بعد نحو خمس سنوات من الحرب الدائرة بين الشعب السوري ونظام استبد في حكمه، ومارس عليه مختلف أنواع القهر والظلم، لم يستطع هذا النظام طيلة الفترة السابقة القضاء على ثورته بالرغم من كل أساليب القتل والتدمير التي مارسها بحق هذا الشعب. هذه الوحشية غير المسبوقة دفعت الشعب السوري -مجبراً - حمل السلاح دفاعاً عن نفسه، واستطاع تحرير مساحات واسعة من البلاد، وطرد قوات النظام منها، وقد شهدت قواته تراجعاً كبيراً في أعدادها نتيجة الانشقاقات الكبيرة في صفوفها من جهة، ومقتل الكثير منها على أيدي قوات الثورة السورية من جهةٍ أخرى. هذا النقص الحاد والاستنزاف المتواصل لقوات النظام دفعته للاستعانة بحلفائه من الخارج، دولاً وميليشيات، في مقدمتهم إيران وروسيا والميليشيات الشيعية من لبنان "حزب الله" والعراق وإيران وعدد من الدول الآسيوية، رغم ذلك لم يتراجع الشعب السوري عن أهدافه في إسقاط هذا النظام.
لذلك فإنّ أهم ما يمكن ملاحظته هو أنّ صمود النظام السوري إلى هذا اليوم لم يكن ممكناً لولا الدعم الدولي له من جهة، وتضارب المصالح الدولية فيما بينهما من جهةٍ أخرى، وهذا ما انعكس رغبةً دوليةً على عدم إسقاط النظام، والحفاظ عليه أطول فترة ممكنة، يدخل في هذا السياق قيام روسيا بالتدخل المباشر في سورية، وإرسال قواتها للدفاع عن النظام السوري، ومحاولة الحصول على مكاسب على الأرض من خلال القيام بحملة جوية ضد مواقع الثوار، إلا أنّ ذلك لم ينفعها في تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة سوى في بعض المناطق، كريف حلب وريف اللاذقية، وأدركت روسيا مؤخراً أن استمرارها في حملتها العسكرية سيكون لها تداعيات كبيرة على الداخل الروسي، خاصة بعد هبوط أسعار النفط بشكل حاد، والعقوبات الغربية المفروضة عليها، مما زاد في تراجع الاقتصاد الروسي الهش أصلاً.
هذه التطورات المتسارعة سورياً وإقليمياً ودولياً، دفعت بعض الدول العربية والإقليمية باتجاه ضرورة اتخاذ موقف موحد حيال ما يتعرض له الشعب السوري من قتل وتشريد وتدمير وإرهابٍ متواصل منذ خمس سنوات، وبدأ يتنامى التعاون السعودي التركي لمواجهة التنظيمات الارهابية داخل سورية، وفي المنطقة عامة، وقد وصل مؤخراً هذا التعاون إلى درجة عالية من التنسيق نتج عنه تشكيل تحالف إسلامي تقوده السعودية بمشاركة فعالة من تركيا، وعدد كبير من الدول العربية والإسلامية، وتأتي مناورات رعد الشمال التي يجريها التحالف الإسلامي في السعودية منذ نحو أسبوع استعراضاً مقصوداً للقوة العسكرية التي يمكن استخدامها في سورية عندما تحين الفرصة لذلك، هذا الاستخدام للقوة أكده، ولا يزال، وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأنّ على الأسد أن يرحل عن سورية، إما بعملية سياسية، أو سيكون العمل العسكري الحل الوحيد لذلك.
كل هذه الأسباب دفعت روسيا مؤخراً لمناقشة إمكانية البدء بحل سياسي وفقاً للقرارات الدولية ذات الصلة بالأزمة السورية، ومشاركة فعالة لجميع الأطراف في هذه العملية، لذلك طرحت روسيا وأمريكا، كخطوة أولى لبدء العملية السياسية، مشروعاً إلى مجلس الأمن لوقف فوري لجميع الأعمال القتالية في سورية، باستثناء داعش والنصرة، وقد وافق مجلس الأمن على الهدنة بالإجماع. ويمكن استعراض أهم بنود الهدنة وهي:
- يسري وقف الأعمال العدائية في عموم البلاد على أي طرف مشترك حاليًا في عمليات قتالية، عسكرية أو شبه عسكرية، ضد اية أطراف أخرى باستثناء "تنظيم داعش" و"جبهة النصرة"، وأي منظمات إرهابية أخرى يحددها مجلس الأمن الدولي.
