المركز السوري سيرز - غياث أحمد دك

أن المتابع للمشهد السوري بكافة أطيافه، وحسب مناطق السيطرة على الأرض، يكاد يجزم على التشابه التام في إدارة المناطق، مع تغيرات طفيفة في الرايات والمظهر الخارجي، فالمناطقية والقبلية والنفعية تحكم الساحة السورية، وسوف نسلط الضوء على أهم النقاط التي تظهر وكأن الجميع متفق عليها لا شعورياً، وهي المناطقية والعشائرية والطائفية، وأيضاً النفعية، قدم ابن خلدون لنا ثلاثة مفاتيح للعقل السياسي العربي، السلوك العشائري، والتطرف الديني، والاقتصاد الريعي، حيث ظل ابن خلدون يوظف هذه المفاهيم للتجربة الحضارية العربية إلى عهده، كما استخدمها محمد عابد الجابري كمفاتيح لقراءة التاريخ السياسي العربي.

1-القبيلة في سورية (المناطقية)

ليست القبيلة والروابط العشائرية، انما هي طريقة في الحكم او السلوك السياسي يعتمد على ذوي القربة بدل الاعتماد على ذو الخبرة والمقدرة، ليس المقصود قرابة الدم فقط بل المقصود القرابة المشحون بالانتماء للمدينة او جهة او طائفة (بالمعنى السوري الحالي المناطقية) التي ظهرت في سورية وتجلت بعد حملات التهجير التي قام بها النظام، ولهذه المناطقية سلبياتها وإيجابياتها، فمن جهة التقارب والتعاون وخصوصية كل منطقة، في المحافظة على العادات والتقاليد، لتخفيف معاناة النزوح والتهجير فهو شيء جيد، أما من جهة تحول التكاتف والتكافل الاجتماعي إلى مجتمع منغلق على نفسه لا يقبل مشاركة الأخرين من باقي المناطق السوري فهو أمر سلبي ويجب معالجته بهدوء، فجميعنا سوريون وهدفنا بناء وطن جديد يضم كافة المكونات من الشعب السوري، حيث نلاحظ بعض التصرفات الفردية في المنظمات والتشكيلات الثورية التي تكاد أن تكون من مدينة واحدة أو منطقة واحدة.

طبعاً لا يختلف المشهد من منطقة إلى أخرى كثيراً، فمناطق سيطرة النظام ينطبق عليها هذا الوصف مع اختلاف بسيط في الأجهزة القديمة، مثل القطع العسكرية القديمة، أما التشكيلات الحديثة التي طفت على السطح، مثل الشبيحة وحواجزهم، ومثل المليشيات الطائفية المدعومة من الخارج فيحكمها مبدأ المناطقية والقبلية، وأيضاً مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية.

2-الغنيمة:

قديماً: هي ما يفرضه الغالب على المغلوب من إتاوات وضرائب سواء كان الغالب أميراً او فئة او دولة او جماعة، وتقوم بدور العامل الاقتصادي في المجتمعات التي تعتمد على الخراج او الربح في الانفاق، والمقصود هنا جميع ما كانت الدولة في الإسلام تأخذه كجباية، من فيئ وهي غنائم الحروب، والجزية وهي التي تفرض على غير المسلمين من اهل الكتاب، والخراج التي تدفع عن الأرض المفتوحة الأراضي الزراعية، وهي الأسس الثلاثة للاقتصاد الإسلامي في وقت الفتوحات.

حديثاً في العصر الحالي: تتمثل في الضرائب، والجمارك، والمنح المالية، والمساعدات والهبات، والودائع، والخدمات المالية المختلفة داخل الدولة، والتي تمثل العمود الفقري لخزينة البنك المركزي من ناتج محلي إلى ناتج القومي.

ج-وحالياً تتجسد الغنيمة في سورية: بأشكال مختلفة، من مشاريع منظمات إنسانية تعمل في مناطق سورية المختلفة والتي تساهم في رفع المعاناة عن السوريين، من توظيف موظفين وعمال، إلى تقديم السلل الاغاثية والغذائية والغير غذائية، أيضاً هناك مصدر ثاني للغنيمة وهي حواجز، ومعابر، وتهريب، وترفيق للشاحنات التجارية، واحتكار تجارة النفط وتمريره، وهي المحرك والمورد الأساسي التي تعتمد عليه الفصائل العسكرية في التمويل في مناطق سيطرة الجيش الحر.

أما مناطق قوات سورية الديمقراطية فقد أصبح اعتمادها على آبار النفط هو المورد الأساسي للتمويل والتسليح.

وأما مناطق سيطرة النظام السوري، حيث الاقتصاد الوطني منهار بسبب العقوبات الاقتصادية واستنزاف خزينة الدولة في قمع الشعب السوري، فقد حاول النظام السوري إيجاد مصادر تمويل مختلفة شرعية وغير شرعية لتغطية نفقات عملياته وعجز ميزانياته، ويمكننا تشبيه عمليات النظام في تأميم شركات بعض الشخصيات والسيطرة مثل النار التي تأكل بعضها إذا لم تجد ما تأكله، عداعن التمويل الغير شرعي التي اعتمد عليها القادة والضباط الميدانين، فحدث ولا حرج، رشاوي، خطف، تشليح، تعفيش، كل ما يخطر في بالك من أساليب السلب والنهب موجودة ويتفاخرون بها.

