مما لا شك فيه: أن الصراع في سورية ذو طبيعة ديناميكية متغيرة، لدخول عامل الزمن فيه، والحقيقة هي لا شيء ثابت مع متغيرات الزمن، هذا بالإضافة إلى تعدد الأدوار والمصالح والأجندة المؤثرة في حركة الصراع وأحداثه، التي بدأت محلياً، بين قوى النظام الأمنية والعسكرية وحشود ثورية سلمية نادت بداية بالإصلاح، ثم هتفت بإسقاط النظام، ثم ذهبت مضطرة إلى تشكيل مجموعات مسلحة دفاعاً عن النفس، ثم تطور الصراع بتدخل إيران وأذرعها الطائفية لصالح النظام، وأخذ بعداً آخر بالتدخل الروسي العسكري الوحشي، بالقصف الجوي والصاروخي، الذي أدى إلى تغيير موازين القوى على الأرض لصالح النظام وحلفائه الطائفيين.
ومما لا شك فيه أيضاً: أن المصالح يمكن تحقيقها من خلال تفاهمات وضمانات مع أي طرف، ولا يشترط فيه النوع، أما تحقيق المشاريع الأيديولوجية فمختلف عن المصالح تماماً، وأن تقاطع مصالح اللاعبين الدوليين ومشاريعهم على الساحة السورية، لا تعززه أهدافهم الاستراتيجية المختلفة، وخاصة على الجبهة الداعمة للنظام، والممانعة لإسقاطه، التي جمعت طيفاً متناقضاً من المصالح والمشاريع، يشمل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران والكيان الصهيوني، مما يعني بالنتيجة أن هؤلاء المتقاطعين في المصالح، والذين يرون ضمانة مصالحهم في عدم إسقاط النظام، وحالوا دون ذلك علانية وسراً حتى الآن، لهؤلاء محددات وأجندة مختلفة سوف تفسد عليهم توافقهم على المدى الاستراتيجي، وهذا التوافق لهم على أهداف تكتيكية مؤقتة، لن يدوم طويلا إلى مالا نهاية، فبوادر الخلاف بين روسيا وإيران ظهرت جلية في عملية إخراج المقاتلين من حلب وفي تنفيذ اتفاق وقف اطلاق النار الشامل في سورية برعاية روسية – تركية، عندما حاولت إيران فرض أجندتها أو تعطيل تنفيذ الاتفاقين، وذكر الفاروق أبو بكر مندوب فصائل حلب للمفاوضات مع الروس في مقابلة له على قناة الجزيرة، أنه كان يتفاوض في حلب مع الروس والإيرانيين بآن واحد، وكل طرف منهما كان يقول له كلاماً مختلفاً عن كلام الآخر، ما يظهر بينهما خلافاً وعدم تنسيق.
ومما لا شك فيه أيضاً: أن الدور الاستراتيجي الفاعل لأي من اللاعبين على الساحة السورية، لا بد له من توافر شريك محلي أو أداة تنفيذية على الأرض، تعزز دوره وتجنبه الغوص مباشرة في وحل هذا الصراع الدامي، المرشح للاستمرار طويلاً، وعليه كان الآتي:
- تبنت الولايات المتحدة الأمريكية المليشيا الكردية "pyd" ودعمتها على حساب علاقتها الاستراتيجية مع تركيا.
- واعتمدت إيران على حزب الله الشيعي اللبناني وأذرعها الطائفية الاخرى من الميلشيات الشيعية العراقية والأفغانية.
- فيما بنت تركيا علاقات متينة مع معظم فصائل الثورة السورية المعتدلة في شمال سورية.
- وأدركت روسيا ضعف موقفها على الأرض أمام النفوذ الإيراني وسيطرة المليشيات الشيعية الطائفية، فبدأت في إعادة تأهيل بعض التشكيلات المسلحة في جيش النظام المنهار، كي تعزز دورها وتأثيرها على الأرض، وإن ذلك سوف يدخلها في منافسة تصادمية مع إيران وميلشياتها، وليس أدل على ذلك من محاولة تعطيل الاتفاقات الروسية الأخيرة مع تركيا ومع فصائل الثورة، ومنع حزب الله لضباط روس من الدخول إلى منطقة وادي بردى.
