دعونا نحلمُ، ونتخيّلُ منطقتنا العربية بدون داعش، والقاعدة، والتكفيريين، هل ستصبحُ دولنا وشعوبنا أكثرَ أمناً واستقراراً، و لنبدأ مع افتراض هزيمة داعش والقاعدة في العراق وسوريا؛ هل سُيسمح لعالمنا العربي أنْ يعيشَ بهدوء بعيداً عن صناعة وإنتاج التطرف .
يعتقد الكثيرون أنَّ تدمير داعش مثلاً سينقلُ المنطقة إلى مرحلةٍ جديدةٍ، وسيجعلُ المنطقة والعالم يتفرَّغ لحلّ الأزمة السورية، والتخفيف من حدّة التوترات الطائفية في العراق، والانتقال إلى مرحلة البناء والتنمية .
كثيراً ما يطلب منّي الحديث عن مرحلة ما بعد داعش، وتقديم تفسير ورؤية استشرافيّة لما سيحدث، وكأن مستقبل المنطقة ومصيرها وما يحاكُ ضدّها تقرّرهُ القاعدة وداعش وأخواتها، أو أنّ مقاليدَ الحلّ والعقد بيد شعوب العالم العربي وحكوماته .
الصحيحُ أنَّ العالم العربي مرَّ، وسيمرّ بسنواتٍ عِجافٍ، وإن أردنا أنْ نكونَ أكثر دقّةً وتحديداً، فإنَّ المخطط لتفتيت المنطقة وإضعافها قد بدأ منذُ احتلال فلسطين، لكنه ازدادَ على مقياس متعدّد الدرجات بعدَ سقوط “العراق” الذي كانَ يمثّل جدارَ برلين العربي…..
اختلفت الآية الآن نتيجة التحول بعدَ أنْ صار العراقُ أحد مهددات الأمن القومي العربي بفعل التدخلات الإيرانية التي جعلتْ منه مجالاً حيوياً للانقضاض على العالم العربي، وجعلتْ منه مثالاً للدولة الطائفية المتطرفة والفاشلة بكلِّ المقاييس على خلاف تاريخه وتراثه السياسي العريق .
ما الذي حدثَ ويحدثُ ؟ لا شكَّ بأنَّ احتلالَ العراق قد مثّل نقطة ومفتاح التحوّل والتغيير، حيثُ رُسم للعراق أن يكون أحد أذرع وأدوات إيران والغرب لإغراق المنطقة بالفوضى والصراعات لعقودٍ قادمةٍ، ولم يكن هناك أيّ هدف ومشروع ليكونَ العراقُ واحةَ الديمقراطية التي بشَّر بها (بوش الابن) و(بلير)، كما كانَ يزعمُ الغرب ، بل أريد له أن يكون قاعدة إيرانية متقدّمة لتدمير المنطقة والعبثِ بأمنها ؛ عن طريق بثّ العقائد وإنتاج الأيديولوجيات المتطرفة كفعل وردّ فعل، بعد أنْ وفّرت إيران ممرّاً أمناً لانتقال القاعدة ودعمها بالمال والسلاح، وهو ما حدثَ بالفعل بعد أحداث / 11/ سبتمبر تحتَ سمع وعين أجهزة الاستخبارات الغربية والإقليمية .
وكمثلٍ واقعي؛ فمنذُ العام 2003م، وهي سنةُ احتلال العراق تصاعدت وتيرة الإرهاب الإيراني لتصلَ إلى أكثر من مئات عمليات التدخل ما بين إنشاء خلايا نائمة، وعمليات إرهاب وعنف رسمي أتهمت به إيران، حيثُ كانت موجهةً للعالم العربي على وجه التحديد، و للأسف الشديد لم يقابل السلوك العدوانيّ الرسميّ الإيراني تجاه العالم العربي إلا ما بين التنديد والاستنكار من جانب المجتمع الدولي، وإلى سياسة تقديم الوعظ وتوجيه النصائح، تلك السياسات العدوانية الإيرانية، كانت تهدفُ أولاً ليكونَ السنة في العراق هم كبش الفداء بعد أن تحولت بلاد الرافدين إلى محرقة .
بالمقابل هذا السلوك الإيراني دفعَ شعوبَ العالم العربي للاستنجاد بكلّ ما هو ممانع “سني” غير رسمي للدفاع عنهم بعد الفشل الرسمي العربي في إيجاد مقاربة واضحة لوقف العدوان الإيراني الصريح، وكأنَّ الحكومات والأنظمة العربي قد وظّفت البعبع الإيراني فقطْ لخلق جبهة شعبوية ملتفة معها من “الغول الشيعي المتأهب” دون أن يحركوا ساكناً إزاء ذلك، وباتت الكثير من الحكومات العربية والغربية تسهمُ في توظيف عملية تأجيج هذه المشاعر التي تزايدت وتيرتها كثيراً ونقلته إلى الإعلام لخلق رأي عام أسهم في رفع مستوى الكراهية والتحريض لإيران وشيعة المنطقة .
