على الرغم من تأكيد الإدارة الأمريكية على دعم الديمقراطيات الناشئة في العالم، وإنفاق الأموال الطائلة على برامج دعم الديمقراطية؛ إلا أنّ تاريخ الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة العربية حافل بالتدخل السافر لدعم الديكتاتوريات العسكرية وتعزيز النظم الانقلابية فيما يتعارض مع المثل والأخلاقيات التي يروّج لها الإعلام الأمريكي.
يعود تاريخ التدخل الأمريكي لدعم النظم الشمولية في الشرق إلى مرحلة تأسيس الجمهوريات العربية بعد الحرب العالمية الثانية، في شهر مارس عام 1949 تحديداً، عندما ألقت الاستخبارات المركزية الأمريكية بثقلها خلف أول انقلاب عسري في سورية لتفتح بذلك الباب على تدخل الجيش في الحكم من خلال سلسلة انقلابات وقعت في المنطقة العربية خلال فترة الخمسينيات.
ففي الساعة الثانية من صباح يوم 30 مارس 1949 ترك رتلان عسكريان مواقعهما في الجبهة السورية الفلسطينية ودخلا مدينة دمشق، حيث زحفت قوات الجيش إلى مدينة دمشق وقامت باحتلال الأماكن الاستراتيجية في العاصمة السورية ومن ثم اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وغيرهم من أقطاب الحكم المدني.
وكان من اللافت للانتباه وقوف الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى جانب قائد الانقلاب حسني الزعيم، الذي تمتع بدعم السفارة الأمريكية في القضاء على الحكم المدني، ويمكن الاطلاع على عدد من التقارير التي كتبها السفير الأمريكي في دمشق آنذاك كيلي تقارير، يؤكد فيها اتصال موظفي السفارة مع قائد الانقلاب واطلاعهم على تفاصيل العملية الانقلابية على الحكم المدني كاملةً.
وتشير وثائق الخارجية الأمريكية أنّ البعثة العسكرية الأمريكية قد عقدت اجتماعاً مع حسني الزعيم في 7 مارس 1949؛ عرض فيه الزعيم خطته لإحكام السيطرة على البلاد، وأعقبها محادثات الموسّعة بين مدبر الانقلاب حسني الزعيم ومساعد الملحق العسكري الأمريكي الميجور ميد، الذي عمل جاهداً على إنجاح الانقلاب وضمان الاعتراف به بالتنسيق مع لندن وباريس، فبعد خمسة أيام فقط من الانقلاب تحدث السفير الأمريكي في تقرير مفصل عن قيام الزعيم بالاستيلاء على السلطة بطريقة مخالفة للدستور، وتولى جميع السلطات عقب احتجاز رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وحل البرلمان ليجد نفسه في وضع غير قانوني، لكنه أكد أنه لا يرى بُداً من حثِّ الإدارة الأمريكية على الاعتراف بسلطة الزعيم معلقاً: “إنني شخصياً لا أحبذ استعمال القوة لأنها تعدُّ انتهاكاً للأعراف الديمقراطية… ولكن يبدو أنّ سياستنا في الاعتراف بالحكومات الجديدة مخالف لوجهة نظري، فلا بد من الاعتراف بأنّ المصالح الأمريكية قد تضرّرت من تسرع الزعيم إذا تأخر اعترافنا به عن القوى الأخرى، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار ما أبداه من حرص على إخبارنا مسبقاً عن نواياه وأهدافه”.
