأمير( تميم)؛ معتبرة أن الخلافات البينية الخليجية هي مجرد سحابة صيف عابرة، وأن على طهران أن لا تعول عليها كثيراً؛ لأن قطر في نهاية المطاف كانت، ولا زالت جزءاً من معادلة القوة التي خططت، وهددت أمن إيران ومصالحها في سوريا، والعراق، واليمن، والمطالبة بعدم الوقوف إلى جانبها؛ لأنها ما زالت تدعم الإرهاب الوهابي والتكفيري.
أدركت طهران فيما بعد من أن قائمة المطالب الـ13 المسربة لدول الحصار بأن الأزمة خطيرة، وباتت مفتوحة على كل الاحتمالات؛ خاصة مع تضارب المواقف والتصريحات الأميركية، وأن المشكلة البينية الخليجية ليست مجرد أزمة علاقات عابرة بين دول الحصار وقطر، سببها (قناة الجزيرة)، والعلاقات مع إيران، وإنما هي أعقد من ذلك، حيثُ هناك توجه سعودي مع العهد الجديد بعد تسلم الأمير (محمد بن سلمان) مقاليد ولاية العهد لإدخال نمط جديد من الوصاية والهيمنة في العلاقات الخليجية أولاً ، والإقليمية ثانياً على حساب سيادة الدول وللتأثير في قرارتها الداخلية والخارجية، ما جعل طهران تؤّول كل ما يجري على أنه تحول دبلوماسي خطير سيستهدف قطر أولاً، وسلطنة عمان ثانياً، والكويت ثالثاً، ثم الخروج من المنظومة البينية الخليجية للتأثير على الدول العربية والاسلامية الأخرى؛ لتحقيق فكرة الوصاية بأساليب، وأدوات، وطرق جديدة، مما يُشكل تهديداً خطيراً يستهدف إيران أولاً .
هذه الرؤية الإيرانية جعلت طهران تتحسب لعدم الوقوف بشكل عاجل مع قطر ضد السعودية، وتعلن بشكل واضح أن المطالب الخليجية من قطر غير عادلة، ولا تتوافق مع القانون والأعراف السياسية الدولية، وتشكل انتهاكاً صارخاً للتدخل في القرارات السيادية للدول الأخرى، والتحذير من خطورة ذلك على الأمن والسلام الإقليمي والدولي .
لهذا بادرت إيران على الفور، مستغلة هذه الفرصة التاريخية من خلال الأزمة التي نشأت في العلاقات البينية الخليجية، لتوفير البديل العاجل لقطر، ففتحت حدودها البحرية والجوية، أمام الجارة المستهدفة، والضحية قطر، وأعلنت استعدادها لمدها بمستلزماتها من الدواء والغذاء وكل ما تحتاجه، وفي محاولة واضحة لتوسيع التمرد الخليجي على السياسات السعودية إن أمكن؛ خاصة لسلطنة عمان المستاءة من سياسات الرياض، وأبوظبي، والترويج عن إحباطها محاولات للإطاحة بالسلطان قابوس .
ماذا حققت (إيران) من مكاسب على ضوء تطورات الأزمة الخليجية :
– المكسب الأول: فرط عرى التحالف الخليجي أولاً والإقليمي ثانياً المناهض لإيران :
أسهمت هذه الأزمة البينية الخليجية – حسب الرؤية الإيرانية – في فك عرى المحور الخليجي المناهض لإيران، بعد أن تفجرت الأزمة البينية الخليجية بشكل علني، وانتقلت الخلافات إلى الشعوب والنسيج الاجتماعي الخليجي، حيث تمكنت إيران من استغلال هذه الأزمة، وتوظيفها للعبور لجهة خلق محور إيراني – قطري – عماني، مناوئ للمحور السعودي –الإماراتي- البحريني، مع بقاء الكويت على الحياد؛ مما يعتبر أكبر ضربة لمجلس التعاون الخليجي منذ إنشائه ولغاية اليوم، وينذر بتفككه وزواله .
المكسب الثاني : نهاية وصاية الأخ الأكبر : ترى طهران أن أولى نتائج الأزمة الخليجية هو أفول الدور المحوري والفاعل والمؤثر السعودي داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي، حيثُ وقفت بعض الدول الخليجية أولاً، والعربية ثانياً، والإسلامية ثالثاً، والدولية رابعاً، ضدّ الرغبات والإملاءات السعودية إما من خلال المشاركة في عملية الحصار على قطر، أو اتخاذ إجراءات عملية ضدها، مما وضع مصداقية وفاعلية الدور السعودي على المحك، وتقول طهران : إن هذه الأزمة قد ضربت مصداقية ولي العهد السعودي الجديد في أول مهمة سياسية خارجية يتولاها، بعد رفض الجار القطري المطالب الـــــ13 التي تقدمت بها دول الحصار الأربع للدوحة .
وفي رأي إيران أن هذه الأزمة ستكون بداية مبشرة لنهاية مجلس التعاون الخليجي، وضعف مركزية الدور السعودي؛ خاصة الإقليمي.
