الضمانات المانعة من استبداد الحاكم (الإسلام أكثر الشرائع محاربة للاستبداد)

د.أكرم كساب – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

الحلقة الثانية

لما كانت ظاهرة الاستبداد ظاهرة مقيتة؛ ظاهرة تأبها الفطر السوية، والعقول السليمة، فليس هناك من دين حاربها كما حاربها الإسلام؛ نعم لقد وضع الإسلام من الضمانات ما يمنع من وقوع الاستبداد لو أن الناس تشبثوا بهذه الضمانات، ولم تكن مجرد كلام يقال، أو نظريات تدرّس، وقد أحسن الغزالي حين قال: الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما المراسيم والاستبداد فترتدّ بهم إلى وثنية سياسية.

الشريعة الإسلامية تندّد بالاستبداد والمستبدين:

والحق أنه ليس هناك من شريعة حملت حملة شعواء على الاستبداد والمستبدين كما هو الحال في شريعة الإسلام. ومن تأمل نصوص الشريعة القرآن والسنة يرى كيف يرفضان الاستبداد بصورة مختلفة.

فتارة يقصّ القرآن علينا استبداد المستبدين وكيف كانت نهايتهم، ويأتي على رأس هؤلاء فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فكان جزاؤه {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].

ومن هؤلاء نمرود الذي قال له إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فردّ عليه قائلا: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فقال له إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فكان الردّ القرآني مصورا حال هذا المستبد {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

وتارة يعبر القرآن عن الاستبداد بالظلم، وتارة يعبر عنه بالفساد، وتارة يعبر عنه بالغلو، وتارة يعبر عنه بالكبر، وتارة يعبر عنه بالطغيان، وفي كل الأحوال هو صفة ذميمة وخلق مقيت.

وأحيانا يأتي التعريض بالأتباع الأغرار الذين رضوا لأنفسهم أن يستخدمهم المتكبرون والمستبدون. ومن ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]، ومن التنديد بهؤلاء الأغرار يخبرهم القرآن بما يكون منهم يوم القيامة من الندم فيقول: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167].

وما أقبح هؤلاء المستبدين حين يصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسفه، وذلك في قوله لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: ” أَعَاذَكَ اللهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ “، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟، قَالَ: “أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي… ” (رواه أحمد).

للراضي بالاستبداد والمشارك فيه نصيب:

والعجيب أن القرآن والسنة حملا على أنواع ليسوا في الظاهر من أهل الاستبداد، وإنما لهم في بقائه أثر، ومن هذه الأنواع:

النوع الأول: جند المستبدين وأدواته، وهؤلاء قال الله تعالى فيهم: {إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8]. فجنود المستبدين يتحملون من الأوزار بقدر ما كان لهم من دور في بقاء الاستبداد، ولن يعذروا لطاعتهم الكبراء والسادة، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. يقول القرضاوي: أكثر من يتحمّل المسؤولية مع الطغاة هم (أدوات السلطة) الذين يسميهم القرآن (الجنود) ويقصد بهم (القوة العسكرية) التي هي أنياب القوة السياسية وأظفارها، وهي السياط التي ترهب بها الجماهير إن هي تمرّدت أو فكرت في أن تتمرد.. ((من فقه الدولة في الإسلام/ ص 135)).

النوع الثاني: الراضي بهذا الاستبداد دون رفض أو مقاومة، وهؤلاء قال الله جلّ شأنه فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 97]، وقال أيضا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

النوع الثالث: الراكن إلى الاستبداد وأهله، والعجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل نهاية الطغاة والراكنيين إليهم واحدة، حيث قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 – 39]، وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. يقول سيد قطب: لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب القوّة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبّدونهم لغير الله من العبيد… لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه. ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) جزاء هذا الانحراف… ((في ظلال القرآن/ (4/ 1931().

وحين تتحمل الشعوب الراضية بالاستبداد جزءاً من المسؤولية فذلك لأنها هي التي تصنع الفراعنة والجبارين، بل إن من الشعوب من يسعى سعيا حثيثا لإيجاد فرعون كلما هلك فرعون، وكلما انزاحت غمامة استبداد صنعوا مظلّة جديدة ربما على حساب كرامتهم ودمائهم.

الإسلام لم يأت بالخنوع والخضوع للحاكم:

والذي يقرأ القرآن ويطالع السنّة ويدرس سيرة السلف الصالح لا يرى منهم استسلاما مزريا كما يريد البعض، فإنهم وإن حرّموا الخروج على الحاكم فلم يحرموا قول الحق، إن صورة الإسلام تشوه حين يتم التسليم المطلق للحاكم في الشر والخير، في المعصية والطاعة، وها هو القرآن يصف أتباعه فيقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وهذا يعني أنهم في الحق لا يحسبون لمخلوق حسابا مهما كلفهم الأمر.

        وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الصادع بالحق، والواقف في وجه المستبد مشاركا لحمزة بن عبد المطلب في السيادة والشهادة، كقوله صلى الله عليه وسلم:” سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَام إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ” (رواه الحاكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم:” أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ”(رواه أبو داود)، يقول أبو حامد الغزالي: ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين أنواع العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله.. ((إحياء علوم الدين (2/ 343)). بل كان النص النبوي صريحا في أن ترك المستبد دون نصحه يعرّض الأمة كل الأمة للعقاب، روى أحمد عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ”((رواه أحمد)).

أما كيف حارب الإسلام الاستبداد فهذا ما نؤصّله تباعًا في المقال القادم وما بعده…

يتبع…

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top