انطلقت الثورة السورية سلمية ضدّ نظام الاستبداد الحاكم، الذي واجهها بالرصاص والقتل، ثم تطور به الأمر لاستعمال كافة الأسلحة الخفيفة والثقيلة، وحتى الطائرات بأنواعها، والأسلحة المحرمة دولياً، ما انعكس تدميراً وتهجيراً غير مسبوق في تاريخ سورية منذ القديم وحتى اليوم. على ضوء ذلك طالب الشعب السوري من الدول "الصديقة" ومؤسسات المجتمع الدولي إيقاف النظام عن إجرامه، وخاصة استخدامه الطيران في قصف وتدمير المناطق الخارجة عن سيطرته، وتأمين حماية المدنيين في تلك المناطق، وذلك من خلال فرض منطقة حظر طيران، إلا أنّ أحداً ما لم يعمل على ذلك، سواء على مستوى الدول أو المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة المسؤولة عن "حفظ الأمن والسلم الدوليين".
ونتيجة لازدياد موجات النزوح والهجرة من مناطق القصف باتجاه دول الجوار، تطورت هذه المطالب على مستوى هذه الدول للعمل على إقامة مناطق آمنة لحماية المدنيين، وخاصّةً دول الجوار "تركيا والأردن" وأحياناً لبنان، وهي الدول التي تحمّلت العبء الأكبر من موجات اللجوء هذه. وكانت تركيا في مقدمة الدول التي دعّت منذ عام 2012 لإقامة مناطق آمنة للمدنيين، وخاصةً على حدودها مع سورية، إلا أنّ جميع الدول والمنظمات الدولية لم تعمل على تأمين تلك المناطق، فازداد النظام السوري وميليشياته المستوردة إجراماً وتدميراً، والذي ازداد بعد التدخل الروسي ضدّ الشعب السوري وثورته منذ العام 2015.
ورغم أن تركيا هي أكثر الدول الداعمة للشعب السوري، إلا أنها لم تستطع إقامة تلك المناطق نتيجة تقاعس الدول الحليفة لها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي عملت إدارتها في عهد الرئيس باراك أوباما على تسليم الملف السوري بأكمله لروسيا، سياسياً وعسكرياً، وقد عملت روسيا من جانبها على القضاء على الثورة السورية عسكرياً، وهو ما لم تستطع تحقيقه حتى اليوم.
ومع وصول دونالد ترامب إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأنا نلمس تغيراً طفيفاً في اللهجة الأمريكية في الكثير من الملفات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الملف السوري، حيث عادت فكرة إقامة مناطق أمنة إلى الواجهة، مع تأكيد عدد من المسؤولين الأمريكيين أن إدارة ترامب بدأت فعلاً دراسة موضوع إقامة مناطق آمنة في عدد من مناطق سورية الشمالية والجنوبية والغربية، ولكن أين ستكون هذه المناطق الآمنة من جغرافية سورية؟
بالرجوع قليلاً إلى خارطة توزع مناطق السيطرة بين جميع الأطراف المتصارعة، نرى بأنّ عملية فرز لمناطق السيطرة بين الأطراف المختلفة قد بدأت فعلاً، وبدأت ترتسم خطوط التقسيم بين هذه المناطق، دون أن يكون هناك أي اعتراف لأي طرف بأن ذلك هو مقدمة للتقسيم الفعلي لاحقاً.
ففي الشمال السوري نلاحظ وجود صراع ظاهري بين كل من ثوار سورية المدعومين من تركيا "درع الفرات"، والميليشيات الكردية بقيادة "قوات سورية الديمقراطية" المدعومة أمريكياً، وقوات تنظيم الدولة "داعش"، والنظام السوري المدعوم روسياً وإيرانياً.
وفي الجنوب تتقاسم مناطق النفوذ والسيطرة أيضاً عدد من القوى هي فصائل الثورة السورية في كل من محافظات ريف دمشق والقنيطرة ودرعا وبعض مناطق ريف السويداء، مع وجود مناطق سيطرة لقوات النظام السوري، وخاصة العاصمة دمشق وبعض أريافها، والطريق الواصل بين دمشق ودرعا، والسويداء، بالإضافة لنفوذ أقل لتنظيم الدولة "داعش" في منطقة الحجر الأسود بريف دمشق، وبعض مناطق ريف درعا والسويداء.
