بعد سنوات وعقود طويلة من عدم قيام مجلس الأمن بواجباته اتجاه معاناة الشعب الفلسطيني، كان ظنّ الفلسطينيين والعرب كما المسلمين عامّة، أن السّببَ الحقيقي، عدم جديّة الدّول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بتطبيق القرارات عدلاً وإنصافاً؛ فقد كانت قرارات الفيتو الأمريكي، تعطّل كل مشروع قرار فيه إدانة للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين؛ بينما لو كان العدوان ذاته، قد وقع على شعب آخر سوى الفلسطيني، من قِبل دولة غير إسرائيليّة، لتغيّرت المعالجة الدّولية!!
نعم .. لقد كانت القضية الفلسطينية من أكثر القضايا الدولية، التي أثبتت انحياز مجلس الأمن والدول الكبرى فيه، أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا خاصّة، إلى جانب العدوان الإسرائيلي، وعدم تطبيق القانون الدولي عليها، على الرّغم مِمّا تقوم به من مجازر حرب إبادة بشرية، من نحو ما حصل في السّنوات الثمانية الماضية في الغارات الحربية على قطاع غزة، دون تحرك مجلس الأمن ولا الدول الكبرى بمواقف تردع العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، حتى أصبحت القضية الفلسطينية معياراً لتقصير مجلس الأمن؛ بل معياراً لـ “ازدواجية المعايير” لدى مجلس الأمن والدول الكبرى في تناول القضايا الدولية.
وأمّا قصة الملف النووي الإيراني مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا فيما عُرِف بمصطلح خمسة زائد واحد، فقد دامت المباحثات أكثر من عشر سنوات، وقد فرضت على إيران العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي والتجاري والمالي وغيرها، بسبب محاولتها إنتاج طاقة نووية سلمية ولأغراض مدنية، ولكنها مُنعتْ من ذلك تحت ضغوط العقوبات الدولية، التي فرضها مجلس الأمن والدول الكبرى، والتي كانت معاناتها على الشعب الإيراني، بينما لا تقوم منظمة الطاقة الذرية الدولية بأية عمليات تفتيش عن المفاعلات النووية الإسرائيلية، ولا تكشف عن أماكنها ولا قدراتها النووية ولا ما تملكه إسرائيل من قنابل نووية منذ عشرات السنين؛ مِمّا جعل المسألة النووية وامتلاكها من قبل الدول العربية والإسلامية نقطة أخرى في ازدواجية المعايير في مجلس الأمن ولدى الدول الكبرى، وما يقع تحت يدها من منظمات دولية مثل منظمة الطاقة الذرية الدولية وغيرها.
وأمّا قصة الشعب العراقي في الحصار والعقوبات الدولية التي دامت ثلاثة عشر عاماً، تحت أكاذيب لفّقتها الإدارة الأمريكية السّابقة، فليست ببعيدة، وقد كانت نهايتها أكثر ألماً على الشعب العراقي والعربي والأمّة الإسلامية من نهاية الملف النووي الإيراني؛ إذ انتهت باحتلال العراق عام 2003 بذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل، والحقيقة التي أُقرّت، أنْ لا أثر لأسلحة دمار شامل على الأراضي العراقية، وأنّ أمريكا لم تقم سوى بتدمير العراق، والقضاء على جيشه، ونشر بذور الفتنة الطائفية؛ فضلاً عن تأسيس قواعد الإرهاب والمنظمات الإرهابية في العراق وسوريا، بل دول المنطقة والعالم الإسلامي برمته.
لقد أدركت الشعوب العربية والإسلامية، بل جميع دول العالم المقهورة ظلماً، أنّ نظام مجلس الأمن القائم على تحكّم خمس دول كبرى بمصير الشعوب والدول في العالم أجمع، نظام ظالم وفاسد، فهو لا يختلف عن النظام الاستعماري الكولونيالي القديم، نظام قائم على تحكم الدول الكبرى بالدول الصغرى وظلمها وسرقتها ونهب خيراتها، قانون الغاب ليس إلّا، بل أسوأ منه؛ إذ يدّعي تطبيق القانون الدولي، وقد وضعته وأقرّته الدول الخمس الكبرى، لتضمن مصالحها وتفوّقها الدائم، وبقاء باقي الدول الصغرى على حالها في ضعف وتخلف، وإذا ما حاولت شعوبها النهوض بأحوالها، وتصحيح أنظمتها السّياسية والاقتصاديّة، فإنّ الدول الكبرى تختلق لها المتاعب وتشتّت قواها في حروب أهليّة أو إقليميّة، وإذا جاءت الدول الصّغرى أو شعوبها لطلب المساعدة من الدول الكبرى المستكبرة، فإنّها ستكون مثل الفريسة التي تسلِّم نفسها إلى صيادها، والأخطر من ذلك أنّ تأتي الدول الصغرى إلى الدول الكبرى ومجلس أمنها لتحتكم إليها في نزاعاتها الدولية الوطنية أو القومية أو الإقليمية أو العالمية، عندها ستكون الدول الكبرى والدولة الأكبر فيها، حيث الولايات المتحدة الأمريكية، الحكم الأوحد والسلطة العليا في حل النزاعات الدولية ظاهراً، بينما هي تزيد في ضعف الدول وتخلفها، وتزيد من أسباب الصراع والنزاعات الدولية على الحقيقة ، ولعلَّ أكثر ما تميّزت به في السنوات الأخيرة، حرصها على استدامة النزاعات الأهلية داخل الدولة الواحدة والشعب الواحد.
