استراتيجية الإبتزاز الإيرانية وفشل استراتيجية الردع

تقدير موقف

د. عبادة التامر - المركز السوري سيرز

أظهر الهجوم الذي وقع في 14 أيلول الحالي، وضرب أحد أكبر المجمعات النفطية في العالم في بقيق وخريص السعوديتين الوجه الواضح لاستراتيجية الابتزاز الإيرانية (blackmail strategy)، وبالرغم من إتباع إيران هذه الاستراتيجية لفترات طويلة إلا أنها لم تصل في السابق إلى حد الاستهداف المباشر لأسواق النفط العالمية وتكبيدها خسارة تقدر بأكثر من 5 ملايين برميل يومياً.

وقد أظهر تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال اجتماع حكومته في 18 أيلول الحالي الوجه الواضح لاستراتيجية الابتزاز حيث قال " إنه ينبغي على السعودية أن تنظر للهجوم الذي وقع السبت على منشآتها النفطية باعتباره تحذيراً لإنهاء الحرب في اليمن".

مارست إيران استراتيجية الابتزاز ولعبت على مسار حافة الهاوية بوضوحٍ ووتيرةٍ متزايدة منذ تبني الولايات المتحدة الأميركية لسياسة الضغط المتدرج، ومن ثم الضغط الأقصى على إيران. كما أنها مارست أدواراً مؤثرة في تطويق الدول الإقليمية عبر دعم الحركات والمليشيات المندرجة ضمن فضاءها الفكري والمذهبي، بدءً بالعراق واليمن والبحرين لعزل وابتزاز دول الخليج العربي، مروراً بسوريا لتطويق وتحجيم دور منافسها الجيوبوليتيكي الأساسي (تركيا).

وقد ساعد إيران على إظهار تأثيرها في الشرق الأوسط عاملان أساسيان: الأول يتعلق بطبيعة نظام الحكم فيها والقائم على مركزية مذهبية تتيح لها تبني سياسات التدخل المباشر رغم الخسائر المتوقعة المادية والبشرية، والثاني يرتبط باستجابات الدول الإقليمية المعنية لهذه التدخلات المباشرة فمعظم الاستجابات كانت مرتبكة أو محدودة أو تفتقر إلى المقاربات الحازمة.

كما سمح واقع النظام الدولي الحالي لإيران بلعب أدوارٍ أكثر حدة وتحدياً، ويأتي ذلك نتيجة تراجع الاستجابة الدولية لعددٍ من التطورات الهامة والتي كان أولها غزو روسيا لجورجيا عام 2008 والذي يعد الحدث الأساسي الذي أعطى الانطباع بنمو دور روسيا عالمياً، ومن ثم التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا عام 2015 وضم شبه جزيرة القرم والحرب مع أوكرانيا عام 2014. هذه التطورات المتتالية في بنية النظام الدولي وعدم الاستجابة الواضحة والحازمة لها أعطى الانطباع لإيران بأن استخدام الأدوات العسكرية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية يمكن التغاضي عنه إذا ما كانت تكلفة ردعه كبيرة.

تفترض بعض نظريات السياسة الخارجية أن استخدام القوة لا يعد السياسة الأولى التي يتم اختيارها لتحقيق الأهداف، وهذا الأمر ينطبق على الدول التي تمتلك أدوات متنوعة لتنفيذ ملف (Portfolio) سياستها الخارجية، فهذه الدول تمتلك أدوات متنوعة يمكنها إحلالها (Substitutability)محل بعضها وفق محددات الكفاءة والفاعلية لتحقيق الأهداف. أما في حالة إيران فإن المبادرة بإثارة النزاع وتصعيد الموقف لحافة الحرب واستخدام المليشيات الموالية لها فيعتبر الأداة الوحيدة الموجودة لديها. وفق هذه الاعتبارات فإن استمرار إيران في اتباع استراتيجية الابتزاز والمبادرة بإثارة النزاع سيستمر وخصوصاً إذا ما تعزز موقفها باستجابة تراها إيجابية من قبل الأطراف التي تحاول ابتزازهم. وينطبق هذا السلوك في السياسة الخارجية على سلوك العصابات، حتى أن بعض المراقبين والسياسيين يرون في إيران دولة عصابة (Gang state)، أو دولة مارقة (Rogue State) على أقل تقدير.