وفي المنطقة الوسطى والساحلية نشاهد سيطرة شبه متساوية بين فصائل الثورة من جهة، وقوات النظام السوري من جهة ثانية، بحيث تسيطر قوات النظام على معظم المنطقة الساحلية، باستثناء أجزاء من ريف اللاذقية الشمالي الخاضع لسيطرة الثوار، والمتصل بمحافظة إدلب الخاضعة كلياً للثوار مع أجزاء من أرياف حماة وحمص، كما تسيطر قوات النظام على معظم محافظة حمص ومدينة حماة في وسط البلاد.
أما الجهة الشرقة من سورية فهي تحت سيطرة قوات تنظيم الدولة "داعش" بشكل واسع وتشمل محافظة الرقة ودير الزور وريف حمص الشرقي، وبعض مناطق من ريف حماة الشرقي، مع وجود نفوذ قليل للنظام في مدينة دير الزور ومدينة تدمر بريف حمص الشرقي.
هذه السيطرة المعقدة والمتداخلة بين مختلف القوى في سورية جعلت من الصعب إقامة مناطق آمنة تكون ملاذاً للسوريين، ومأمناً لهم من القصف، لذلك حاولت بعض القوى الإقليمية التي تدعم كل واحدة منها قوى معينة على الأرض السورية من توسيع نفوذ سيطرة هذه القوى قدر المستطاع، بهدف فرض إرادتها وأجندتها فيها، فأخذ الأكراد يتوسعون في المنطقة الشمالية بدعم أمريكي – روسي، مكنهم من السيطرة على مناطق واسعة في منطقة منبج بريف حلب والتقدم نحو محافظة الرقة التي باتوا على أبوابها، وذلك على حساب تنظيم الدولة "داعش" ومناطق الثوار السوريين، وخاصة في منبج وتل رفعت التي سيطرت عليها من نحو عام قوات "سورية الديمقراطية"، وذلك بهدف تأمين منطقة جغرافية واسعة قد تمكنهم من إقامة حكم ذاتي مستقل في هذه المنطقة، إلا أنّ ما عكّر صفوهم هو قيام تركيا بالتوغل داخل سورية من ابتداءً من جرابلس وصولاً إلى مدينة الباب ضمن عملية "درع الفرات"، التي أدّت إلى فصل مناطق سيطرة الأكراد في منطقة الحسكة ومنبج شرقاً عن منطقة عفرين غرباً. واستطاعت تركيا تأمين هذه المنطقة الجغرافية التي عادت للحياة مجدداً من خلال تأمينها لمعظم المقومات فيها، وفي مقدمتها الأمن، مما دفع عدداً كبيراً من السوريين في الداخل للتوجه إليها، والسوريين في تركيا للعودة إلى هذه المنطقة.
إذاً يمكن القول إنّه، وبعد سبع سنواتٍ من الصراع السوري، لم يعد الهدف من فكرة إقامة مناطق آمنة في سورية هو نفسه الهدف الذي كان منذ بدايات الثورة السورية، حيث رغبت بعض الدول الداعمة للثورة، وفي مقدمتها تركيا لإقامة مناطق آمنة يلتجأ إليها السوريون النازحون من مناطقهم نتيجة للقصف والتدمير الذي مارسه النظام السوري وميليشياته عليهم. أما اليوم فقد أصبح الهدف من هذه المناطق هو إعادة توزيع قوى السيطرة في سورية على أسس طائفية وقومية، وإعادة هيكلة البلاد ديمغرافياً، كمقدمة لتقسيم فعلي محتمل تسعى إليه العديد من الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك روسيا وإيران، بدأنا نتلمس خيوطه واقعاً، وربما نراه في المستقبل القريب إن استمر الوضع داخلياً وخارجياً على ما هو عليه. ولن يُفشل هذا المخطط سوى إعادة هيكلة كاملة لقوى الثورة السورية، عسكرياً وسياسياً، وتكاتف جميع هذه القوى في وجه هذا المخطط التقسيمي المُسمى "المناطق الآمنة" التي رفضت الولايات المتحدة إنشاءها عندما كانت تطلب تركيا ذلك لوجود سيطرة كاملة للثوار على معظم جغرافية سورية، وتعمل على دراسة إقامتها اليوم بعد أن أُجبرت قوات الثورة عن التراجع عن كثير من تلك الجغرافية لحساب تنظيمات وقوى صنعتها القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران، لذلك نسأل السؤال هذا: لماذا هذه المناطق الآمنة الآن؟
والجواب: لأنها ستكون مناطق تقسيم آمنة، وليست مناطق آمنة. والفرق بينهما كبير.