محمد فاروق الإمام – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
نهاية التحالف الغربي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي
لقد أدى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي إلى نهاية نظام التحالف المضاد للشيوعية الذي شكله هاري ترومان عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبعد عام من وقوع تلك الأحداث، كان بيل كلينتون يتبادل النكات مع رئيس روسيا آنذاك، بوريس يلتسين، وأصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية نافذة وحيدة في العالم، ولكن عوضاً عن استخدام تلك القوة لصياغة إطار دولي جديد لحماية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتصديرها إلى العالم، كما فعل ترومان من أجل ضبط ومراقبة ستالين، تصرف العالم الحر وكأنه انتصر إلى الأبد.
لقد أخطأت روسيا وعدد من الدول المستقلة حديثاً والمتلهفة لتحقيق مستقبل واعد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الحكم البوليسي الشيوعي القمعي، بحيث أخفقت روسيا وهذه الدول في التعامل مع ماضيها الأسود، وفي هذا الإطار؛ لم تشكل لجان للكشف عن حقائق، ولا لجان لمحاسبة من ارتكبوا جرائم قمع وترهيب على مدار عشرات السنين، ولَم تؤد انتخابات لاستئصال “السيلوفيكي” (شبكة نافذة من المسؤولين الأمنيين والعسكريين)، فقد واصل بيروقراطيون سوفييت العمل كسماسرة للسلطة، دون محاسبة أو شفافية.
وقد تم الجمع في روسيا بين الديمقراطية والثروة، ولَم يهتم يلتسين ببناء مؤسسات قوية قادرة على تحدي السلطة، ما أدى إلى انتشار الفساد في إدارته. ولكن تلك السياسة خلفت آثاراً أشد حدة عندما حل مكانه رجل أكثر سطوة وشدة.
بوتن يتسلم مقاليد السلطة في موسكو
عندما تسلم فلاديمير بوتين السلطة في عام 2000، لم تقف عراقيل كثيرة أمام رغبته الجامحة في إعادة تنظيم روسيا على صورة كي جي بي. كما وجد بوتن أمامه شعباً روسياً يشعر بخيبة أمل من وعود بالديمقراطية، وبخوف من حالات عنف وفساد حوله.
وكان من شأن خطاب بوتن الشعبوي بشأن الأمن والكبرياء الوطني أن يتلاشى بسرعة لولا الارتفاع الكبير في أسعار النفط في بداية الألفية الجديدة. وهكذا قايض الشعب الروسي على حرياته في مقابل تحقيق الاستقرار له.
العالم الغربي يتساهل مع بوتن
لقد تساهل العالم الغربي مع بوتين، بل أشاد به “كزعيم قوي”، لدرجة أن روسيا دخلت في عام 1997 نادي الدول الثماني الغنية، ومضى بوتين في إقناع شعبه بمزاياه وبنفاق العالم الغربي الذي يتعامل مع روسيا كبلد غني، ويتغاضى عما عداه.
مولد بوتن ونشأته
ولد فلاديمير فلاديميروفتش بوتين في لينين غراد (تعرف الآن باسم بطرسبرغ) في روسيا في 7 تشرين الأول عام 1952.
نشأ فلاديمير بوتين في شقة مجتمعية تسكن فيها ثلاث عائلات في سانت بطرسبرغ (التي كانت تعرف آنذاك بليننغراد)، ويتذكر بوتن اصطياده للجرذان على درج الشقة.
عمل جد بوتن طاهيًا في منزل لينين الريفي وبعد ذلك أعد الطعام مرات عدة لستالين، كما حصل بوتن على الحزام الأسود في رياضة الجودو عندما كان في الثامنة عشر من عمره، وهو لايزال يمارس رياضات الدفاع عن النفس حيث يصفها بأنها فلسفة حياة.
مسيرة بوتن في الاستخبارات السوفييتية والمناصب الإدارية
بعد أن تخرج من جامعة ولاية ليننغراد تخصص في القانون عام 1975 بدأ بوتن مسيرته في الاستخبارات السوفييتية ضابط استخبارات، وقد ظل يشغل هذا المنصب في ألمانيا الشرقية حتى عام 1990 ثم تقاعد برتبة مقدم. وقضى فترة الثمانينات وهو يساعد الشرطة السرية السوفييتية على تجنيد أشخاص يتجسسون على الغرب.
وعند عودته لروسيا شغل بوتن منصبًا إداريًا في جامعة ليننغراد، ثم بعد انهيار الشيوعية عام 1991 أصبح مستشارًا للسياسي الليبرالي أناتولي سوبتشاك، وعندما انتخب سوبتشاك رئيسا لبلدية ليننغراد في وقت لاحق من العام ذاته أصبح بوتن مسؤول العلاقات الخارجية لديه، ومع حلول عام 1994 أصبح بوتن أول نائب رئيس عمدة لسوبتشاك.