وتشير الوثائق الأمريكية إلى قيام تنسيق مباشر بين الإدارة الأمريكية وبين الخارجية البريطانية والفرنسية، حيث تمّ الاتفاق بين الأطراف الثلاثة على توجيه الزعيم للقيام بانتخابات حرة، وأن يتمّ تشكيل حكومة مدنية تُمهّد لتحقيق الاعتراف الدولي بحكمه الجديد. وعلى إثر ذلك سارع الزعيم إلى إجراء انتخابات رئاسية في السادس والعشرين من شهر أبريل، وفاز فيها بمنصب الرئاسة بنسبة تزيد عن 99 %، وتحتفظ وثائق الأمريكية الخارجية الأمريكية بخطاب موجّه من وزير الخارجية الأمريكي دين آتشيسون إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتاريخ 25 أبريل 1949 (أي قبل الانتخابات بيوم واحد!)، يشير فيها الوزير إلى أنه تم الاتفاق مع كل من ممثلي بريطانيا وفرنسا على الاعتراف بنظام الزعيم فور ظهور نتائج الانتخابات.. من جهته بادر الزعيم إلى التعبير عن امتنانه لهذا الدعم الغربي؛ حيث عرض على كيري في مطلع شهر يونيو استعداده لمقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون، بهدف الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
إن النتيجة التي يمكن استخلاصها من خلال وثائق الخارجية الأمريكية، هي أن مندوبي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانوا يبذلون قصارى جهدهم لدعم انقلاب عسكري للقضاء الحكم المدني، وقمع الحريات العامة في ازدواجية سياسية منقطعة النظر، وكان من الواضح أنّ الإدارة الأمريكية كانت مستعدة لمخالفة سائر الأعراف الدولية، والتدخل المباشر في قلب نظام الحكم الديمقراطي بهدف فرض احترام مصالحها بقوة السلاح، ففي غضون فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز الشهرين كان الزعيم قد أبرم اتفاقية تمديد الأنابيب مع شركة نفط العراق، التي كانت تسعى بريطانيا لتحقيقها، وصادق على اتفاقيـة “تابلاين” التي تخــدم المصالح الأمريكيــة، وبادر إلى إقامة حوار مباشر مع اليهود؛ مِمّا أسفر عن توقيع هدنة كان من المفترض أن تمهد لإبرام معاهدة سلام مع تل أبيب لولا الانقلاب الذي وقع ضده من قبل اللواء سامي الحناوي ومجموعته في أغسطس 1949.
وعلى الرغم من النهاية الدموية لحكم الزعيم وما تبعها من سلسلة انقلابات عسكرية عصفت بأمن المنطقة واستقرارها؛ إلا أن الوثائق الأمريكية تؤكد وقوف جهاز الاستخبارات المركزية (CIA) خلف العديد من الانقلابات العسكرية ضد الحكم المدني في المنطقة العربية، ففي 13 أغسطس 1957 أعلنت إذاعة دمشق عن اكتشاف مؤامرة تدبرها الاستخبارات الأمريكية للإطاحة بالحكم في سورية واستبداله بحكم موالٍ للغرب، وتمّ على إثرها طرد البعثة الدبلوماسية الأمريكية من دمشق، وسرعان ما تكشفت تفاصيل تلك العملية التي تحدث عنها الضابط العلوي محمد معروف في مذكراته وكشف فيها عن معلومات مثيرة حول الدور الذي قام به مع رفيقه غسان جديد للإطاحة بالحكم المدني عبر تجنيد العلويين من قضائي طرطوس وجبلة ممن خدموا سابقاً في جيش الشرق الفرنسي، ووفقاً لمعروف فقد كانت الخطة تتلخص في أن: “بعض العشائر العلوية ستتحرك لمؤازرتنا في محافظة اللاذقية (عشيرة النميلاتية والمتاورة) عند بداية الحركة، لا سيما عشيرة سليمان المرشد بزعامة ولديه ساجي وفاتح ” .
