في الوقت الذي تتصدى فيه عين الشهباء الباسلة للمخرز الروسي الفارسي فإنها ترسم علامة استفهام كبيرة جداً.. إذ أن كل هذه التضحيات الجسام التي قدمها ويقدمها الشعب السوري لم تسفر سوى عن قدر من الخراب الهائل الذي لو لم نره بأم أعيننا لما أمكن تصديقه لفداحته ووحشـيته واتساعه حتى لم تسلم من شروره أية قرية في أقاصي الريف في أية محافظة من محافظات سورية..
لقد استطاع الطاغية حافظ أسد وورثته وزبانيته أن يجعل الشعب السوري يرسف في قيود الذل والهوان عشرات السنين عبر أساليب متعددة، ليست محور حديثنا هذا، وهي تحتاج إلى مقال خاص بها يبسط الحديث عن أدواتها ومرتكزاتها ومكر الليل والنهار الذي انتهجته حتى تمكنت من تطويع شعب عُرف بأنفته وتمرده على الضيم والعسف والهوان.. نقول إذن ما هو سر عدم نجاح ثورة الشعب السوري- حتى الآن- في تحقيق هدفها بالتحرر وأسقاط النظام الذي عمل على استعباده كل هذه العقود الطويلة؟!
قبل أن نبسط الحديث في الأسباب التي حالت دون انتصار هذا الشعب المبدع والمتميز في كثير من الأمور نود أن نشير إلى حقيقة جلّتها ثورات الربيع العربي وهي: أن الدكتاتور في أي بلد لا يترك هذا البلد إلا بعد أن يوصله إلى مرحلة قريبة من استحالة إصلاحه.. حقيقة مفجعة وترسل رسائل محبطة وتشجع اليأس على التطاول على العزائم المصرة على الحرية والحياة الكريمة.. حقيقة تمد لسانها استهزاءً وسخرية في كل من: ليبيا ومصر واليمن والعراق والشام..
لا شك ولا ريب في أن انتصار الشعوب هو عاقبة الأمور في كل الأحوال إلا أن الحقيقة السابقة تجعل فاتورة النصر مثقلة بالدماء والأشلاء والدمار وتطاول فترة الألم والوجع والمعاناة.. قد يقول قائل: وتونس؟! فنقول إن تونس هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة من جهة؛ ومن جهة ثانية فإن لها خصوصية محلية جعلتها تقبل بـ (نصف ثورة) هرباً من دفع فاتورة الثورة الكاملة، وهذا الأمر على الرغم من إيجابيته الظاهرة إلا أن مآلاته وعواقبه ليست كذلك.. فالجسم الذي تختبئ فيه بعض الميكروبات معرض لانتكاسة أكثر حدة من آلام العلاج الكامل والناجع..
بعد أن أشرنا إلى أم المصائب أي: الدكتاتورية وما تفعله.. نلتفت إلى (الضباع) التي تنهش في جسم الثورة السورية المثخن بالجراح النازفة العميقة، من هذه الضباع- على سبيل المثال لا الحصر والاستقصاء نشير إلى:
* الضبع الأول وهو تبلد الحس الغربي الذي لا يستشعر المصائب والكوارث التي تبعد عن محيطه، في الوقت الذي يكون فيه شديد الحساسية لأية حادثة تحل في بلدانه؛ فموت شخص أو أكثر من مواطنيه أكبر بألف مرة من ذبح عشرات أو مئات أو عشرات الآلاف من الناس في مشارق الغرب ومغاربها.. لذا نراه يتعامل ببرود متجرد من المشاعر وهو يرى كل هذه الدماء والدمار والأشلاء ولمدة ست سنوات وكأنها فيلم كرتون بل أجزم أن بعض المناظر المؤلمة في أفلام الكرتون تستدر دموع الغربيين أكثر من مناظر أشلاء أطفال سورية..
ان الذي يستعرض ما تمر به الثورة السورية من كوارث لا يمكن أن يصدق أن هذا البلاء كله يحدث بشكل يومي وهذه المدة كلها والغرب يعقد اللقاءات والمؤتمرات والاتصالات والمشاورات.. الخ كمثل طاحونة تعمل بكامل طاقتها وبتشغيل جميع آلاتها.. ولكنها لا تنتج ذرة طحين واحدة.. والعجب العجاب هو كيف استطاع الغرب تمرير هذه المدة كلها وهو يتصنع الاهتمام الكامل بهذا الدمار الذي يقدر بعض العسكريين بأن ما ضُربت به المدن والقرى السورية يعادل أربعة أضعاف حجم القنبلة التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي.. إنها أخلاق الغرب وقدراته الهائلة، إعلامياً وتكنولوجياً وتحملاً للمناظر والوقائع التي تؤثر حتى بالجماد.. بينما هو يتعامل معها وكأنها أرقام حسابية مجردة: كذا مليون مهجرين.. كذا مليون نازحين.. وكذا وكذا من القتلى والجرحى والمعاقين ودمار يجل عن الوصف.. الخ.
