الباحث: ساشا العلو
بعد تدخلها العسكري في العام 2015 ، أدركت موسكو
جيدا المصالح الإقليمية المتضاربة في سورية والهواجس الأمنية لكل
دولة على حدا، خاصة الحدودية منها، كما استوعبت طبيعة العلاقة بين كل دولة وأذرعها المحليّة في الداخل السوري،
إضافة إلى المناخ السياس ي العام الذي حك م و
يحكم الملف السوري
دوليا، وخاصة الموقف الأمريكي " يسّر
الم " خلال حقبيي
أوباما وترامب، فكان أن بدأت موسكو بخطوات تكاد تكون متشابهة مع كل دولة من الدول الحدودية، واليي تمثلت ب:
1 . فهم الهواجس الأمنية لكل دولة وتعزيزها بشكل أكبر كمرحلة أولى، خاصة ما يتعلق منها بالأمن الإقليمي.
2 . ومن ثم طرح نفسها كضامن لتلك الهواجس كمرحلة ثانية، مقابل حصر دور كل دولة بحماية أمنها الإقليمي فقط،
والتنازل بشكل مباشر أو غير مباشر عن أذرعها المحليّ ة، إضافة للقبول بقوات النظام كحل وسط وبديل على
الحدود.
هذا ما حدث مع الأردن قبل وخلال وبعد معارك الجنوب )درعا، القنيطرة(، عبر تعزيز مخاوفه الأمنية والاقتصادية على
حدوده )داعش، معابر(، ومن ثم طرح حل لاستيعاب تلك المخاوف، من خلال فتح المعابر وعمليات عسكرية مشتركة ضد
داعش وإعادة انتشار النظام على الحدود، مقابل تخلي الأردن عن فصائل الجنوب وسيطرة النظام وقوات الشرطة
العسكرية الروسية على المدن والبلدات.
وهذا ما حدث
أيضا مع الكيان ا لإسرائيلي المتوجس من إيران وميلشياتها على حدوده، وما تلاه من تقديم الروس ي لنفسه
كضامن لتراجع الإيرانيين 100 كم، وفتح السماء السورية أمام ضربات الإسرائيليين لإيران في العمق السوري، مقابل
عودة قوات النظام إلى الحدود وانتشار الشرطة العسكرية الروسية في المنطقة.
هو ذاته
أيضا ما واجهت ه تركيا في العامين الأولى من التدخل الروس ي، حيث عمدت موسكو إلى تعزيز مخاوفها ا لأمنية
بداية
عبر دعمها ل " PYD " وذراعه العسكري " YPG " في عفرين ومحيطها، ومن ثم إنجاز صفقة تتضمن استيعاب تلك المخاوف،
واليي انتهت بتسليم عفرين لتركيا والتخلي عن وحدات الحماية، مقابل مكاسب أستانية أكبر، ليستمر السيناريو اليوم في
شرق الفرات، والذي يستند إلى استثمار الموقف الأمريكي الزاهد وتشتت الموقف الناتوي واستغلال مخاوف تركيا الأمنية،
وإنجاز صفقات على حساب الأذرع المحلية ومشاريعها، وبالتالي مكاسب مجانية لموسكو والنظام.
2
مركز عمران للدراسات الاستراتيجية © جميع الحقوق محفوظة
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. | www.OmranDirasat.org
وفي المحصلة، يمكننا القول أن موسكو نجحت إلى ح د كبير، بتحجيم دور القوى الإقليمية في الملف السوري وتحويل
طموحات بعضها من فاعلية وتأثير في الحل السياس ي إلى حماية أمن حدودها وحرف أهداف بعضها الآخر من تحصيل
المكاسب إلى تخفيف الخسائر، وبالتالي استطاعت تحجيم الأذرع المحليّة المرتبطة بتلك القوى وما يتبعها من مشاريع،
وإعادة ضبط القسم الأكبر والأنشط من الحدود السورية، وضمان عودة سلطة الأسد "مؤسسات الدولة" لأكبر قدر من
الأراض ي وتأمين طرق التجارة الدولية، وبالتالي الاقتراب أكثر وأكثر من رؤيتها في التفرد بالحل السياس ي، بل وإنجاز صفقات
مع تلك الدول ، لصالح موسكو، تتجاوز حدود الملف السوري
أساسا ) تعزيز التبادل تجاري، بيع ا لأسححة، وإنشاء معامل
وقدرات عسكرية.. إلخ(.
