تقدير موقف - المركز السوري سيرز

مقدمة: تعد تركيا إحدى الدول الإسلامية القليلة التي استطاعت أن تحقق إنجازات متقدمة على الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وحتى العسكرية، فتحولت مثلاً، وفي فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز العشر سنوات، من دولة خارج التصنيف الاقتصادي العالمي، إلى إحدى دول مجموعة العشرين الأقوى اقتصادياً في العالم، باحتلالها المرتبة 16 عالمياً. هذا التقدم الكبير والمتصاعد خلق لتركيا أعداءً كُثر، في الداخل والخارج، كما جعلها في دائرة أهدافهم من حيث العمل على زعزعة استقرارها الداخلي بمختلف الأشكال والوسائل، ومن أهم تلك الوسائل القيام بعمليات إرهابية تهدد أمن وسلامة تركيا، وتضعها في موقع الضعف، لفرض متغيرات جديدة في المنطقة وقفت تركيا، ولا تزال، في وجهها حتى اليوم، وما التفجير الإرهابي الأخير الذي حصل في أنقرة يوم الأربعاء 16/2/2016 إلا ضمن هذه السياسة الإرهابية التي تستهدفها بشكلٍ مباشر. 

تركيا وإرهاب الداخل: تخوض تركيا منذ عشرات السنوات مواجهات مع الأكراد، وجناحهم العسكري حزب العمال الكردستاني PKK، وقامت الكثير من الحروب والمواجهات بين الدولة التركية وبين هذا التنظيم الإرهابي الذي يحاول زعزعة النظام، بهدف الوصول إلى الانفصال عن الجمهورية التركية. وبالرغم من قيام تركيا باعتقال زعيم الحزب "عبد الله أوجلان" عام 1999 إلا أنّ المواجهات مع الحزب لم تنته، بل استمرت حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عام 2002، حيث عمل على حل القضية الكردية بالطرق السلمية بعيداً عن استخدام القوة، واستمر ذلك حتى عام 2011، مع انطلاقة الثورة السورية، ومشاركة الأكراد في سورية بالثورة.

لكن ثورة الأكراد السوريين سرقتها أيدي كردية أخرى متعاونة مع النظام السوري من جهة ومع أعداء تركيا من جهةٍ أخرى، وفي مقدمة هذه الأيادي الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني وهو "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" الذي يتزعمه صالح مسلم.

هذا الأمر دفع بعض الأحزاب الكردية في تركيا إلى إعادة التفكير بالوصول إلى حلم الاستقلال، ساعدهم على ذلك الوصول إلى البرلمان التركي للمرة الأولى في تاريخهم، لذلك عادت مسألة القيام بعمليات إرهابية داخل تركيا، وخاصّةً في المنطقة الشرقية والجنوبية الشرقية وبعض المدن التركية ذات الحساسية كالعاصمة أنقرة ومدينة اسطنبول.

تركيا والإرهاب الخارجي: إنّ وقوف تركيا إلى جانب ثورة الشعب السوري، ودعمها لمطالبه العادلة في الحرية والكرامة، خلق لتركيا الكثير من المشكلات من جهة حلفاء النظام السوري داخلياً وخارجياً. ففي الداخل نجد أهم حليفين للنظام، داعش والأكراد الممثلين بحزب الاتحاد الديمقراطي وبعض حلفائه من بقية الأحزاب الكردية الأخرى. أما داعش فقد حاولت مراراً وتكراراً الاعتداء على الأراضي التركية، خاصّة بعد سيطرتها على المناطق الحدودية في ريف حلب، وهذا ما اضطر تركيا لتعزيز قواتها على الحدود السورية، كما جرت العديد من التفجيرات الإرهابية داخل تركيا، كانت أصابع الاتهام تشير إلى داعش في معظمها. وأما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي فقد بات هو الآخر يشكل تهديداً حقيقياً لتركيا، خاصّةً أنّ معظم أكراد سورية ينتشرون على معظم المناطق الحدودية المتاخمة لتركيا، وبالرغم من الدعم والمساعدة الذي قدّمته تركيا لأكراد سورية، وكلنا يذكر قيام تركيا بإدخال وإيواء النازحين من مدينة عين العرب، وتأمين مختلف أشكال المساعدة لهم عندما سيطر داعش على المدينة، ولكن رغم ذلك فإن حزب الاتحاد الديمقراطي، وبدعم من النظام السوري أولاً، وبعض الدول الإقليمية والدولية ثانياً، أخذ يتمدد باتجاه المناطق المحررة من النظام السوري، وقام باحتلال الكثير من القرى والأرياف، وخاصّة في منطقة ريف حلب الشمالي، واقترابهم اليوم من السيطرة على كامل حدود محافظة حلب الشمالية مع تركيا بتغطية جوية روسية، ودعم بشري على الأرض من النظام وإيران وميليشياتها الطائفية. كل ذلك دفع تركيا للقيام بالتصدي لتهديدات هذا الحزب وحلفائه على أمنها القومي، وهي تعمل جاهدة لإبعاد خطرهم وخطر داعش معاً عن حدودها الجنوبية، إلا أنّ هذه المنظمات الإرهابية لا تزال تعمل جاهدةً على ضرب تركيا، حتى من الداخل، وهذا ما حصل أخيراً من خلال التفجير الذي حصل في أنقرة يوم الأربعاء 17/2/2016، الذي أودى بحياة /28/ قتيلاً، وعشرات الجرحى، وتمّ الوصول إلى منفذ هذا التفجير الإرهابي، وهو "صالح نجار" كردي سوري من مواليد مدينة عامودا، وعضو في منظمة تتبع حزب الاتحاد الديمقراطي.     

