ورقة تحليلية
"شهر آب أغسطس المقبل سيكون بدايةً لتطبيق مرحلة الحكم الانتقالي في سورية ودستور جديد يتفق عليه السوريون"، تصريح أدلى به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لم يكن مجرد تصريح عابر أو ذلة لسان، فالاتفاق الروسي- الأمريكي حول الملف السوري يزداد توطداً يوماً بعد الآخر، تظهر معه ملامح هذا الاتفاق بشكل أوضح كلما اقتربنا من موعد انتهاء ولاية أوباما الذي يسعى لتحقيق نصر سياسي آخر، بعد نصر الاتفاق النووي مع إيران، يسعى من خلاله لدعم مرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية خلال الأسابيع القليلة القادمة.
هذا التصريح حول الحكم الانتقالي والدستور الجديد لم يعد مجرد تصريح بعد أن رمت روسيا بهذه الورقة إلى العلن من خلال ما يُسمى نشر مسودة دستور أعدته روسيا بالتشاور مع أمريكا لسورية الجديدة، والتي نقلته صحيفة الديار اللبنانية المقربة من النظام السوري.
وسأستعرض بشكلٍ سريع بعض أهم البنود التي تضمنتها المسودة الجديدة، ومنها:
- في المادة الأولى ترد عبارة «الجمهورية السورية» بعد شطب «العربية».
- إسقاط المادة الثالثة من الدستور الحالي، وهي أنّ «دين رئيس الجمهورية الإسلام»، وأن «الفقه الاسلامي مصدر رئيسي للتشريع».
- مادة جديدة مفادها أنّه «تستخدم أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته اللغتين العربية والكردية كلغتين متساويتين».
- إنشاء ما يُسمى «جمعية المناطق»، وهي «الادارات المحلية» في شكلها الحالي بصلاحيات موسعة تقيّد مركزية السلطات.
- أعطى المشروع الروسي صلاحيات إضافية لـ«مجلس الشعب» مثل تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا (من صلاحيات الرئيس في الدستور الحالي)، وتعيين رئيس «البنك الوطني» (تغيير اسم «البنك المركزي») وإقالته من المنصب.
- الشرط للترشح لرئاسة الجمهورية أن يكون المرشح قد أتم الأربعين عاماً من عمره وأن يكون متمتعاً بالجنسية السورية.
- الرئيس يتولى «مهمة الوساطة بين سلطات الدولة وبين «الدولة والمجتمع».
- صلاحيات أوسع لمجلس الوزراء
-تغيير القَسَم ليكون: «أقسم أن ألتزم بدستور البلاد وقوانينها ........». أما القسم الحالي، فهو: «أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري.........».
- منظمات دينية واجتماعية: يظهر في المشروع الروسي مصطلح «المنظمة الدينية». إذ تفيد إحدى المواد أنه تحترم «كافة الأديان والمنظمات الدينية... وهذه المنظمات متساوية أمام القانون».
ومن خلال نظرة تحليلية سريعة كذلك لأهم ما ورد في المسودة نجد ما يلي:
1- إسقاط صفة الهوية العربية لسورية من خلال إلغاء كلمة "العربية" في تسمية اسم الجمهورية، وهذا يعني الاعتراف رسمياً بأحقية جميع الأقليات القومية بالمساواة مع الأكثرية العربية الساحقة في سورية الجديدة.
2- اسقاط هوية سورية الإسلامية وذلك بإلغاء المادة الثالثة من الدستور الحالي التي تقول "إن دين الدولة هو الإسلام، وإن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع"، وهذا يعني أن تكون سورية الجديدة بدون أي هوية إسلامية، وبالتالي الاعتراف بكل الأقليات الدينية كفئات متساوية مع الأكثرية الإسلامية، وما يترتب على ذلك من إضعاف الهوية الإسلامية للبلاد على المدى القريب.
3- الاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية في الدولة إلى جانب اللغة العربية، على الرغم من قلة نسبة الأكراد بالمقارنة مع العرب، وهذا يعني كذلك المساواة في الكثير من الأمور السياسية والاقتصادية والجغرافية، وبالتالي الوصول إلى ما كانت تطرحه روسيا ذاتها بفدرلة سورية، وتحويلها إلى مناطق حكم ذاتي، مشتتة ومقسمة ومتنازعة.
4- يعزز ذلك اعتماد اللامركزية كأساس لنظام الحكم، وإعطاء صلاحيات واسعة لجمعيات المناطق.
5- كذلك إلغاء صيغة مجلس الشعب، واستبدالها بصيغة "جمعية الشعب" وهو أمر غير مسبوق، حيث يتم تحويل برلمان سورية إلى جمعية كسائر الجمعيات الأخرى، وذلك على حساب تقوية جمعيات المناطق، وهو تعزيز إضافي لتقسيم سورية تدريجياً.
6- تعيين مناصب نواب رئيس الوزراء والوزراء، يجب أن يكون متوافقاً مع التمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية لسكان سورية، وتُحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية، وهو تعزيز إضافي وتكريس للمحاصصة الطائفية.
هذا غيضٌ من فيض يمتلأ به هذا المشروع التقسيمي الجديد لسورية، من خلال قوننة هذا التقسيم في هذا الدستور اللاسوري "الروسي-الأمريكي" وربما الإيراني كذلك، تقديراً لجهودها في تدمير سورية أرضاً وشعباً وتهيأتها الظروف المناسبة لتمرير مشروع التقسيم هذا.
ويُمكن القول أنّ مسودة الدستور الجديد هذه ما هي إلا:
1- إلغاء العروبة والإسلام بالقانون.
2- تقسيم البلاد أرضاً وشعباً وحاضراً ومستقبلاً من خلال اعتماد رسمي للمحاصصة الطائفية والعرقية، وتجربة العراق لا تزال ماثلة أما أعيننا، وستبقى لعقود أخرى، وهو ما يعني "تشريع دولي للتفتيت".
إنّ ما يجري في جنيف من مفاوضات واجتماعات وتصريحات ما هو إلا تغطية إعلامية لما تم الاتفاق عليه أمريكياً وروسياً بالتعاون مع دول إقليمية في المنطقة، وأطراف داخلية كثيرة في سورية، لكنّ كل ذلك يبقى في مهب التطورات التي تحصل على الأرض السورية، والمنتصر في النهاية هو من سيفرض شروطه، والتاريخ علمنا أنّ أقوى الدول لا يمكن أن تقضي على شعب انتفض في وجه الظلم والاستبداد مهما طال الصراع، فكيف إذا كان هذا الشعب المنتفض عربياً إسلامياً.