وهكذا سيتعزز تناقض الأجندة الدولية المختلفة بتناقض الأجندة المحلية المتصارعة على الساحة السورية، والمتمثلة في المليشيا الكردية "pyd"، والمليشيات الشيعية الطائفية، وفصائل الثورة السورية المعتدلة، وقوى التطرف المتمثلة في تنظيم الدولة ومن يؤيده.
ويتعزز التناقض المذكور أيضاً بتفاصيل الحل السياسي الذي يتبناه اللاعبون خياراً وحيداً للحل في سورية، ولكن بصيغ ضبابية مختلفة، تعبر عن وجهات نظر متباينة، يمكن إيجازها بالآتي:
- الحل السياسي بإسقاط النظام ومحاكمة رموزه، ثم القضاء على الارهاب، صيغة تتبناه قوى الثورة الفاعلة على الأرض.
- القضاء على الثورة والارهاب، ثم الحل السياسي بمشاركة سياسية شكلية للمعارضة مع النظام، صيغة تتبناه إيران وقواها الطائفية مع النظام.
- الحل السياسي برحيل رأس النظام، مع الابقاء على الأجهزة الأمنية والجيش، صيغة ربما تميل لها روسيا.
- الحل السياسي برحيل رأس النظام، وحل الأجهزة الأمنية وإعادة تشكل الجيش، صيغة تميل لها تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر والمعارضة السورية في الخارج.
- الحل السياسي بصيغة دولة مركزية، والحفاظ على وحدة سورية، صيغة يميل إليها السوريون الوطنيون.
- الحل السياسي بالصيغة اللامركزية، من خلال نظام فيدرالي للأقليات، صيغة تميل لها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي.
إن المفاوضات المطروحة على نمط مائدة سورية – سورية، سواء كانت على شكل ما جرى في جنيف برعاية أممية أم على ما سوف يجري في الأستانة برعاية روسية - تركية، دون أي ضغط دولي على النظام، لن تفضي إلى نتيجة تضمن حلاً سياسياً قابلاً للتطبيق، ويجلب الاستقرار السياسي لسورية، بعد الذي جرى فيها من قتل وتدمير وتمزيق للبنية الاجتماعية.
ومع استحالة هذا الحل وغيره من الحلول، فالصراع سيستمر في سورية بصورة أو بأخرى، وأن الخلاف بين اللاعبين الدوليين قادم مع الزمن لا محالة، وأن التغيرات في المواقف والاصطفافات سوف تحدث حتماً، والصدام فيما بين اللاعبين في سورية لا يمنعه أو يؤجله إلا توازن الرعب والخوف من الدخول في حرب إقليمية طاحنة أو حرب عالمية ماحقة.
ولم يعد لأحرار سورية سوى الصبر على الزمن بالرغم من كلفته الباهظة على الشعب السوري، ثم العمل والتنسيق مع تركيا على تغيير المواقف الدولية من الأزمة السورية ومأساة الشعب السوري، التي قد تتغير في عهد الادارة الأمريكية الجديدة، فإن ثمة معطيات ومتغيرات جديدة قد تؤدي إلى تغيير القناعات والمواقف لدى بعض الأطراف، وتقلب موازين الصراع في سورية، ويبدو أهمها فيما يلي:
أولاً- التفاهم الروسي – التركي، والتقارب بين البلدين في وجهة النظر بشأن صيغة الحل السياسي في سورية، وبضرورة الاسراع به، فكلاهما بات يعاني من ضغط الاستمرار في هذا الصراع، فروسيا لا ترغب بالانغماس به إلى مالا نهاية، وتركيا ترغب بالتحلل من تبعاته وانعكاساته على أمنها القومي، وجوهر الأمر في هذا التفاهم، والكفيل بتعديل الموقف الروسي المنحاز إلى النظام، يكمن في ضمان المصالح الروسية في سورية، فهل تعجز المعارضة السورية بالتعاون مع تركيا عن اقناع روسيا بضمان مصالحها مع الشعب السوري؟
ثانياً- الخلاف – الروسي الايراني، الذي بات حقيقة ملموسة بالوقائع، نتيجة للتنافس على النفوذ في سورية، والاختلاف في وجهات النظر بين البلدين بشأن صيغة الحل السياسي للصراع، فالأجندة الايرانية تعمل على الساحة السورية في خدمة مشروع أيديولوجي طائفي، يختلف عن طبيعة المصالح السياسية أو الاقتصادية للآخرين كافة، وهذا ما سيجعل إيران على خلاف وتناقض استراتيجي مع جميع الأطراف مستقبلا، وحتى مع بعض أركان النظام الذين تعمل روسيا على استيعابهم.