* الضبع الثاني الذي ينهش في جسم الثورة هو: روسيا وإيران تؤزهما أحلامُهما الأسطورية بإمبراطورية فارسية وأخرى روسية على أنقاض سورية، فهذه تجرب أسلحتها الفتاكة المتطورة، وتلك تعمل جاهدة على ضخ الحياة في الجسم الطائفي المركب من الحقد والوحشية الهائلة؛ فيستعرضان عضلاتهما على شعب مسالم أصلاً ليس له هدف سوى الحرية والعيش الكريم.. فيمعنان في عدوان شرس ضده بمعركة كسر إرادة؛ فينزفان هما ويهدران قوتهما وثرواتهما وراء أوهام يدحضها التاريخُ وشواهدُه التي لا تحصى حيث: ينكسر الغازي في كل مرة ويبقى البلد وشعبه مهما كانت التضحيات والثمن الذي يدفعه الشعب الصامد المصابر.. نعم الفاتورة ثقيلة بل وثقيلة جداً ولكن العبرة بالخواتيم كما تقول حقائقُ التاريخ والحق والمنطق طال الزمن أو قصر..
*وثالثة الأثافي هي: تفرق الثوار وتنافسهم بل وتقاتلهم في أحيان كثيرة وهذا يمثل أبلغ الوهن الذي يمكن أن يصيب جسم أية ثورة من الثورات، ومما يزيد الضعف والوهن أن لكل فصيل من فصائل الثورة السورية ثدي يرضع منه مقومات وجوده واستمراره.. وبالتالي يرتهن لتوجيهاته وأوامره وأهدافه التي لا تخدم هذه الثورة بأي شكل من الأشكال.
هذا التوصيف لا يشمل بالضرورة الفصائل قاطبة فلا شك أن ثمة فصائل نظيفة اليد والنفس والهدف.. إلا أن مستلزمات الثورة الكثيرة تجعل الفصيل (المدعوم) يتغول على الفصيل النظيف ومن ثم يكون صوته أعلى وأبواقه أقوى بل وينظر للناس إليه وكأنه هو أبو الثورة وأمها وابن بجدتها..
وما ذكرناه عن الفصائل العسكرية ينطبق بنسب متفاوتة على الجانب السياسي للثورة فالسياسيون الذين تقدموا الصفوف لم يكونوا بالكفاءة والكاريزما التي تتناسب مع حجم الثورة وتضحياتها وأهميتها الإقليمية والدولية فأقصى ما يمكن وصفهم بأنهم (مدراء) وليسوا (قادة) وغني عن البيان أن الثورات بحاجة إلى قادة وليس مجرد مدراء.. هذا الفقر المدقع في الجانب القيادي في الثورة أدى بالضرورة إلى فقدان (الرمز) الذي تلتف حوله القلوب والعقول والجهود والبنادق.. فهُدرت، وتُهدر، طاقاتُ هذه الثورة في جداول جانبية متشعبة بدلاً من أن تتجمع في سيل هادر يكتسح العقبات والحواجز والمعوقات للوصول إلى النصر الذي يصبو إليه الشعب السوري المصابر..
إن مناقشة هذه المسألة الملتهبة (بهدوء) لا يعني بالضرورة الإحاطة بكل جوانبها وعناصرها والمؤثرات التي تفعل بها؛ إلا أنها محاولة ومساهمة في فهم الإشكال الذي يجعل فهم صورة هذه الثورة عسير ومعقد ومتشابك.. ولعله يلقي الضوء على الأسباب التي أطالت عمر معاناة الشعب السوري وتضحياته التي لا تنضب.. فالموضوع يحتاج إلى أقلام عديدة وجهود كبيرة لتجلية كنه هذه الثورة-الضرورة ونفاسة معدنها، والتي (يحرم) التردد فيها أو ملاطخة الندم على القيام بها فهي رغم وجعها الفادح لصيقة بأخلاق هذا الشعب ومعدنه الأصيل، ولو لم يقوم بها لما كان جديراً ببركة الله ورسوله: اللهم بارك لنا في شامنا.. فهي شامة الدنيا والشيء من معدنه لا يستغرب.