المكسب الثالث : تعتقد إيران أن الأزمة الخليجية، واتهام جماعة الإخوان المسلمين، وحماس بالإرهاب قد دعم الموقف الإيراني، وعزز من مصداقية سياستها الخارجية، وجرّد السعودية من أحد الأوراق التي قد يتم استخدامها في المواجهة مع طهران، نظراً لما تتمتع به حركة الإخوان المسلمين، وحركة حماس من ثقل سياسي واجتماعي فاعل، وشعبية في العالم العربي والإسلامي، إلى جانب كون تنظيم الإخوان المسلمين مشاركاً في العملية السياسية بعد أن وائم بين مرجعيته الفكرية ، وطبيعة الأنظمة السياسية في عدد من الدول حتى التي تمتع بعلاقات ايجابية مع السعودية مثل الكويت، المغرب، الأردن، تونس … وبالمقابل سيسهم قرار اعتبار الرياض جماعة الإخوان تنظيماً ارهابياً بنتائج ايجابية على الشعب البحريني في الاستقلال، والحرية، والانعتاق .
النتيجة ترى طهران بأن مسار التطورات البينية الخليجية باتت تصب في صالحها، بعد أن كشفت هشاشة المحور الذي تقوده السعودية في مواجهة إيران، وبدأت تهلل لسقوط ما يعرف بالناتو العربي، الذي تعتبره قد ولد ميتاً.
وهذا سيقلل حجم التحديات التي كان يشكلها هذا التحالف، مما يفتح الباب أمام إيران لإعادة قراءة المشهد من جديد، وفق المقاربة السياسية والأمنية التي تشكلت، ورسم إستراتيجيات وسياسات جديدة تتناسب مع المرحلة، وسقوط ما يسمى “إيرانوفوبيا” والتحذير من سياسة ” السعودية فوبيا “، والمفرح أيضاً أنه وبسبب الأزمة الخليجية، لم تعد إيران تتصدر اهتمامات الصحافة والفضائيات العربية وسجالاتها كما كانت في السابق، ، بل أصبح الخلاف الخليجي – الخليجي يتصدر المشهد الإعلامي، وتنشغل به النخب ومؤسسات صنع القرار السياسي والأمني الخليجي، ويشغل هذا الموضوع حيزاً كبيراً من الجهد الدبلوماسي السعودي والاماراتي على الصعيد الدولي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سجل موضوع الخلاف الخليجي – الخليجي حالة غير مسبوقة للسجال والتطاحن على وسائل التواصل الاجتماعي، وأسهم في إيجاد بيئة خصبة للانقسام العامودي والأفقي لشعوب دول مجلس التعاون الخليجي .
المكسب الرابع : الترويج الإيراني بأن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من حصار قطر :
ترى إيران أن حصار قطر تندرج في اطار التغطية على عملية التطبيع مع “إسرائيل “، والتجهيز لـ”صفقة القرن”، والتي أساسها تصفية القضية الفلسطينية وتطبيع شامل مع إسرائيل، و ما يجري مع قطر يعتبر مقدمة للإجهاز على محور الممانعة .
من هنا بدأ الترويج الإعلامي الإيراني التسويق لفكرة إعادة بناء المحاور والاصطفاف الإقليمية من جديد، مع أهمية التحسب لأمرين :
الأول : خطورة الوجود التركي العسكري في قطر، وتداخل السياسي مع الأمني في التأثير على إيران ومصالحها، مع اعتبار الوجود التركي ذا قيمة مؤقتاً، لمنع ابتلاع السعودية لقطر
الثاني : التوجس والخشية من الدعايات التي تتحدث عن اتفاق بحريني مع مصر؛ لإنشاء قاعدة عسكرية مصرية في البحرين، وتداعيات ذلك المحتملة على إيران ومصالحها في الخليج .
المكسب الخامس: ايجابية ديمومة الصراع الخليجي – الخليجي : لا شك بأن أكثر ما تتحسب له إيران هو استخدام الخيار العسكري في الأزمة الخليجية، رغم قناعتها باستحالة هذا الخيار، وترجيح توظيف الجهد الاستخباري – كأسوأ الخيارات- لمحاولة تشجيع القيام بانقلاب داخلي قطري، لكن التسريبات الإيرانية تشي بأن قطر قد اتخذت خطوات عسكرية وأمنية ولوجستية والكترونية لإفشال مثل هكذا مخطط .
تعتقد طهران بأن استمرار هذه الأزمة وبنفس المنوال سيكون حتماً لصالحها في حال عرفت كيف توظف ذلك جيداً، خاصة مع رفض دول عظمى كبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين تأييد مطالب السعودية، إلى جانب قوى إسلامية مهمة كتركيا، وباكستان، وأندونيسيا، وماليزيا ….
أمّا الأهم فهم حلفائها داخل المنظومة الخليجية والعربية . إضافة إلى ما سبق فإن استمرار هذه الأزمة سيسهم في استنزاف القدرات السعودية السياسية والأمنية… ، ويشغلها عن التعاطي مع الملف الإيراني، إلى جانب أن هذه التطورات ستؤدي إلى انكشاف السعودية، وتعرية دورها الوظيفي، وإضعاف درجة تأثيرها من خلال الأزمات الإقليمية، ولا سيما الأزمة السورية، وما سيجلبه ذلك من منافع حيوية لإيران .
________________