ثالثاً- الموقف الأمريكي الجديد لإدارة الرئيس دونالد ترامب، والذي من أهم مؤشراته التي عكستها التصريحات الأمريكية للإدارة الجديدة، ما يلي:
1- العمل على إعادة هيبة الولايات المتحدة الأمريكية، وتفعيل دورها السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
2- التنسيق مع روسيا في محاربة الارهاب، وخاصة ضد تنظيم الدولة.
3- إعادة تعزيز العلاقة مع تركيا كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، ودعمها في حربها على الارهاب، وإصلاح ما أفسدته إدارة الرئيس أوباما، التي تآمرت على أمن تركيا، وعملت ضد مصالحها في المنطقة.
4- الحد من تنامي النفوذ الايراني في المنطقة، وقد نشهد لذلك اصطفافاً أمريكياً – روسياً - تركياً – خليجياً في الحرب على الارهاب وضد إيران الداعمة للإرهاب فعلاً، ولن يحول دون هذا الأمر سوى خلاف أمريكي – روسي، يجعل الاصطفاف روسيا تركيا – أمريكيا إيرانياً، وهو احتمال ضعيف جدا.
رابعاً- إن نقطة الضعف السياسية الوحيدة للثورة السورية في المستقبل القريب، هي مسألة جبهة فتح الشام المصنفة على قائمة الارهاب عالمياً، وكيفية معالجة هذه المسألة، فالجبهة تتكون في معظمها من السوريين، وتشكل فصيلاً فاعلاً وقوياً على الساحة السورية، وكان لها دوراً فاعلاً في محاربة النظام، وماتزال، فهل تقبل الجبهة بحل نفسها؟، أم تذهب للصدام مع الجميع عالمياً ومحلياً؟
خامساً- تركيا التي أريد لدورها سابقاً أن يكون هامشياً في الأزمة السورية، وصبرت على ذلك، سوف تكون عراب المنطقة في المرحلة القادمة، والوسيط الفاعل في الأزمة السورية بشكل خاص، وفي جميع قضايا المنطقة بشكل عام، بما تملكه من مقومات استراتيجية، وإمكانات مادية، وقوى ناعمة وعسكرية، وحكمة هادئة، وسياسة متزنة، وعلاقات قوية متعددة، وخاصة مع روسيا، ومع أمريكا، ومع معظم فصائل الثورة السورية.
فليحذر الذين يسيئون إلى العلاقة مع الشقيقة تركيا، بإلقاء اللوم عليها، وتحميلها مالا طاقة لها على حمله، أو بالتشكيك بدورها الذي تقوم به، فتركيا كانت طيلة المدة الماضية ومازالت تتحرك بين الألغام، وأدارت سياستها بحكمة هادئة، ومواقف متزنة، ضمن حدود الممكن، ولم تتغير مواقفها، ولم تخرج من دائرة التأثير، بل عززت وجودها بانتظار لحظة الظروف المناسبة، فلنكن معها إيجابيين كسوريين عز علينا السند والنصير، من أجل تحقيق مصالحنا ومصالحها المشتركة.
تقدير الموقف على موقع المركز