وفي حين تعرض إيفلاند في كتابه: “حبال من رمل” باقتضاب للحديث عن دور الاستخبارات الأمريكية في التخطيط لهذا الانقلاب، فإنّ الوثائق الأمريكية تقدّم معلومات أكثر أهمية مِمّا ذكره إيفلاند عن دور جهاز الاستخبارات المركزية فيما أسمته -آنذاك: “عملية الانتشار”، حيث تشير مراسلات الخارجية إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا على قناعة تامة بضرورة الإطاحة بالحكم المدني في سورية، وقامت الحكومة البريطانية بالتنسيق مع الأخوين جون دالاس وزير الخارجية الأميركي وآلن دالاس رئيس جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية لوضع خطة تهدف إلى قلب نظام الحكم في دمشق، حيث تكفلت الاستخبارات الأمريكية بتمويل هذه العملية وأرسلت شحنة من الأسلحة التي تم شحنها عن طريق القاعدة البريطانية بالحبانية. وكان من المخطط أن يقوم محمد معروف بإعلان التمرد في اللاذقية، وأن يقوم حسن الأطرش بدعم الحركة الانقلابية في السويداء، بينما تتحرك قطعات مؤيدة للحزب القومي السوري لفرض الأمن في دمشق، والزحف نحو حاميات حمص وحماة وحلب للسيطرة عليها. وتم الاتفاق على تنفيذ الانقلاب أثناء رحلة القوتلي إلى موسكو، التي كانت مقررة في 31 أكتوبر 1956، ولكن العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر دفع غسان جديد لتأجيل موعد الانقلاب إلى ما بعد 1 نوفمبر بسبب الظروف الحرجة، ولكن الفرصة كانت قد فاتت بسبب اكتشاف الاستخبارات السورية المخطط في 3 نوفمبر.
ويمكن طرح أمثلة عدّة على التدخل الغربي السّافر في الشأن الداخلي للدول العربية، وضلوع أجهزة الاستخبارات الغربية في قلب نظم الحكم المدني، وفرض ديكتاتوريات عسكرية لا تتوانى عن سفك الدماء وقمع الحريات وإلغاء مؤسسات الحكم المدني في سبيل تحقيق المصالح الغربية في المنطقة.
وتعيد المواقف الغربية المعاصرة إلى الذاكرة أساليب الاستخبارات في الارتكاز على معايير أخلاقية لدعم أجندات سياسية قذرة، لا تكترث بانتهاك الحقوق الأساسية للشعوب ولا تتوانى عن دعم نظم الحكم الشمولي في سبيل تحقيق مصالحها؛ ففي تكرار لأخطاء الدبلوماسية الأمريكية والازدواجية في معاييرها السياسية والأخلاقية، أعاد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب صياغة الاستراتيجية الأمريكية من منظور أخلاقي، يرتكز على “دعم الديمقراطية” في الشرق الأوسط، بوصفها أحد أهم ركائز الأمن القومي للولايات المتحدة، وذلك في خطاب له عام 2003 قال فيه: “منذ ستين عاماً والدول الغربية، تغض الطرف عن غياب الحريات في الشرق الأوسط، ولكن هذا التغاضي لم يجلب لنا الأمن، لأنه لا يمكن تحقيق الاستقرار على حساب الحرية، وسيكون من غير المقبول بعد الآن القبول بالوضع الحالي في المنطقة”، وسرعان ما أفصحت الإدارة الأمريكية عن رؤيتها لملامح المنطقة في المرحلة المقبلة، فدعت في مطلع 2004 إلى إحداث متغيرات جذرية في بنية الأنظمة العربية وسياساتها الداخلية، لكن المبررات الأخلاقية كانت تخفي في طياتها مشاريع مدروسة لتغيير البنية الجيو-سياسية للشرق الأوسط في مطلع الألفية الثالثة.
وعلى الرغم من المتغيرات التي طرأت على المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، إلا أن العنصر الثابت في السياسة الخارجية الأمريكية قد تمثل في إصرار واشنطن على التدخل القسري في الشؤون الداخلية للدول العربية، والعمل على فرض متغيرات في نظم الحكم العربية فيما يخدم الأمن القومي الأمريكي، دون النظر إلى مصالح دول المنطقة وشعوبها؛ ففي غضون السنوات العشر الماضية شنت مراكز البحث المقربة من الإدارة الأمريكية حملة تهدف إلى تقديم أطروحات لإعادة رسم خريطة المنطقة العربية وإمكانية استعمال القوة العسكرية لتحقيق ذلك؛ منها دراسة الخبير الاستراتيجي بمؤسسة “راند” لوران موريس التي قدمها إلى وزارة الدفاع الأمريكية في شهر يونيو 2002 داعياً إلى تبني حلول عسكرية متشددة إذا فشلت جهود الإصلاح في المنطقة العربية.