عيّن بوتين رئيسًا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وهو أحد أذرع الاستخبارات السوفييتية سابقًا، ورئيسًا لمجلس أمن يلسن، وفي آب/ أغسطس عام 1999 أقال يلسن رئيس الوزراء آنذاك سيرغي ستاباسين وجميع وزرائه ورشح بوتن لخلافته.
يلتسن يختار بوتن لخلافته في الحكم ليصبح رئيساً لروسيا لثلاث دورات
في كانون الأول من عام 1999 استقال بوريس يلسن من منصبه في رئاسة روسيا وعين بوتن ليحل محله حتى يحين موعد الانتخابات الرسمية، وكان الثمن إصدار بوتين مرسوماً رئاسياً يمنع محاسبة يلتسين على فساده المالي خلال فترة حكمه، وأعاد بوتين هيكلة الحكومة وشن حملة تحقيقات في جرائم متعلقة بالمعاملات التجارية لمواطنين روس في مناصب رفيعة، كما واصل حملة الجيش الروسي العسكرية على الشيشان.
وفي آذار/ مارس عام 2000 انتخب بوتن للدورة الأولى بأصوات بلغت نسبتها 53% من إجمالي الأصوات.
ثم في عام 2004 أعيد انتخاب بوتن لمنصب الرئاسة، وفي نيسان/ إبريل من العام التالي أجرى زيارة تاريخية لدولة الكيان الصهيوني؛ لإجراء محادثات مع رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، فكانت تلك أول زيارة للكيان الصهيوني يقوم بها رئيس للكرملين.
بوتن يتضامن مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب
في أيلول/ سبتمبر عام 2001 أعلن بوتن ردًا على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة، عن تضامن روسيا مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب، إلا أنه عندما تحولت “الحرب الأمريكية على الإرهاب” للتركيز على تنحية الرئيس العراقي صدام حسين، انضم بوتن إلى المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك في معارضتهم للمخطط الأمريكي.
في تبادل مسرحي للسلطات ميدفيدف رئيساً لروسيا وبوتن رئيساً للوزراء
بعد ذلك لم يتمكن بوتين من الترشح للرئاسة عام 2008 لأنه كان مقيدا بطول الفترة الرئاسية حسب الدستور الروسي، إلا أنه في ذلك العام تم تمديد الفترة الرئاسية في الدستور من أربع سنوات إلى ست سنوات، وراح مع تلميذه ديمتري ميدفيدف يتناوبان الانتخابات الرئاسية في مسرحية هزلية ممجوجة أضحكت العالم عليه وعلى الديمقراطية المزيفة التي يحكم بها روسيا، وفي آذار عام 2008 عين بوتن رئيس وزراء على الفور، وهو ما أتاح الفرصة لبوتن للحفاظ على موقع رئيسي مؤثر على مدى السنوات الأربعة التالية.
بوتن رئيساً لروسيا مجدداً
في 4 آذار عام 2012 أعيد انتخاب فلاديمير بوتن لفترة رئاسية ثالثة، فبعد مظاهرات واسعة عمت البلاد وأخبار عن عمليات تزوير تخللت الانتخابات تم تنصيبه في السابع من أيار/مايو عام 2012، وبعد استلامه المنصب بفترة وجيزة عين مدفيدف رئيسًا للوزراء، كما عاد مرة أخرى ليصدر من موقعه قرارات جديدة مثيرة للجدل تتعلق بالشؤون الداخلية لروسيا وسياستها الخارجية.
بوتن ينقذ بشار بعد ضربه للسوريين بالمواد الكيميائية
في أيلول عام 2013 تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والنظام السوري جراء امتلاكه أسلحة كيماوية واستخدامها في ضرب السوريين، حيث لوحت الولايات المتحدة بتدخل عسكري في حال عدم تخلي النظام عن تلك الأسلحة، وقد تم تفادي حدوث أزمة مباشرة من خلال عقد اتفاق بين الحكومتين الروسية والأمريكية يتم على إثرها تدمير تلك الأسلحة.
وفي أيلول عام 2013 نشرت النيويورك تايمز مقالة كتبها بوتن تحت عنوان “نداء من روسيا لتوخي الحذر”، وفيها تحدث بوتين إلى صانعي القرار الأمريكيين حول قرار التحرك ضد سورية مؤكدًا على أن مثل هذا التحرك من جانب واحد قد يتسبب في تصعيد أعمال العنف في الشرق الأوسط.
