د.أكرم كساب – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
الحلقة الأولى
الاستبداد من أكبر حماقات الحكام
من أكبر البلايا التي تبتلى بها الشعوب والأمم: تسلط الحكام، حيث يغدو الحاكم وكأنه من غير جنس الرعية، ويزداد الأمر سوءاً حين يعطي الحاكم نفسه بعض خصائص الرب الإله، فهو إذا أمر أو نهى، وإذا حاكم أو عاقب، وإذا نفذ أو خطط، فلا يريد أن يكون أحد معقب لحكمه، ولا مخالف لرأيه، ولا راد لأمره. والحق كما يقول محمد الغزالي: إن التجمعات البشرية السوية فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم، أما البيئات المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد؛ إن ساغ هذا التعبير. ((الفساد السياسي/ ص 53)).
وحين يعبر عن الاستبداد بأنه من أعظم البلايا فلأنه -كما قال الكواكبي-: وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي… ((طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد/ ص 44.
وظاهرة الاستبداد هذه ظاهرة مقيتة، وليس هناك من دين حاربها كما حاربها الإسلام، ويمكن القول بأن (الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما المراسيم والاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية)…(( الإسلام والاستبداد السياسي/ محمد الغزالي / ص 19)).
ويجيب الكواكبي من يسأل عن سرّ ابتلاء الله الناس بداء الاستبداد فيقول: إنَّ الله عادلٌ مطلقٌ لا يظلم أحداً، فلا يُولَّى المستبدّ إلا على المستبدِّين. ولو نظر السّائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كُلَّ فرد من أُسراء الاستبداد مُستبدّاً في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كُلَّهم، حتَّى وربَّه الذي خلقَهُ تابعين لرأيه وأمره. ((طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد/ عبد الرحمن الكواكبي/ ص 44)).
ومن ثم فإن محاولة إلصاق الاستبداد الحاصل في بعض فترات التاريخ الإسلامي إلى تعاليم الشرع هي محض افتراء وتشويه لتعاليم الإسلام الحنيف، ذلك أن الاستبداد – كما قال الغزالي-: ليس مرده إلى أن الإسلام تنقصه عناصر معينة فأصيب معتنقوه بضعف في كيانهم كما يصاب المحرومون من بعض الأطعمة بلين في عظامهم أو فقر في دمائهم. كلا .. ففي تعاليم الإسلام وفاء بحاجات الأمة كلها وضمان مطمئن لما تشتهي وفوق ما تشتهي من حريات وحقوق، إنما بطشت مخالب الاستبداد ببلادنا وصبغت وجوهنا بالسواد لأن الإسلام خولف عن تعمد وإصرار… وقامت في بلاد الإسلام حكام تسري في دمائهم جراثيم الإلحاد والفسوق والمنكرات فخرجوا سافرين عن أخلاقه وحدوده..(( الإسلام والاستبداد السياسي/ الغزالي / ص 34)).
ولهذا لم يكن الكواكبي مبالغا حين وصف الاستبداد بأنه: أعظم بلاء، يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتَّى يتوبوا توبة الأنفة.
الفارق بين مستبدي الشرق ومستبدي الغرب:
لا شك أن الاستبداد ليس قاصرا على أمة بعينها، بل هو صفة يوصف بها كل من انفرد برأيه، وطغى في حكمه، ومن ثم فقد عرف التاريخ في القديم وفي الحديث مستبدين كثر، لم يكن المكان أو الدين هو الدافع لاستبدادهم.
وإذا كان العرب ابتلوا في الآونة الأخيرة بطغاة مستبدين -من أمثال مبارك وزين العابدين والقذافي وبشار وعلي صالح… وغيرهم كثير ما زالوا في سدة الحكم- فإن الغرب عايش هو الآخر مستبدين كثر؛ من أمثال: ستالين وهتلر وموسوليني وتشاوشيسكو وماو تسي تونغ…. فهؤلاء أذاقوا قومهم العذاب صنوفا وأشكالا، ومارسوا من الاستبداد قمعا وتنكيلا وتضييقا وتهجيرا وقتلا، وفعلوا مثلما فعل حكام العرب وربما زادوا.
لكن فارقا جوهريا بين مستبدي العرب وغيرهم؛ وهو أن مستبدي العرب جمعوا مع الاستبداد إفسادا وإجراما، فهم لصوص مهرة، ومجرمون فجرة، فليتهم حين سكتت شعوبهم على الاستبداد رضوا بذلك، لكنهم جمعوا مع استعباد العباد إفساد البلاد بنهب خيراتها، وسرقة أموالها.
بل من مستبدي الغرب من تقدم بأمته سياسيا واقتصاديا، فستالين جعل الاتحاد السوفيتي في فترة من الزمن إحدى القوتين العظميين، والزعيم الصيني ماو تسي تونغ جعل من الصين قوة تهاب وتحترم في كل المجالات.
أما مستبدو العرب فأفسدوا الناحية السياسية، ودمروا الحياة الاقتصادية، وخربوا الأوضاع الاجتماعية…. ولم يتركوا منحى من مناحي الحياة إلا وأصابوه بالعقم والفساد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
الاستبداد صفة ملازمة للحكام إلا من رحم ربك وقليل ما هم:
إن الاستبداد صفة تكاد تكون ملازمة للأمراء، وسمة أكيدة للحكام على مرّ العصور وكرّ الدهور، وفي مختلف البلدان، ومهما اختلفت المعتقدات والأديان. ووجود الحاكم الرشيد أو المدينة الفاضلة لا ينفي ذلك، لأن عدم وجود الاستبداد يكاد يكون حالة استثنائية.
والقارئ للتاريخ –كل التاريخ- يدرك أن الاستبداد في الحكم عائد لا محالة بالويلات والثبور على الأمم التي تبتلى بحكام لا يرون إلا أنفسهم، ولا يؤمنون إلا بعقولهم، ولا يعترفون إلا بذواتهم، كما قال فرعون لقومه:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(غافر: 29)؛ هكذا قال فرعون، ومعنى ذلك: (إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا، وأعتقده نافعا. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!) ((في ظلال القرآن/ سيد قطب (5/ 3080)).
ولا تقف عاقبة الاستبداد وويلاته عند جيل واحد؛ بل ربما تجاوز هذا الاستبداد أجيالا متعاقبة، فهو –أي الاستبداد- شر مستطير، وزلزال مدمر، وإعصار شامل، يعصف بالمجتمع ولا يترك شيئا في محله، وما وجد الاستبداد إلا ورفع العلم وكان الجهل، واختفت الفضيلة وبرزت الرذيلة، وضاعت القيم وحلّت المنكرات. وهو كما قال الكواكبي: وباء دائم بالفتن، وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي.
يتبع….