تزامن ذلك الطرح المتطرف مع نشر تقرير تقدم به مؤسس معهد “هدسون” للدراسات الاستراتيجية ماكس سنجر لوزارة الدفاع الأمريكية (أغسطس 2002) يتلخص في الدعوة إلى إسقاط الأنظمة الملكية في الخليج العربي ودعم المعارضة في الخارج لإنشاء جمهورية مستقلة في شرقي شبه الجزيرة العربية، وذكر المتحدث باسم البنتاغون مايكل هوم أن سنجر قد اجتمع بأندرو مارشال، وهو أحد المقربين من وزير الدفاع الأمريكي الأسبق؛ ودار الحديث بينهما حول إمكانية إنشاء كيان جديد على أسس طائفية في الخليج العربي.
وفي الفترة التي ظهرت فيها التقارير الداعية إلى إعادة رسم الخارطة العربية عام 2002؛ كانت الإدارة الأمريكية منهمكة في إعداد خططها لغزو العراق الذي تأسس فيه منذ عام 2003 نظام سياسي يقوم على محاصصة إثنية- طائفية شبه رسمية، وأصبح الانقسام العرقي والطائفي في المحافظات العراقية أمراً لا يمكن تجاهله على أرض الواقع.
ومنذ ذلك الحين بدأت تتضح ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط، التي ارتكزت على دعامتي: “دعم الديمقراطية” و”تمكين الأقليات”؛ ففي شهر مارس 2003 نشر الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ليسلي غليب مقالاً بعنوان: “العراق، حل الدول الثلاث”، دعا فيه إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول على أساس عرقي وطائفي، وقد تبنت لجنة بيكر هذا المقترح الذي أيده أبرز أعضاء المجلس، ودعا غليب في مقاله إلى إنشاء دولة جديدة على أسس مذهبية في الخليج العربي بعد إنجاز مشروع تقسيم العراق.
وفي شهر أبريل 2006؛ نشر معهد “غلوبال ريسيرتش” الكندي مقالاً لغاري هلبرت تحدث فيه عن وجود مخططات أمريكية لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس إثنية وطائفية، وأكدت الدراسة أنّ نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني ونائب وزير الدفاع الأسبق بول ولفويتز كانا من أبرز المؤيدين لفكرة التقسيم، مثل مانشر المعهد تقريراً آخر في شهر نوفمبر من العام نفسه؛ تحدث الكاتب فيه عن إمكانية أن تشهد المرحلة المقبلة بذل جهود استخباراتية لتشجيع الأقليات في المنطقة للمطالبة بكيانات سياسية مستقلة.
وتزامن صدور هذا المقال المثير للجدل مع قيام مركز “ستراتفور” للدراسات الجيوسياسية بنشر تقرير يشير إلى اعتزام الإدارة الأمريكية تقسيم العراق إلى ثلاث دول؛ بحيث يكون القسم الأول وسط العراق وعاصمته بغداد، والقسم الثاني في إقليم “كردستان العراق” الذي يمكن أن يتحول إلى دولة تتمتع بحكم ذاتي، أما القسم الثالث فيقع جنوب العراق وعاصمته البصرة ويقوم على أسس مذهبية بحتة، وورد الحديث عن إمكانية أن يضم القسم الثالث أجزاء من الخليج العربي، وأكد التقرير أن هذه المقترحات قد طرحت للنقاش في لندن مع بعض الساسة العراقيين في شهر يوليو 2005.