وفي هذه الحالة فإن الاستجابة المتوقعة من قبل الدول القوية التي تملك أدوات تأثير متعددة كـ (الاقتصاد – النظام المالي- العمليات الدعائية- العمليات السرية) للسلوك المثير للنزاع من قبل إيران سيتجنب الرد على إثارة النزاع بالدخول في نزاع مباشر لأنه يمتلك أدوات أخرى ولتكلفة الأداة العسكرية. في حين أن الدول الضعيفة التي تحاول إيران ابتزازها ستتجنب الرد بالمثل لأسباب بنيوية تتعلق بتركيبة وبنية نظام الحكم فيها أو لعدم قدرتها على تحمل الخسائر الناتجة عن المواجهة المباشرة أو الرد بالمثل.

هذه الوضعية المعقدة والخطرة ستزداد خطورة أيضاً في ظل تقارب الاستراتيجيات بين روسيا وإيران، وهو الأمر الذي دعا له الجيوبوليتيكي الروسي ألكسندر دوغين والذي حض صناع القرار في موسكو على إطلاق ما أسماه " محور موسكو-طهران" والذي يُعمل عليه حالياً بوتيرة متزايدة. فالهدف الروسي وفق تعبير دوغين هو " إقرار السلام الإيراني Pax Persia"" وإقامة تحالف جيوبوليتيكي معها باعتبارها الجزء الجنوبي من خريطة التحالفات الجيوبوليتيكية الروسية، الأمر الذي يمكّن روسيا أيضاً من الوصول إلى المياه الدافئة واختراق ما أسماه ماكندر بإقليم الحافة Rimlandأو ما أسماه أحمد داوود أوغلو بالحزام الاستراتيجي.

في هذه الحالة فإن خطر استراتيجية الابتزاز الإيرانية سيتضاعف ولن يقف عند حدود ابتزاز دول الخليج والمنطقة العربية، بل سيؤدي إلى تطويق تركيا وفضاءها الثقافي الجيوسياسي، وابتزازها استراتيجياً ودفعها لتكون بين فكي الكماشة الروسية في الشمال والإيرانية في الجنوب.

إن خطر استراتيجية الابتزاز الإيرانية، ومحور موسكو- طهران الجيوبوليتيكي يعد خطراً مهدداً للمنطقة، ومؤثراً على طبيعة التوازن الدولي الحالي. ولذلك فإن التعامل معه وفق صيغٍ وسياسات تقليدية أثبت حتى الآن عدم نجاحه. وبالرغم من أن استراتيجية الضغط القصوى التي تتبعها الولايات المتحدة مع إيران قد أثرت على الاقتصاد الإيراني والقدرة الإيرانية على التسلح وتمويل أذرعها في دول الجوار، إلا أن هذه الاستراتيجية تعتبر قاصرة، فهي ستؤخر وتحد من قدرات إيران فقط.

إن إتباع استراتيجية مركبة تمزج بين استراتيجية الضغط الأقصى واستراتيجية تقطيع الأطراف، والعمل على تغيير بنية وسلوك نظام الحكم في إيران يعتبر الاستراتيجية المثلى لمواجهة استراتيجية الابتزاز الإيرانية.

ولذلك فإن على الدول الاقليمية في البداية إتباع مجموعة من الاجراءات التي تكفل تقطيع أطراف المشروع الإيراني بدءً من اليمن مروراً بسورية والعراق.

وهذه الاجراءات يجب أن تشمل تغيير طريقة واستراتيجية مواجهة المشروع الحوثي في اليمن وبنية التحالف القائم لمواجهته.

كما تشمل هذه الإجراءات أيضاً تبني الثورة السورية باعتبارها طرفاً فاعلاً يمكنه مواجهة أبرز أذرع إيران في أكثر الساحات تعقيداً وحساسية.

كما تتطلب هذه الاستراتيجية المقترحة إدراك الدول الإقليمية أن استراتيجية الابتزاز الايراني لن تقف عند حدود دولة بعينها بل ستمتد إذا ما نجحت الآن في تحصيل بعض المكاسب نتيجة عدم تطوير استراتيجية لمواجهتها، لتصل إلى نطاقٍ أوسع، ولتشمل دولاً أخرى.

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(1 تصويت)
Go to top