لقد مارست الدول الخمس الكبرى أمريكا وروسيا خاصّة، ازدواجية في المعايير القانونية والإنسانية والسياسية، لاسيّما في السنوات الخمس الماضية في العراق وسوريا واليمن وغيرها، وقاسمها المشترك أنها دول تشارك الجمهورية الإيرانية في سياستها الطائفية، فالشعب العربي والإسلامي اعتاد على ازدواجية المعايير الأمريكية في التعامل مع الدولة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب، ولكنها لم تعتد على ازدواجية المعايير مع الدولة الإيرانية، إلا بعد أنْ أخذت تمارس سياسة طائفية خطيرة في المنطقة والبلاد العربية، فأخذت روسيا تؤيّد السياسة الإيرانية لأسباب اقتصادية وسياسية وأمنية، حيث تجد في الدولة الإيرانية وسياستها الطائفية قدرة عسكرية لتحقيق أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التوسّع في الشرق الوسط عامة، وفي سورية خاصّة، لاسيّما على الساحل السوري المطل على البحر الأبيض المتوسط، لما له من مستقبل اقتصادي في النفط والغاز؛ هذه الأطماع دفعت الرئيس الروسي إلى اتّباع سياسة منحازة للمحور الإيراني الطائفي في المنطقة، والتضحية بعلاقات روسيا مع تركيا وعدد من الدول العربية وفي مقدمتها الدولة السعودية، إذا أصرّت روسيا على القضاء على المعارضة السورية التي تدعمها السعودية ودول الخليج العربي.
إنّ انحياز أمريكا إلى السّياسة الإيرانية، أصبح رأياً عاماً في أمريكا نفسها، فالكتاب الأمريكيون يقولون إنّ الرئيس الأمريكي أوباما طالب إيران تأخير اتفاقها مع الإدارة الأمريكية السّابقة لحين توليه الرئاسة الأمريكية، وعقد معها اتفاقاً استراتيجياً لإطلاق يدها في المنطقة العربية، مقابل تخلي إيران عن مشروعها النووي، وعدم تعرضها للمصالح الأمريكية في الشرق الوسط، وعدم تعرضها للمد الإسرائيلي، وعلى هذا الأساس أطلقت أمريكا يد ايران القاتلة في العراق وسوريا واليمن وغيرها، وهي تعلم – أي امريكا- أنّ السياسة الإيرانية سياسة طائفية بامتياز، وأنها سوف تدمر العراق تدميراً كاملاً، وأنّها سوف تقضي على جيشه واقتصاده ونفطه وحضارته، وأنها سوف تمزق شعبه وتسمّم أرضه وسمائه، والأمر ذاته أتاحته أمريكا لإيران في سورية… وبعد ذلك تقف أمريكا مُدّعية الانحياز إلى الحلول السياسية التي تقدّمها إيران وروسيا للأزمة السورية!!
غير أنّ هذا الواقع المقيت تجاه الشعوب العربية والإسلامية؛ حيث المعايير المزدوجة في أمريكا وأوربا، بل في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية، كان لابدّ أن يكون له صدى سلبياً على الشعوب المقهورة التي عاشته ومرّت بتفاصيله، تناقضاً وتفارقاً وتبايناً في المواقف؛ فكان “الانتقاد” سياسياً ورسمياً من قبل الدول العربية، تبعه رفض المملكة العربية السعودية الجلوس في مقعد العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن بتاريخ 27/10/2013، وقد رفضت ذلك رسمياً بعد مضي ساعات من انتخابها “عضواً” في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي انتُخبت لشغله في 17 أكتوبر/2013، وهذا الرّفض كان صدمة لمجلس الأمن والدول الكبرى، وفرحة ورضىً من الشعوب العربية والإسلامية.
لقد جاء القرار السعـودي ومن بعـده القــرار الكويتي الذي رفض أن يحـل مكــان السعوديـــة في مجلس الأمن، رفضاً صارخاً لـ “ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين” والعجز التام عن حفظ الأمن والسّلم في العالم؛ فقد فشل مجلس الأمن عن حلِّ المشاكل العربية والإسلامية منذ تأسيسه وحتى اليوم، بل زاد في السنوات الأخيرة في ظلمه للشعب السوري والعراقي وغيرهما.