3-العقيدة:

المفهوم الديني: مما لا يجهله أحد أن للإسلام كما لغيره من الأديان والملل، عقيدة لا يصح انتساب المرء إليه ولا يقبل من تدين به إلا إذا آمن بتلك العقيدة والتزم بمقتضياتها، فلو تظاهر أحد بالإسلام وقام بجميع أعماله وشرائعه من صلاة وصيام وحج وجهاد وغير ذلك مما ظهر من عباداته وشعائره، ولم يكن له إيمان بما جاء به الإسلام ولا اعتراف بعقيدته، فهو في حكم الإسلام منافق.

المفهوم الوطني: وكذلك الوطن له عقيدة يحملها أبناؤها ويؤمن بأصولها كل فرد من المنتمين إليه، ولا يكون أحد صادقا في انتسابه إلى وطنه إلا إذا كان مؤمنا بعقيدته الوطنية ومخلصا في التشبث بأصولها، وإن لم يكن كذلك فهو الخائن الغادر الذي يتقى مكره ولا يؤمن شره، ولو ظهر منه بذل وعطاء للوطن وحرص على سيادته وسلامته، كما هو شأن الخونة في كل زمان ومكان، فإنهم لم ينزلقوا إلى خيانة أوطانهم والغدر بأمتهم إلا لكونهم فقدوا التعلق بالوطن ولم يدخل الإيمان بعقيداته في قلوبهم، فعاشوا بأبدانهم وبطونهم، وتنكرت له قلوبهم ومشاعرهم، فأضاعوا دينهم ودنياهم وكانوا في الدنيا والآخرة من الخاسرين.

إذا كانت عقيدة كل دين ومذهب مختلفة عن غيرها في الملل والأديان الأخرى، فكذلك العقيدة الوطنية تختلف أصولها ومبادئها بين وطن وآخر، فالعقيدة الوطنية في الصين، مثلا، ليست هي العقيدة الوطنية في بريطانيا، وهكذا يجري الحكم على كافة الأوطان في العالم.

ومقصدنا في هذا المقام تبيان العقيدة في فكر ابن خلدون ومحمد عابد الجابري في ضوء قراءة جديدة لمفهوم العقيد الشامل الديني والوطني والإيديولوجي. وإبراز أصولها ومعالمها، ليس المقصود الدين في ذاته وإنما هي مضموناً على شكل دين روحي أو أي أيديولوجيا، ومفهوم على صعيد الاعتقاد إنه المنطق الذي يحرك الجماعة ليس على أسس معرفية مثله مثل اللاشعور السياسي ، بل على رؤوس تؤسس المثل العليا والكاريزما القيادية الثورية، فالإنسان يؤمن بمعزل عن الاستدلال وعن اتخاذ القرار، قد لا يسأل المسلم فيما يخص المعرفة ولكنه لا يقبل أن تمس عقيدته، لا يتشدد في الدفاع عن صحة قضية معرفية، لكنه يضحي بحياته ويستشهد في سبيل عقيدته، مثل مفهوم الجهاد، والمهم في كل عقيدة ليس ما تقرره من حقائق ومعارف بل المهم هو قوتها وقدرتها على تحريك الافراد، والجماعات وتأطيرهم داخل القبيلة الروحية ومن هنا جاء الارتباط العضوي بين العقيدة و الفعل الاجتماعي والسياسي، ومن هنا نتج الاصطفاف الثوري ضمن المجتمع السوري، بين تيارات علمانية ودينية، وبين مؤيد ومعارض.

في النهاية القبيلة والعقيدة والغنيمة: حكمت العقل السياسي العربي في الماضي وما زالت تحكمه إلى يومنا هذا والنتيجة، نكسات فتحت الباب لعودة العشائرية والعقيدة والتطرف الديني والعقائدي لتسود الساحة السياسية السورية، ليجعل حاضرنا مشابهاً لماضينا وغارق فيه، وأصبحت القبيلة محركاً للسياسة والغنيمة تلعب دور الاقتصاد والعقيدة دافعاً للفعل.

في النهاية لتحرير عقلنا من هذه الأطر اللاعقلانية لابد لنا من أن نتخذ الإجراءات التالية:

تعرية الاستبداد والكشف عن مرتكزاته الأيديولوجية والاجتماعية واللاهوتية والفلسفية التي هيمنت على عقلنا السياسي، لأن عصرنا الراهن لا يحتمل غير أساليب الديمقراطية الحديثة التي هي إرث للإنسانية جميعاَ.

إن تركيب عقلنا السياسي بعد الثورة السورية المباركة لن يكتمل إلا إذا قام الفكر السوري المعاصر بالمهام التالية:

أ‌- تحويل القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي من أحزاب ونخب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني من اجل إيجاد مجال جديد تمارس فيه السياسة ويكون فيه التمايز فيه بين المجتمع والدولة من خلال تطور مجال اقتصادي وسياسي.

ب‌- تحويل الغنيمة إلى ضريبة أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد انتاجي في إطار الناتج القومي للدولة من أجل تحقيق نهضة ورفاه المجتمع مادياً وانتاجياً.

ت‌- تحويل العقيدة إلى مجرد رأي فبدلاً من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة، يجب فسح المجال إلى حرية التعبير وحرية التفكير والاختلاف وبالتالي تحول سلطة الجماعة المغلقة دينية كانت او حزبية او اثنية، وبعث آليات جديدة للتعامل يحركها عقل اجتهادي نقدي.

ث‌- القيام بعملية نقدية عملية نقد جذري للمحددات التقليدية القبيلة والعقيدة والغنيمة، للعقل والأصول السياسي الفكري، لأنه بدون ممارسات هذه الأنواع من النقد بروح علمية حديثة سيبقى كل حديث عن التعايش السلمي والتقدم في نفس الوقت حديث آمال فقط.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top