كما أكد بوتين على أن زعم الولايات المتحدة بأن بشار الأسد استخدم أسلحة كيماوية قد يكون في غير موضعه، في ضوء تفسيره الأمر باحتمالية حيازة الثوار السوريين للأسلحة الكيماوية واستخدامها غير المشروع، واختتم المقالة معبرًا عن ترحيبه بمواصلة الحوار المفتوح بين الدول ذات الصلة من أجل تجنب أي صراعات أخرى في المنطقة.
بوتن يحتل شبه جزيرة القرم
بعد نشوء حالة من عدم الاستقرار السياسي في أوكرانيا نتجت عن انتخاب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش أرسل بوتين قواته إلى القرم، وهي شبه جزيرة على الساحل الشمالي الشرقي للبلاد على البحر الأسود، وقد كانت جزءًا من روسيا حتى تنازل عنها نيكيتا كروشيف، رئيس الوزراء السابق للاتحاد السوفييتي، لصالح أوكرانيا عام 1954.
وأشار سفير أوكرانيا في الأمم المتحدة يوري سيرغييف إلى أن ما يقرب من 16,000 جندي روسي احتلوا المنطقة، وقد لفتت تحركات روسيا أنظار العديد من دول أوروبا بالإضافة إلى الولايات المتحدة، التي رفضت بدورها الاعتراف بشرعية الاستفتاء الذي صوتت فيه أغلبية سكان القرم لصالح الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا.
في المقابل دافع بوتن عن تحركاته مدعيًا أن قواته التي دخلت القرم كانت مجرد قوات دعم للجيش الروسي داخل البلاد (ويعني بذلك الأسطول الروسي في البحر الأسود الذي له مقرات في القرم)، كما نفى جميع الاتهامات الموجهة له من قبل الدول الأخرى خاصة الولايات المتحدة بأن روسيا كانت تنوي إقحام أوكرانيا في حرب.
كما زعم أنه على الرغم من أن مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي أعطاه الإذن باستخدام القوة في أوكرانيا إلا أنه لم يجد من داع لذلك، ونفى أيضا أي توقعات عن اعتزامه الهجوم على المناطق الأوكرانية قائلًا: “هذا الإجراء سيكون في التأكيد الحل الأخير”، ليعلن في اليوم التالي عن ترشيح بوتن لجائزة نوبل للسلام عام 2014.
كلاب بوتن المدللة
لدى بوتن كلاب أليفة يحبها كثيرًا ويصطحبها إلى المحادثات السياسية، حيث يشير البعض إلى أنه يسعى بذلك إلى إخافة قادة العالم، ولعل من أشهر الحوادث على ذلك اصطحابه لكلب اللابرادور الخاص به في اجتماع عقده مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؛ مع علمه بخوفها من الكلاب.
يتحدث بوتن الألمانية بطلاقة إلا أنه لا يجيد الإنجليزية جيدًا.
بوتين يعين ميخائيل رئيسا للحكومة الجديدة
في خطوات سريعة، كلها تمت في يوم واحد، أعلن بوتين عن نيته في إدخال تعديلات دستورية، وعقب الإعلان مباشرة؛ قدم رئيس الوزرء ديميتري مدفيديف استقالة حكومته بهدف إفساح المجال لتعزيز سلطة البرلمان عن طريق التعديلات الدستورية الرئاسية المقترحة، وعقب مرور سويعات، عين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤولا غير معروف للرأي العام لرئاسة الحكومة الجديدة.
واختار بوتين مباشرة ميخائيل ميشوستين، الذي ترأس إدارة الضرائب الاتحادية منذ عام 2010، ويعتبر صاحب اختصاص، لتشكيل حكومة جديدة.
وأثارت هذه التغييرات تكهنات حول كيفية تأثير هذه التعديلات على النظام السياسي الروسي، وإن كانت ستتيح لبوتين البقاء في السلطة إلى ما بعد نهاية ولايته الرئاسية الرابعة في 2024.
ورأى البعض أن بوتين ربما يستعد لتولي منصب جديد أو الحفاظ على دور قوي له من خلف الكواليس كعادته، وهذه المرة الأولى التي يقترح فيها بوتين في خطاب له عن تغييرات فعلية في دستور البلاد الذي أقر عام 1993.
وتنص التغييرات التي اقترحها بوتين الأربعاء على نقل مزيد من السلطات إلى البرلمان بما في ذلك السلطة لاختيار رئيس الوزراء وأعضاء بارزين آخرين في الحكومة، بدلا من أن يقوم الرئيس بذلك كما كان يفعل هو، حتى يفوّت فرصة التفرد في الحكم لمن سيأتي من بعده، ليظل هو الرجل القوي الذي يحكم روسيا (للأبد) من وراء الستار، كحال صاحبه نمرود الشام.