ما عزّز ذلك ما قام به حكام العراق وسوريا من الدفع باتجاه هروب آلاف من عتاة المجرمين من السجون ؛ كسجن (أبو غريب)، والسجون السورية ضمن عملية مدروسة وبمباركة إيرانية وأميركية عنوانها ” إنتاج فيلم تنظيم داعش المرعب ” ، ومن المؤكد أنهم هم من غضّ الطرف عن احتلال داعش لمدينة الموصل والرقة ودير الزور….. معتقدين أنهم سيتمكنون من إبادة المعارضة وأهل السنة من خلفهم تحت غطاء الحرب على داعش، وبالمقابل إعادة صناعة التطرف بنسخته الجديدة .
لا شكَّ بأنَّ صناعة التطرف الحديث تمّت بصورة محترفة، و في تصوري أن هندسته تمت بتخطيط وتدبير غربي، وتعهّد وتنفيذ إيراني .
ويكمنُ السببُ الأهم في الفكرة القائلة أنَّ نفسَ الدولة الإيرانية قد وظفت مصطلح “محاربة التطرف والتكفيريين ” بشكل منهجي ومنتظم، ككبش فداء وأداة لتبرير تدخلها في الخارج والداخل على حدٍّ سواء؛ فعلى الصعيد المحلي دأبت إلى شنّ حملات دموية على ما أصطلح على تسميته بالمتآمرين والخونة، وأدوات أميركا وإسرائيل، ما أعطى للدولة والثورة أرضية ذرائعية للقضاء على الأقلية السنية على وجه التحديد، وهو ما لم توظفه الدولة العربية كوسيلة للعبور والتسلل إلى الداخل الإيراني، ومحاولة الاستفادة من هذه الورقة المهمة، كما تفعل هي مع الدول العربية؛ لأسباب غير معروفة لغاية الآن، وتعتبر هذه الإستراتيجية من أنجح الأفكار لمواجهة إيران وإضعافها.
من خلال هذا المنظور، فإنّ فكرة خلق عدوٍّ متطرّف دائم أسهمَ في عسكرة المجتمع والدولة الإيرانية، و أدى إلى تعزيز طموحات الهيمنة الإقليمية، من خلال تعظيم نفوذها وقدراتها الذي يعطي الحصانة لولي الفقيه من أجل ارتكاب أي أعمال لـ”الدفاع عن النفس” أو ما أصطلح على تسميته بالدفاع الردعي “، وحصد أكبر عدد ممكن من أرواح البشر” السنة” كما رأينا ما تقوم به إيران في سوريا والعراق .
كذلك لا بدّ من الاهتمام بالتغييرات التي ستتم على هيكلة الجيش الإيراني وإدخال ما اصطلح وزير الدفاع الإيراني الجديد العميد أمير حاتمي على تسميته بمعيار التدين، ليسلط الضوء على إعادة النظر في مجمل التجنيد العسكري، هذه المرة لن يكون التركيز على مجرد اختيار العناصر ، بل لا بدّ من التركيز على أسس جديدة ، وهذا السبب يحتاج إلى تمحيص، لكن الاهتمام هنا سيركز على هذا الاختيار من زاوية درجة المعتقدات المذهبية ، والتي لها انعكاسات سياسية خاصة بالثورة الإيرانية . فطبيعة التيار الديني الشيعي أساسه التشدد السياسي والإيمان بالثورة وبولاية الفقيه .
لا شك بأن صعود الشخصيات الدينية إلى المواقع العسكرية والأمنية يجعل من الضرورة بمكان الاهتمام بهذا التعيين لمعرفة طبيعة التداعيات السياسية لهذا الاختيار، في ظل التزايد الملحوظ في الحضور الواسع من الرتب العسكرية العليا في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإيرانية، والذي لا يمكن التغافل عنه، والذين يتبنون أطروحات سياسية ومذهبية متطرفة هدفها تطبيق الأجندة السياسية الإيرانية، وهو ما سنبحثه بشكل مفصل بمقالات قادمة .
هذهِ المعطياتُ تطرحُ تساؤلات خطيرة حول مستقبل المنطقة في ظلّ صناعة ِ التطرف من هذا الطراز والذي باتت ترعاه دول ومؤسسات رسمية بعينها، وما هو مستقبل المنطقة العربية على ضوء ما يجري ؟