أبرز العمليات الإرهابية التي استهدفت تركيا:   

   يمكننا أن نشير في هذا السياق إلى بعض العمليات الإرهابية التي تعرّضت لها تركيا منذ قيام الثورة السورية عام 2011، نظراً للموقف المبدئي الذي اتخذته تركيا تجاه دعم وتأييد هذه الثورة، ومن أهم تلك العمليات الإرهابية:

- هجوم على معبر جيفلغوزي الحدودي، جنوب شرق تركيا، في 11 شباط 2013، وقد أسفر عن سقوط 17 قتيلاً.

- هجوم مزدوج في 11 أيار 2013، أسفر عن مقتل 52 شخصاً في مدينة الريحانية جنوبي تركيا قرب الحدود مع سورية، وتم توجيه أصابع الاتهام للنظام السوري مباشرةً.

- هجوم في مدينة سوروتش قرب الحدود مع سورية في 20 تموز 2015، أسفر عن سقوط 33 قتيلاً، ونحو مئة جريح من الأكراد، وقد اتهمت السلطات تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بتنفيذه.

- تفجيران وقعا صباح يوم السبت 10 تشرين الأول 2015 قرب محطة للقطارات في العاصمة أنقرة، وقد أودى بحياة 97 شخصاً، ونحو 200 جريح. 

- تفجير أنقرة الأخير في 17 شباط 2016 الذ أودى بحياة 28 قتيلاً، وعشرات الجرحى، قام بتنفيذه أحد أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري.

رد فعل الحكومة التركية على الإرهاب:   

   واجهت الحكومة التركية، ولا تزال، العمليات الإرهابية التي تستهدفها بالحزم والقوة، فخاضت الكثير من المواجهات مع أعدائها في الداخل والخارج، وهي اليوم لا تزال تخوض مواجهات مستمرة منذ سنين عديدة مع حزب العمال الكردستاني، وخاصّةً في المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد، وسقط العديد من الجنود الأتراك خلال تلك المواجهات. هذا على الصعيد العسكري، أمّا على الصعيد السياسي فقد تكاتفت جميع الأحزاب التركية في مواجهة العمليات الإرهابية، على الرغم من التباينات الكبيرة بين هذه الأحزاب في الكثير من القضايا الأخرى.

   وعلى الصعيد الخارجي كذلك، اتخذت تركيا موقفاً ثابتاً في التصدي للإرهاب العابر للحدود، وبشكلٍ أساس في المناطق الجنوبية المتاخمة للحدود مع سوريا، وخاصّةً بعد سيطرة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على مسافة طويلة من تلك الحدود من جهة، وسيطرة الميليشيات الكردية على مسافة طويلة أخرى من تلك الحدود من جهةٍ أخرى. وتشارك تركيا اليوم في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة "داعش"، كما فتحت قواعدها الجوية أمام طائرات التحالف لضرب هذا التنظيم. ومع تقدم القوات الكردية الأخير باتجاه الحدود التركية في ريف حلب الشمالي قامت تركيا بمحاولة منع تقدم الميليشيات الكردية باتجاه تلك الحدود من خلال القيام بعمليات قصف على مواقع الميليشيات الكردية لإجبارها على التراجع، وإبعاد خطر هذه الميليشيات عن حدودها، إلا أنّ خطرها لا يزال مستمراً على تركيا، وما تفجير أنقرة إلا سلسلة من سلسلة العمليات الإرهابية التي لا تزال تستهدفها.   

خاتمة:  

   إنّ الإرهاب الذي أخذ ينتشر في المنطقة، خاصّةً بعد قيام الدول الاستعمارية تاريخياً باستغلال ما يسمى "الربيع العربي"، وتغيير بوصلة الثورات العربية من المطالبة بالحرية والمساواة إلى فوضى عارمة غذّتها، ولا تزال، تلك الدول بهدف إبقاء المنطقة في حالة من الحروب المستمرة، وضرب كل محاولات التطور والتقدم في تلك المنطقة، وتركيا اليوم، التي مثّلت نموذجاً متقدماً على الأصعدة كافة، وغدت قوة لا يستهان بها في معادلات المنطقة، أصبحت هي الأخرى في مرمى الاستهداف، خاصّةً وأنها اتخذت مواقف مبدئية تجاه الثورات العربية والوقوف إلى جانب مطالب الشعب، وهي اليوم تدفع ضريبة هذه المواقف المتقدمة.

 

المصدر: المركز السوري للعلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top