توجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا الأسبوع في التاسع من آب إلى روسيا ليلتقي بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتأتي هذه الزيارة الأولى من نوعها لسببين رئيسين: الأول أنها الزيارة الأولى للرئيس أردوغان إلى روسيا بعد إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية التي اخترقت أجواءها في 24 تشرين الثاني 2015، وما نجم عنها من تصاعد حدّة التوتر بين البلدين إلى ما يشبه القطيعة، والسبب الثاني داخلي يتعلق بتركيا حيث تعدّ الزيارة الأولى للرئيس التركي إلى بلد خارجي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي حصلت في 15 تموز الماضي، لذلك لا بدّ أن نقرأ بعض النقاط الرئيسة في هذه الزيارة إلى موسكو تحديداً، وقبل أي دولة أخرى من الدول التي تعدّ حليفة أو صديقة لتركيا، لنجيب على تساؤل يطرحه الكثير، لماذا روسيا؟
إنّ موجة الثورات التي اجتاحت العديد من الدول العربية أدتّ إلى تغيرات إقليمية ودولية، أو ما يمكن أن نسميه بداية عهد جديد في العلاقات الدولية، وذلك منذ عام 2011 تحديداً، إلا أنّ أكثر هذه الثورات تأثيراً هو الثورة السورية، وذلك لأسبابٍ عدة، منها طول أمد الثورة الذي بلغ ست سنوات، ولا تزال مستمرة، كما أنّ النتائج الكارثية التي أفرزها الصراع داخل سورية انتشرت تأثيراتها في المنطقة والعالم، وأصبح هذا الصراع الملف الأهم لكل دول العالم، وانقسم العالم في ذلك إلى قسمين أساسيين فيما يخص موقفه من هذا الصراع، الأول مؤيد للثورة السورية ومدافع عنها، يمثل هذا الموقف العديد من دول المنطقة تحديداً (تركيا والسعودية وقطر)، وعلى الصعيد الدولي دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، كما تزعم، والقسم الثاني مؤيد وداعم للنظام السوري، وفي مقدمة تلك الدول (إيران وروسيا).
وقد كانت تركيا من أوائل الدول التي وقف وأيدّت مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة، وكان لموقفها هذا تداعيات كبيرة لاحقاً، حيث دعمت الثورة على كافة المستويات، كما أنّها فتحت أبوابها لمئات الآلاف من اللاجئين، وتحملت الكثير من الأعباء والضغوط المادية والمعنوية وحتى الأمنية، ومع استمرار الصراع تعقد المشهد السوري كثيراً، وشهد تحولات كبيرة، كان تأثيرها الأكبر باتجاه تركيا.
أما روسيا فقد كانت الداعم الأساس للنظام السوري منذ بداية الثورة السورية إلى جانب إيران، إلا أنّ دعمها هذا تزايد بشكل تدريجي حتى بلغ حد إرسال روسيا قواتها إلى سورية، وإقامة قاعدة جوية فيها، في مطار حميميم بمحافظة اللاذقية، والحملة الجوية التي قامت بها ضد الشعب السوري، سواء الفصائل المسلحة أو المدنيين، مشاركةً نظام الأسد جرائمه ضد الشعب.
وهنا نجد أنّ كلاً من تركيا وروسيا وقفتا موقفاً متناقضاً تجاه الثورة السورية، هذا الموقف من كلا الجانبين كان له تداعيات على سياسة البلدين تجاه بعضهما الآخر، حيث أخذت العلاقات بين الجانبين بالفتور بالرغم من استمرار العلاقات، وخاصّة على الصعيد الاقتصادي، إلا أنّ إسقاط تركيا للطائرة الروسية بعد اختراقها الأجواء التركية أدّت إلى تأزم كبير في العلاقات بين الجانبين، انعكس ذلك على الداخل السوري في زيادة حدّة القصف الروسي للمناطق المحررة من جهة، وتصاعد الدّعم الروسي المادي والعسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي تعدّه تركيا حزباً إرهابياً، ويشكل خطراً على الأمن القومي التركي، كما أنّ العلاقات الاقتصادية اصبحت شبه مقطوعة كذلك بين الجانبين. واستمر الوضع كذلك حتى قيام المحاولة الانقلابية في تركيا منتصف الشهر المنصرم، حيث كان هذا الحدث المقدمة الأساسية في إعادة تركيا رسم سياساتها الخارجية على ضوء ما تم اكتشافه من مخططات بعد فشل الانقلاب، والقبض على معظم المشاركين فيه.
لقد رأت تركيا أنّ الدول التي تعدّها حليفا استراتيجياً لها، كدول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، حيث أنّ تركيا عضواً في حلف الناتو، كانت تقف خلف هذا الانقلاب، وتدعمه، والدليل على ذلك مشاركة "فتح الله غولن" المقيم في أمريكا، والمدعوم منها، في هذه المحاولة الانقلابية، وما تبعه من فتور في مواقف تلك الدول تجاه نجاح الحكومة التركية من القضاء على الانقلابيين، لذلك كان هذا الموقف أحد أسباب توجه تركيا نحو روسيا، وإعادة العلاقات معها، كعملية تأديبية للغرب تجاه موقفه من تركيا والحكومة التركية.
كذلك ترى تركيا أنّ روسيا أصبحت اللاعب الأساس في الملف السوري، مع تراجع الدور الأمريكي، وغياب الدور الأوروبي، وأهمية الوصول إلى حل سياسي في سورية، ينهي الآثار الناجمة عن هذا الصراع على تركيا، خاصّةً وأنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستشهد خلال فترة وجيزة انتخابات الرئاسة، ما يعني غياب الدور الأمريكي عن الكثير من القضايا الدولية في هذه الفترة، وبالتالي تصاعد للدور الروسي على الأقل خلال هذه المرحلة، لذلك ترى تركيا أنّ إعادة علاقاتها مع روسيا سيسهم في التخفيف من آثار الصراع السوري، سواء لجهة إقناع روسيا بالتخلي عن دعم الأكراد، وهو ما لاحظناه منذ اليوم الأول للزيارة، حيق قامت روسيا بإغلاق مكتب ممثلية الحزب الديمقراطي الكردي في موسكو، أو لجهة الوصول إلى حل سياسي حقيقي ينهي معاناة الشعب السوري، ومعاناة تركيا التي شهدت الكثير من الصدمات الأمنية، كان أكبرها محاولة الانقلاب الفاشلة تلك.
نعم، لقد توجهت تركيا إلى روسيا، وعادت العلاقات بينهما إلى السكّة الصحيحة، وكما نجحت تركيا في السيطرة على الداخل، بدأت تغيّر سياستها الخارجية بما يحقق لها امتداداً لنجاحاتها الداخلية، ونستطيع القول أنّ هذه الزيارة ستشكل علامة فارقة لمرحلة جديدة من العلاقات بين الجانبين، ستظهر آثارها خلال المرحلة القادمة، خاصّةً في الملف السوري الذي بات يعدّ أهم الملفات في المنطقة والعالم، وربما تصريح رئيس وزراء تركيا "بن علي يلدريم" بأنّ سورية ستشهد أياماً جميلة قريباً يندرج في إطار هذا التفاؤل المبني على التفاهمات الجديدة بين البلدين.