مقدمة: ازدادت في العقود الأخيرة من القرن الحادي والعشرين أهمية مراكز ومؤسسات البحوث والدراسات الإستراتيجية على مستوى العالم بشكل واضح وملحوظ، حتى أصبحت أحد المؤشرات التي تدل على تطور الدول وتقدمها، انطلاقاً إلى التغيير والتحديث، وصولاً إلى مستقبل زاهر، حتى أصبحت البحوث والدراسات العلمية أهم ركائز العمل في الدول المتقدمة، بما يمكنها من القدرة على امتلاك مستقبلها، حيث تمكن المسئولون وأصحاب القرار من التعرف على الواقع والتخطيط له وفق أسس علمية واضحة المعالم إلى حد كبير، في ظل معطيات وشواهد الواقع، بما يمكن صاحب القرار من اتخاذ قرارات ذات مضمون يتماشى مع مؤشرات المستقبل بقدر من الاطمئنان. لهذا أصبح المتطلب الأساسي العمل على تفعيل دور مراكز البحوث والدراسات في شتى متطلبات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية وغيرها، باعتبارها الطريق الآمن لإيصال المعرفة المتخصصة إلى صاحب القرار، عن طريق ما تصدره المراكز من بحوث ودراسات ومؤتمرات وندوات ودراسات استطلاعية، بما يضمن معرفة الواقع في إطار علمي واقعي. هذه المراكز تعد المرآة التي تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف آفاق المستقبل، وفق المنظور العلمي والمعرفي، كما تعكس توجه الشعوب إلى حفظ قدراتها ومنجزاتها وتراثها وحضاراتها، فهي عملية هادفة لتأكيد وتجديد ذاكرة الوطن والمواطن، مما يدل على الوعي الحضاري والنضج الفكري، فتلك المراكز هي بمثابة المخازن والوعاء لذاكرة التاريخ الإنساني في أبعاده المختلفة، وعلى حسب اهتمام واختصاص مراكز البحث والدراسة . فوجود المراكز وانتشارها يعد مؤشراً للمنجزات الحضارية والنهضوية والثقافية، وعنواناً للتنمية ورسم السياسات، وأحد مؤشرات التنمية ودراسة القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع، وبلورة رؤى ومقترحات علمية متعلقة بها، بما يؤدي إلى إيجاد الحلول المناسبة لها، ولا نبالغ إن قلنا بأن وجود المراكز البحثية أصبح له دور أساسي في نهوض الأمم وتقدم الشعوب نحو تحقيق أهدافها، بما يدعم عمليات صنع القرار ورسم السياسات وتحقيق الاستراتيجيات ، فهي مراكز ليست فقط لتجميع المعلومات؛ ولكنها مراكز لإنتاج وصناعة الأفكار؛ فالأفكار عندما تُصنع لا يتم الوقوف عند صُنعها، وإنما نقلها إلى المجتمع من ناحية، ولصانع القرار السياسي من ناحية أخرى؛ كي يصل إلى المسئولين وأصحاب القرار لتبنى عليها قرارات وسياسات . وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال تؤدي مراكز البحوث دوراً أساسياً في مجال اتخاذ القرار، "بل يذهب البعض إلى القول بان بعض هذه المراكز تشكل خطوطاً خلفية للبيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية" ، المراكز ذات دور رائد ومتقدم في قيادة السياسات العالمية حتى أصبحت جزءاً من المشهد السياسي التنموي في العديد من البلدان المتقدمة، وأحد المشاركين في وضع الحلول وطرح البدائل والخيارات، بما يدعم صنع القرار ورسم السياسات. غير أن الدور الذي اضطلعت به المراكز البحثية في الوطن العربي وفي فلسطين مختلف عما هو عليه في دول الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بسبب المعيقات والمصاعب التي تواجهها، ولأنها لم تتبوأ مكانها الحقيقي، ولم تمارس دورها الحيوي في المشاركة في صنع القرار، وبدا دور معظمها غير فاعل في عملية التنمية بكافة أبعادها، وليس بسبب عجزها عن أداء هذا الدور، بل بسبب المعوقات الكثيرة التي تحيط بها، وعدم تكليفها بهذه المهام بحكم طبيعة الحياة السياسية العربية، وطبيعة نُظم الحكم، الذي يتصف بالمركزية والشمولية، والبيروقراطية في الأغلب منها، إضافة إلى بعدها عن العمل المؤسسي المعمول به في العديد من الدول الغربية . وبالنسبة للحالة الفلسطينية الخاصة حيث تعاني من التشرذم والمصادرة والاعتقال والإغلاق والحصار والاجتياح الإسرائيلي المتواصل، وعدم توفر الدعم للصمود والعمل المؤسسي؛ كلها عوامل ساهمت في تراجع الدور المنوط في مراكز البحث في فلسطين.