تقدير موقف
د. عبادة التامر – المركز السوري سيرز
بعد سلسلة طويلة من المفاوضات والنقاشات بين أطرافٍ دولية متعددة استمرت لأكثر عامين دعا المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون إلى انعقاد أول اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف في 30 تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام.
وبالرغم من وجاهة كثير من الآراء القانونية حول مسألة تشكيل وآلية عمل اللجنة الدستورية التي أطلقت للبحث في مسألة الدستور السوري المزمع. فإن التركيز هنا سيأخذنا لأبعاد قلما يتم الحديث عنها، في ظل الصخب والآراء المتباينة حول مسألة الشرعية والمشروعية والآليات المعتادة لكتابة الدساتير، وما يتطلبه ذلك من بيئة مواتية. وبالرغم أيضاً من إثارة مسألة قانونية يتم الحديث عنها حالياً وهي إطفاء الشرعية والمشروعية بإجراءات لاحقة من بينها الاستفتاء على الدستور.
الأبعاد التي يجب أن توضع كأسئلة يبنى عليها مقتضاها هي التساؤل التالي: ما هي علاقة بنية وآلية عمل اللجنة الدستورية بـ (متلازمة التفكير الجمعي (Groupthink Syndrome؟
وهل يمكن أن يقود التوافق المفترض بين أعضاء اللجنة الدستورية إن حصل – وهذا ما سنناقشه مفصلاً- إلى ما يسمى في علم النفس السياسي بـ الانسياق للجماعة Group conformity الأمر الذي سيقبل بمحصلته الشعب عبر استفتاء بـ(الدستور المفترض)؟
أولاً، ووفق التسلسل المنطقي يمكن وصف المخرج النهائي لعمل اللجنة الدستورية إن تم التوافق على مخرج نهائي بأنه "شيء ما" لا يشبه الهدف الذي دخلت على أساسه المجموعات الثلاث – المعارضة، النظام، قائمة الأمم المتحدة- هذه العملية.
لماذا؟ تقول طرفة قديمة أن " الجمل ماهو إلا حصان سباق صممته لجنة" ولنفرض بأن حصان السباق الموجود والمعروف لم يكن موجوداً، وأننا أوكلنا إلى لجنة مشكلة وفق طريقة تشكيل اللجنة الدستورية مهمة تصميمه، فربما يقترح أحد أعضاء اللجنة جعل الحصان أملساً ويتمتع بإيروديناميكية تمكنه من أداء وظيفته بدقة، وربما يعارضه آخر بأن يقول بأن إضافة سنامٍ للتصميم سيعطي سائقه شيئاً يتعلق به أثناء السباق، ويقول شخص ثالث لماذا لا نعطيه ثلاثة أسنمة حتى يتمكن عدد أكبر من الأشخاص قيادته وتوجيهه معاً. وفي نهاية المطاف ربما لا يتفقون إلا على تصميم بسنامين شيء يشبه الجمل، ولكنه ليس حصان سباق.
ناقش غراهام أليسون وفيليب زيليكوف في كتابها "جوهر القرار Essence Decision" نموذجاً لصناعة القرار يكاد ينطبق على شكل وبنية وآلية عمل اللجنة الدستورية الحالية الموكل إليها مسألة وضع الدستور السوري المفترض، وفي ذلك النموذج (نموذج غراهام وفيليب) تتوزع قوة التأثير في صنع القرار على الجميع وتتحدد مخرجات القرار عن طريق المفاوضات والتسويات، ويقترح النموذج أن يمتلك كل عضو في الجماعة قدراً من القوة يستطيع معه الوقوف من دون تحقيق الأعضاء الآخرين لرغباتهم وأي قرار يتم الوصول إليه لا يمثل سوى القاسم المشترك الأصغر لآراء الجماعة، أو ذلك الشيء الذي يتفقون عليه جميعاً ولكنه لن يكون الشيء الذي رغب فيه أحد، وفي هذه الحالة فإن الواقع سيؤدي إلى إنتاج مخرجات غير فعالة أو أدنى مما هو مأمول على أقل تقدير.
يشير التحليل البنيوي والوظيفي المتأني للجنة الدستورية وتكوينها وآلياتها إلى سلسلة معقدة من الأزمات البنيوية التي قد تعيق عملها أو أن تنتج مخرجات غير فعالة، إن نجت من الوقوع في سلسلة عطبٍ ذاتي. وتحمل هذه البنية من حيث المبدأ المزايا السلبية لما يمكن تسميته بالانسياق للجماعة Group Conformity الذي سينتج شيئاً شبيها بجملٍ ذي سنامين في حين كان الهدف هو انتاج حصان سباق.
فهذه البنية – اللجنة الدستورية بكل مكوناتها- إما ستجتمع بوصفها مجموعة تعزل نفسها عن محيطها، الأمر الذي سيقود إلى شعور أعضاء اللجنة بحالة عارضة من التقدير للذات وتوهم الحصانة مما سيقود إلى تفاؤل مفرط يشجعها على المخاطرة ونتيجةً لذلك ستصل اللجنة إلى حالة التبرير الجمعي ويسقِطون أو يتجاهلون ما يصلهم من تحذيرات وما خلف هذه التحذيرات من افتراضات جوهرية تشكل أسس البناء السليم لعملها.
وقد يتذرع البعض بأن نقل المخرج النهائي لعمل اللجنة الدستورية إلى الاستفتاء الشعبي سيضفي عليها وعلى عملها ومُخرجها الشرعية اللاحقة، وهذه المقولة يمكن مناقشتها أيضاً عبر مدخل الانسياق للجماعة فالاستفاء الشعبي في هذه الحالة لن يقود إلى تمعن مواد الدستور من قبل الشعب وفحص وتبين مآلاتها بل سيخضع الشعب نتيجة سلسلة من الأفعال والوقائع لما يسميه سولومون آش بالامتثال أو الانسياق للجماعة. Group Conformity
أو أن تنقسم اللجنة الدستورية إلى ثلاث مكونات وفق تركيبتها الحالية أو مكونين نتيجة عدم تماسك المكون الثالث الذي اختارته نظرياً الأمم المتحدة، أو أنها ستتشظى إلا أكثر من ذلك... بحيث تبقى كتلة النظام هي الكتلة الوحيدة المتماسكة نتيجة وجود مرجعية عليا تحدد لها سياقات عملها ودورها. وفي هذه الحالة فإن المخرج المتوقع من عمل اللجنة قد لا يشبه حصان السباق أو الجمل ذو السنام الواحد أو حتى الجمل ذي السنامين، أو أنها ستدخل في سلسلة طويلة جداً من الأخذ والرد والتعطيل مما يفقدها وزنها بشكل كلي.
تشير كلتا الحالتين إلى واقعٍ يشي بفهمٍ مغلوط لما يروج له من باب الواقعية السياسية – وهذه الاشارة لا تمت لمبدأ الواقعية بصلة- فالواقعية السياسية تعني تبين مواطن الضعف وتعزيزها وتقويتها وذلك لغايةٍ محددة هي تجميع ومراكمة القوة كما يعبر عنها أبرز منظري الواقعية السياسية هانز مورغانثو.
إن هذا الشكل من الحلول الوسط ستنسف بشكل أو بآخر مبدأ العدالة الانتقالية ومحاكمة عادلة لمن تسبب في دمار وتشريد وقتل الشعب ومصادرة خياره الحر. كما أنها ستفتح الباب إن فشلت في تلبية خيار وطموحات الشعب لطرق أبواب أخرى قد تقود إلى تشظي الجغرافيا واعادة تشكيلها من جديد.