إذا فسياسة التحجيم الروسية مع الدول الحدودية تعتمد على: تعزيز مخاوف الأمن الإقليمي، ومن ثم إنجاز صفقة
لتهدئتها؛
تنتج تحجيم الدور الإقليمي نفسه، بل وتطويعه
غالبا في خدمة رؤية موسكو لححل السياس ي.
واللافت، أن سياسات التحجيم تلك تجاوز ت الدول الحدودية لتطال قوى إقليمية أخرى كانت فاعلة في الملف السوري،
كالدور العربي- بالخليجي
ممثلا -، والذي
أيضا تم تحجيمه وتطويع جزء منه بسياق الرؤية الروسية في الملف السوري، كما
طالت بشكل أو بآخر الأوروبيين الذين تم تحجيم دورهم نتيجة الموقف الناتوي المشتت والتراجع الأمريكي كمظلة له،
مقابل التقدم الروس ي بالكثير من الملفات. إذ أن الإنجاز العسكري الروس ي وما تخلله من مكاسب، لم يقتصر على الأرض
فحسب، من محاولات
بدءا
وإنما سعت موسكو لترجمته سياسيا "أستنة" بتغيير أولويات السلال الأربعة مع
جنيف مرورا
"دي مستورا" وتقديم سلة مكافحة الإرهاب على باقي السلال ، إضافة إلى تغيير وحرف مفاهيم هيئة الحكم الانتقالي وفق
القرار 2254 إلى الحجنة الدستورية.
وصولا
بالمقابل، يبدو أن إدارة سياسات التحجيم اليي اتبعتها موسكو إزاء القوى الفاعلة في الملف السوري لم تقتصر على أعدائها
ومنافسيها، وإنما طالت حلفائها بشكل أو بآخر، إذ تختلف الآراء إلى اليوم حول طبيعة العلاقة بين موسكو وطهران في
الملف السوري، بين التحالف التكتيكي أو الشراكة الاستراتيجية اليي تتجاوز حدود سورية، وعلى الرغم من أن لأنصار كل
من الرأيين حجج ه؛ إلا أن تنافس الطرفين في الملف السوري على أحد، خاصة بعد انحسار رقعة المعارك
لم يعد خافيا
من الرؤية لمستقبل
بين القوتين، لتظهر خلافات على عدة مستويات بدءا
عسكريا
اليي فرضت تحالفا س ورية إلى
وصولا
إدارة التحالفات في الملف السوري، التنافس الذي انعكس بشكل أو بآخر بصورة محاولات تحجيم للدور ا لإيراني في عدة
مجالات وقطاعات، سواء تحركات موسكو على مستوى إعادة هيكلة قطاعيّ الجيش والأمن ومحاولات تحجيم المليشيات،
أو على مستوى سعيها للاستئثار بالعقود الاقتصادية الأكبر ضمن القطاعات الاستراتيجية في سورية ومحاو لات حرمان
إيران منها، إضافة إلى احتكار ملف سور ية ، ناهيك عن تسويق موسكو دورها لبعض دول
السياس ي دوليا المنطقة على ظهر
الوجود الإيراني في سورية )"معادل قوى "(، خاصة تجاه الدول ذات الحساسية العالية من هذا الوجود)الخليج، إسرائيل(.