وتظهر الأمثلة السابقة نماذج للتفاعل بين الحكومات الغربية ومراكز البحث التابعة لها، حول سبل إعادة رسم الخارطة العربية فيما يوافق مع مصالحها دون أي مراعاة لشعوب المنطقة، إلا أنّ حالة الفوضى التي انتابت الجمهوريات العربية عام 2011 قد مثلت الفرصة السانحة للتدخل المباشر في قلب المعادلة الجيو- سياسية لصالح الأقليات على حساب الأغلبية، وإنشاء كانتونات طائفية تدين بالولاء للغرب، وذلك على النمط الذي أسسته فرنسا في الشرق العربي خلال الفترة 1920-1936، حيث تنامت ظاهرة الولع الغربي بخريطة المنطقة العربية؛ إذ بدأت تظهر رسومات جديدة وخرائط مستحدثة لإعادة تقسيم المنطقة وفق مصالح القوى الدولية المتنافسة، ومثّل المشهد الإنساني المروع للأزمة السورية فرصة لتناول الثورات العربية من منظور جديد؛ ففي محاضرة بمدرسة: “جيرالد فورد للسياسة العامة” طرح عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر فكرة تقسيم سورية على أسس اثنية وطائفية؛ قائلاً: “هنالك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معاً، ولكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض وهذه هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق”.
والحقيقة هي أن رؤية كيسنجر لحل الأزمة السورية عبر تقسيم الكيان الجمهوري على أسس إثنية ومذهبية لا تنبع من محض هواجس ذاتية لدى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق؛ بل تأتي ضمن مراجعات تجريها مراكز الفكر الغربية وبعض الجهات الرسمية، التي بدأت تدعو في مرحلة الثورات العربية إلى إعادة فرز القوى السياسية وفق معادلة تفتيتية تقوم على المحاصصة داخل إطار الدولة، حيث أشار الكاتب بصحيفة “نيويورك بوست” أرنولد ألرت إلى ظهور عوامل التحلل على خريطة المنطقة العربية بعد مرور نحو قرن، ساد فيه الحكم الاستعماري ثم العسكري الشمولي، ورأى ألرت أن الصورة الأنسب لضمان استقرار الكيان الجمهوري في سورية، تكمن في تأسيس نظام “ترويكا” تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين، مشدداً على ضرورة وضع المصالح الأمريكية على قمة الحسابات في ترتيبات المرحلة القادمة للبلاد.
وفي غضون السنوات الأربعة الماضية يمكن ملاحظة التوظيف الغربي لحزمة من المصطلحات الأخلاقية، من نحو تطبيق الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، بوصفها أوراق ضغط، يتمّ استعمالها في الأروقة الدبلوماسية دون أن يكون لذلك أي أثر يذكر على أرض الواقع، بل تُمْعِن النظم العسكرية والميلشيات الطائفية في ارتكاب أبشع الانتهاكات في حقوق المدنيين دون أن تتحرك القوى الغربية لوقفها.
وعلى الرغم من تكرار المواقف الغربية المتخاذلة إزاء معاناة الشعوب العربية منذ منتصف القرن الماضي؛ إلا أنّ المعضلة الأكبر تكمن في عجز النخب العربية عن التقدم بأطروحات ناضجة للتعامل مع ازدواجية المعايير الغربية، وتقاعسها عن صياغة حلول وطنية لمعالجة المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي، واستعادة الدولة ومؤسسات الإدارة والحكم.
وفي ظل غياب الدراسات العربية الجادة لمعالجة مشاكل الهوية السياسية في المنطقة العربية ومستقبل الكيانات الجمهورية؛ تنتج مراكز البحث الغربية دراسات تنطلق من تحقيق مصالح الدول التي تتبع لها، وقد تمثلت حالة الانتهازية الصارخة في مقال نشره معهد واشنطن للدبلوماسي الأمريكي دينيس روس في شهر سبتمبر الماضي حول ضرورة التعاون مع النظم الشمولية وتغليب المصلحة على المعايير الأخلاقية في موقف الإدارة الأمريكية تجاه صراعات المنطقة بقوله: “في النهاية، يشكل خط الصدع الجديد في الشرق الأوسط فرصة حقيقية للولايات المتحدة. صحيح أن واشنطن ستواجه تحديات وسيتوجب عليها إدارة الضغوطات ما بين قيمها ومصالحها، إلا أنه ليست هنالك استراتيجية خالية من المخاطر، ولا بدّ للولايات المتحدة من توحيد جهودها مع شركائها التقليديين في سبيل المضي قدماً “.