يدرك المتابع لأحداث الثورة السورية وما نجم عنها من متغيرات كبيرة وجذرية على الأصعدة كافة، أبرزها تحول الثورة من العمل السلمي إلى العمل العسكري ضدّ النظام السوري، ثم تصاعد حدّة القتال وتطوره حتى الوصول به إلى مرحلة الصراع والحرب المفتوحة، يدرك تماماً أنّ ذلك لم يتم دون قيام قوى إقليمية ودولية بالتدخّل في هذا الصراع سواء بطريقة غير مباشرة أو مباشرة، وهي في الواقع لا تسعى إلى حل هذا الصراع على الأقل بالطريقة التي يسعى إليها الشعب السوري الذي انتفض على هذا النظام وظلمه واستبداده وطغيانه، بل تريد حلّاً على طريقة إبقاء النظام السوري على رأس السلطة، وإعادة تعويمه وتسويقه كمحارب أساس ضدّ ما يسمونه إرهاباً، بالرغم من كل ما ارتكبه هذا النظام من قتل وتدمير وتهجير وتشريد، وفي مقدمة تلك القوى "إيران وروسيا".
ولكن بالرجوع قليلاً إلى بدايات الثورة السورية، وتحديداً فيما يخص موقف الولايات المتحدة الأمريكية، فقد دعت الولايات المتحدة على لسان رئيسها باراك أوباما، إلى ضرورة رحيل رأس النظام السوري "بشار الأسد" عن السلطة، وأنّ أيامه في الحكم باتت "معدودة"، إلا أنّ طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع ذلك الموقف والمطلب اختلف جذرياً، بحيث لم تفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك، حتى ولو إجباره على وقف همجيته ووحشيته، ناهيك عن إجباره على الرحيل كما كانت تريد "إعلامياً" على أقل تقدير.
من هنا نرى تغير أولويات السياسة الأمريكية تجاه الملف السوري من طلب تنحي الأسد عن السلطة إلى تأجيج الصراع بين مختلف أطراف الصراع في الداخل "النظام والثوار"، وإشراك أطراف جديدة في هذا الصراع "الأكراد"، بهدف زيادة تعقيد المشهد السوري، ثم العمل على توريط أطراف وقوى خارجية في هذا الصراع، كإيران وروسيا وحلفائهم من مختلف الميليشيات والجنسيات. وقد نجحت فعلاً في ذلك من خلال غض الطرف، أو لربما بضوء أخضر أمريكي، من إخال إيران وروسيا في أتون هذا الصراع الطويل والمعقّد بهدف استنزافها مالياً واقتصادياً وعسكرياً، مع العمل ظاهرياً على محاولات إيجاد حل سياسي للملف السوري من خلال جرّ جميع الأطراف إلى طاولات المفاوضات المتنقلة بين عواصم الدول الأوروبية، وطاولات المحافل الدولية والأممية، لكن دون الوصول إلى اتفاق، وحتى إفشال أي اتفاق سياسي محتمل، وهو ما رأيناه الأسبوع الماضي بعد توصل روسيا وأمريكا إلى اتفاق هدنة في سورية يكون انطلاقاً لبدء العمل السياسي الهادف لإنهاء الصراع السوري، إلا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قامت بعدها مباشرةً بقصف مواقع لجيش النظام السوري في دير الزور، ادّت إلى وقوع عشرات القتلى والجرحى في صفوف قوات النظام والميليشيات الداعمة له، وهو ما أثار حفيظة موسكو، وأدّى إلى إنهاء الهدنة وعودة عمليات القصف في مختلف جبهات القتال، وخاصةً في حلب وريفها، كل ذلك بهدف إفشال الاتفاق، وإبقاء الصراع محتدماً في الداخل السوري، وإغراق الدول بالمزيد في المستنقع السوري، كما ذكرنا سابقاً، لذلك تعمل الولايات المتحدة على إدارة الصراع في سورية بدلاً من حلّه، وهي بذلك تسعى لإطالة عمر الصراع أكبر فترة زمنية ممكنة، من خلال المزيد والمزيد من إدارة الصراع، ضمن إطار السياسة التي تبنتها إدارة الرئيس أوباما ونجحت فيها إلى حدٍّ بعيد.
ومع وصول عهد أوباما الرئاسي إلى نهايته، بات الجميع اليوم يتحدث عن نقل الملف السوري للإدارة الأمريكية الجديدة القادمة خلال أسابيع، حيث ستتسلم ملفاً ثقيلاً ليس من السهل حلّه خلال أسابيع أو حتى أشهر على أقل تقدير، لذلك لا يمكن أن نتأمل حلاً سريعاً للملف السوري عند الإدارة الأمريكية الجديدة القادمة، التي ستعمل خلال المرحلة الأولى على السير في سياسة الإدارة السابقة من إدارة الصراع السوري، حتى حين التوصل إلى تفاهمات أو اتفاقات بين جميع الأطراف المعنية، يمكن من خلالها إيجاد حل وسط تقبله تلك الأطراف، بعد إجراء تغييرات عديدة في المواقف السياسية، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات العسكرية التي يمكن أن تحصل على الأرض، لذلك ليس أما السوريين سوى الاستمرار في ثورتهم حتى الوصول إلى هدفها النهائي بتحقيق مطالب الشعب السوري بالحرية والكرامة، سواء تحقق ذلك بحل سياسي، أو بنصر عسكري لا يزال بعيداً في المدى المنظور.