ما كتب أعلاه؛ لا يعني ذكا ء منقطع النظير في السياسة الخارجية الروسية ضمن الملف السوري، بقدر ما يعني ت
راجعا
للدور الأمريكي و
سياسيا
ارتباكا للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في سورية وعدم قدرتها على فصل الملف السوري عن
صراعاتها المتعددة، واليي أمّ نت لم وسكو هوامش كبيرة للتحرك عبر التناقضات العديدة اليي ولدتها تلك الصراعات،
بدءا
من الصراع الخليجي-الخليجي، والخليجي-الإيراني، والإيراني-الإسرائيلي، والخليجي-التركي، خ لا
وأخيرا فات شركاء الناتو
أنفسهم أمريكا-تركيا-أوروبا.
كل تلك الصراعات والخلافات منعت تشكيل جبهة دولية أو إقليمية موحدة من الملف السوري كان من الممكن أن تحجّ م
دور موسكو في سورية، وب من
دلا ذلك سهّلت لها الولوج من مختلف التناقضات وتحقيق اتفاقات جزئية ومكاسب مجانيّ ة
وإنجاز تحالفات استراتيجية مع شركاء أمريكا التقليدين، بل وجعلت من نظام الأسد "بيضة القبان" في أغلب تلك
الاتفاقات الجزئية، نتيجة إدراك الأسد لتلك التناقضات وما تؤمنه من هوامش تحرك، سواء في ظل الدور الروس ي وما
يستتبعه عليه من مكاسب مجانية، أو حيى من خلال استثمار هوامش الخلاف بين حلفائه )روسيا، إيران(.
وقد أتاحت الصراعات والخلافات الإقليمية-الدولية حول سورية لموسكو إمكانيّة تحجيم بعض القوى وإخراج بعضها
الآخر من دائرة التأثير المباشر في الملف السوري، ولعل الطرح الألماني المتأخر بعد الاتفاقين التركي-الأمريكي والتركي-الروس ي
لنشر قوات دولية في شرق الفرات، يوضّ ح بأن الأوروبيين شعروا متأخرين بإبعادهم خارج مساحة الفاعلية الحقيقية في
الملف السوري.
قابل تلك الصراعات والخلافات الإقليمية-الدولية رت ه
ّ
وما وف من هوامش للدور الروس ي، استمرار الفاعلين المحليين في
التعويل على التحالفات الخارجية، بل والسير الأعمى في ركبها، دونما فهم لطبيعة الصراع والمصالح الدولية والإقليمية
فيه. كل تلك الظروف والمناخات المحلية والإقليمية والدولية أمّ نت لموسكو القدرة لإدارة سياسات التحجيم، وحالت دون
إنتاج أي سياسة دولية تساهم في تحجيم موسكو نفسها في الملف السوري، كما عرقلت إنتاج أي فعل محلي موحد
ومستقل يؤدي هذا الغرض ويفرض نفسه على الطاولة.
وبنظرة عامة اليوم على الملف السوري، نجد أنه يدار بفاعلية روسية بالدرجة الأولى ومن ثم تفاهمات تركية- روسية
بالدرجة الثانية، تلك المرشحة بأي لحظة لأن تتحول باتجاه خلاف مع شريك أستانة الثالث )إيران( بدعم قوى إقليمية
ودولية أخرى. إذ يبدو أن موسكو ستستمر في سياسة التحجيم المبنيّ ة على تناقضات القوى المختلفة واليي تؤمن ل
ها تفردا
في صياغة الحل النهائي، التحجيم الذي لم ولن يقتصر على أعداء موسكو، وإنما يبدو أنه طا ل أو يطا ل أو سيطا ل حلفائها
)النظام، إيران(
أيضا وشركائها )تركيا( في سبيل محاولات فرض رؤيتها وتصورها الخاص لمستقبل سورية، التصور الذي
بالأمر السهل في سياق الملف السوري وتعقيداته
قد لا يبدو تطبيقه عمليا وتحولاته غير المتوقعة، لكنه ليس بالأمر
المستحيل وسط استمرار الظروف الموضوعية والذاتية اليي أوصلت الدور الروس ي في سورية إلى ما هو عليه اليوم.