إنّ الفشل الأكبر الذي قدمته الدول الكبرى ومجلس الأمن هو عدم معالجتها المأساة السورية، فقد سكتت هذه الدول الكبرى بما فيها مجلس الأمن عن قتل رئيس جمهورية لأكثر من نصف مليون سوري حفاظاً على السلطة، دون أن تقدم ما يُمكّن الشعب السوري من الدفاع عن نفسه، بل تركت الرئيس بشار الأسد، دون مساءلة قانونية وقد قتل وحرق واستعمل السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة، وكانت الدول الكبرى، وأمريكا، وروسيا خاصّة، تكافئه على تدمير سورية وقتله للشعب السوري، فلم يجرؤ رئيس دولة في العالم القيام بنفس الأعمال الإجرامية التي قام بها بشار الأسد منذ عقود وربما منذ قرون.
من الواضح أنّ أمريكا خدعت الشعب السوري كثيراً، وكرّرت ازدواجية المعايير مع بشار الأسد وحليفه طائفياً الدولة الإيرانية، وحليفه في القتل الهمجي والحكم الدكتاتوري الرئيس الروسي بوتين، فأمريكا تورّط روسيا في سورية، ولا تلتفت لمن تقتلهم الطائرات الروسية الحربية، ولا تلتفت لمن تقتلهم الصواريخ الباليستية الروسية، تطلقها على الشعب السوري من البحر السود على مسافة تزيد عن ألف وخمسمائة كيلومتر، وربما تكون أمريكا والبنتاغون شريكاً للجيش الروسي في هذه المناورات العسكرية في سوريا، فأمريكا أنهت الترسانة الكيماوية السورية باتفاق بينها وبين الحكومة الروسية وليس مع بشار الأسد إلا في الخطوات التّنفيذية، لأنّ روسيا وأمريكا وإيران شركاء في الرؤية السّياسية لحل الأزمة السورية، التي تقوم على أساس واحد، ألا وهو عدم تمكين الشعب السوري من حكم نفسه بنفسه، وتركه فريسة للطائفيين السوريين، والطائفيين الإيرانيين على حدّ سواء، فضلاً عن الحرس الثوري وميليشياتهم اللبنانية والعراقية والأفغانية.
وربما كان يمكن تفهم الانحياز السياسي لأمريكا وروسيا مع نظام الحكم الطائفي السوري لأسباب أمنية واقتصادية، ولكن ما لا يمكن فهمه ولا تفهمه المعاناة الإنسانية التي يعانيها الشعب السوري من حالات الحصار ومنع الغذاء والدواء والماء عن قرى ومدن من الشعب السوري طائفياً!
فما المصلحة التي تتحقّق لمجلس الأمن وهيئاته الإنسانية إذا تجاهلت معاناة الشعب السوري؟!
لِمَ .. وكثير من السوريين ماتوا جوعاً أو أكلوا الجيفة والحيوانات والأعشاب البرية؟! لمَ تسكت الأمم المتحدة على هذه المجاعات؟ ولمَ لا تقدم أمريكا والدول الأوروبية المساعدات الإنسانية للشعب السوري؟
أسئلة كثيرة .. ولا جواب سوى قفل الأبواب، وإحكام غلقها في وجه السوريين، فها هي أوربا عندما جاءها بضعة آلاف من المشردين من الحرب، أثارت ضجيجاً وخوفاً على مستقبل أوروبا وهويتها الحضارية.. لماذا يفكرون بالمخاطر التي قد تلحق أوروبا بعد عقود من استيطان السوريين المسلمين فيها، ولا يسارعوا لوقف آلة القتل والتهجير والتشريد ؟ فهذا القتل الهمجي هو السبب في الهجرة واللجوء بل والمخاطر في عبور البحار، والموت فيها أو الوصول إلى حدود الدول الأوروبية لمزيد من المعاناة والمأساة.
لقد جاء وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأنّ العالم أكبر من خمس دول، بمنزلة التنديد لحصر القرار الدولي والعالمي بـ (الدول الخمس) دائمة العضوية؛ فقد فشلت هذه الدول في إقامة العدل والمساواة والحقوق بين الدول والشعوب، بل كانت قيادتها للعالم منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، عاراً على دولها خاصّة، وعاراً وخسارة على البشرية عامّة، فقد أثبتت هذه الدول أنها دول أنانية، تبحث عن مصالحها فقط، وأنها لا تُعير الشعوب الأخرى أيَّ احترام أو تقدير، وأنها حكمت في النّزاعات الدولية بمعايير مزدوجة، بناءً على مصالحها الخاصّة، أو بناءً على المصالح المشتركة فيما بينها، حتى لو أدّت إلى قتل ملايين البشر في الحروب أو في الأمراض أو غيرها.