- مسؤوليات المعارضة السورية المسلحة مبينة في الفقرة 1 أدناه. ومسؤوليات القوات المسلحة التابعة للجمهورية العربية السورية، وجميع القوى الداعمة لـ أو المرتبطة بالقوات المسلحة التابعة للجمهورية العربية السورية مبينة في الفقرة 2 أدناه.
- للمشاركة في وقف الأعمال العدائية، ستؤكد مجموعات المعارضة المسلحة - للولايات المتحدة الأمريكية أو لروسيا الاتحادية، اللتين ستشهدان على هذه التأكيدات لبعضهما البعض بصفتهما الرئيسين المشاركين للمجموعة الدولية لدعم سوريا، في موعد لا يتعدى الساعة 12.00 ( بتوقيت دمشق) من يوم الـ 26 من فبراير/شباط 2016 - التزامها وقبولها بالشروط التالية:
1- التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي تم اعتماده بالإجماع في الـ 18 من ديسمبر/كانون الأول 2015، بما في ذلك الاستعداد للمشاركة في عملية المفاوضات السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة.
2- وقف الهجمات بأي نوع من الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ، ومدافع الهاون، والصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، ضد القوات المسلحة التابعة للجمهورية العربية السورية، وأي قوات مرتبطة بها.
3- وقف الهجمات بأي نوع من الأسلحة، بما في ذلك القصف الجوي من قبل القوات الجوية التابعة للجمهورية العربية السورية والقوات الجوية الفضائية الروسية، ضد مجموعات المعارضة المسلحة ( بحسب ما سيتم تأكيده للولايات المتحدة أو لروسيا الاتحادية من قبل الأطراف المشاركة في وقف العمليات العدائية).
4- التوقف عن كسب أو السعي إلى كسب أراض من الأطراف الأخرى المشاركة بوقف إطلاق النار.
5- السماح للمنظمات الإنسانية بوصول سريع وآمن ودون عراقيل في جميع أنحاء المناطق الواقعة تحت سيطرة عملياتها والسماح فورًا بوصول المساعدات الإنسانية إلى كل من يحتاجها.
6- الاستخدام المتناسب للقوة (أي ما لا يزيد عما هو مطلوب للتصدي لتهديد مباشر) إذا وعندما يكون الرد في حالة دفاع عن النفس.
7- تتعهد جميع الأطراف بالعمل على الإفراج المبكر عن المعتقلين، وخصوصًا النساء والأطفال.
- تؤكد الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية بصفتهما الرئيسين المشاركين بأن تتم مراقبة وقف الأعمال العدائية بطريقة حيادية وشفافة وتحت تغطية إعلامية واسعة.
وبعد نحو عشرة أيام من بدء تطبيق وقف إطلاق النار، يبدو هناك هشاشة في تنفيذ هذا الاتفاق، فقد شهدت خلالها العديد من الخروقات في مختلف المناطق السورية، أهمها في ريف اللاذقية وحلب وبعض مناطق إدلب، ومناطق متفرقة من المحافظات والمناطق السورية الأخرى، إلا أنه رغم ذلك لا يزال الاتفاق سارياً، وتسعى الكثير من الدول المحافظة على استمراره، كونه الفرصة الأخيرة في مسار الحل السياسي الأخير، ومن خلال ذلك يمكن قراءة ما يجري على أنه محاولة جادّة من المجتمع الدولي، وفي مقدمته أمريكا وروسيا، على الوصول إلى النتائج المرجوة من هذا الاتفاق، وتفعيله بشكلٍ أكبر، خاصةً بعد اعلان روسيا اليوم عن أن الاتفاق غير محدد بمدّة زمنية، وسيبقى سارياً كخطوة مهمة في إطار الحل السياسي المنشود.
يبقى هذا الاتفاق في النهاية مرهوناً بالتزام جميع الأطراف بتطبيقه، وخاصةً من جانب النظام وحلفائه، ولن يتم ذلك إلا من خلال استمرار الضغط الروسي على حليفها الأسد باستمرار الالتزام بهذا الوقف، ليتسنى لروسيا الإيفاء بتعهداتها الدولية، ولو ظاهرياً، كونها لم تعد تحتمل الهجوم المستمر عليها إعلامياً وسياسياً من جهة، والتكلفة الباهظة التي دفعتها في تدخلها السافر والمباشر في الأزمة السورية.
من جهةٍ أخرى، سيبقى الشعب السوري مستمراً بمطالبه العادلة والمحقّة بالوصول غلى سورية من دون الأسد، وصموده هذا سيحقق له أهدافه التي خرج من أجلها، لن يثنيه عن ذلك كل مؤامرات الداخل والخارج.