بعد تأمُّل meditation واستبصار insight وحياد فكري non- aligned intellect تبيّن أنّ الإنسان بـ”إنسانيته” لابدّ مفطور على “ازدواجية المعايير”، بل إنًّ قليلاً من التفتّح الذهني وأنا أقرأ في المصحف، كشف عن النتيجة ذاتها دون مواربة.
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)
(الإسراء:83)
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) ( الزخرف:52)
(وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) ( القصص: 76)
( يَٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ) ( القصص:79)
في الجوهر اختلال المعايير ومن ثمَّ ازدواجها.. اختلال مربوط بمصادر القوة power سواء كانت هذه القوة مالاً أو سلطة أو محيطاً مُسَيطراً عليه. يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51].
إذن هي غطرسة القوة arrogance of power التي تؤدي إلى ازدواجية المعايير.
عندما أدركه الغَرَق، قال آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]. إذاً حتى (المعصية) ضمن هذا السِّياق القرآني مذكورة في “ازدواجية المعايير”. أفلا ترى ذاك الذي طلب من الرسول r أنْ يأذَنَ له بالزِّنى؟ وأنّه لا يرضه لأمه وأخته وخالته! الإنسان – إلا ما نَدَر- مفطورعلى “ازدواجية المعايير”.
إلا أنّ هذا الأمر حيث “ازدواجية المعايير”في الخطاب البيوريتاني puritanالوعظي الأخلاقي غير معالج البتة، وذلك لأن الإشكال issueبات عاماً، وعلى مستوى عالمي (أحلاف عسكرية – كتل اقتصادية – منظمات إقليمية – غُرف تجارية – مصارف وبنوك وبورصات.. إلخ). وهذه مؤسسات تقوم على نُظم ولوائح وقوانين؛ بل دساتير تستند في الجوهر على “ازدواجية المعايير” منذ قرون، مما انعكس على الحركة الكولونيالية والحملات العسكرية، نهباً لمُقدّرات الأمم المغلوبة الضعيفة في عدد من القارات لاسيّما الفضاء الأفرو- آسيوي.
من هذا المنطلق أرى أنّ المعالجة الوعظية والأخلاقية ethical عديمة الجدوى، وأعتقد أنّ (النظام الدولي) world order الحالي بصيغته الراهنة يكرّس ويخدم، لا بل يُغذّي مشكلة “ازدواجية المعايير”.
وفق الرّسم أعلاه، تحتلّ الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية الغربية دائرة (المركز) في النظام الدولي الحالي، وتتحكم دائرة (المركز) بدائرة (الأطراف) التي تشمل (آسيا – أفريقيا – أمريكا اللاتينية – أوروبا الشرقية). وعليه فإنّ دول المركز centerتتحكم بدول الأطراف periphery عبر أربعة محاور:
الأول: محور احتكار وإنتاج وتصنيع السلاحArms Industry التقليدي منه والنووي.
الثاني: محور احتكار الخامات (النفط والقمح( Resources.
الثالث: محور احتكار الشرعية الدولية ومنظمة الأمم المتحدةUN ومجلس الأمن Security council.
الرابع: محور عولمة الإعلام والتعليمGlobalisation .
هذه الوسائل الأربع تعزّز وتكرّس سيطرة control دول المركز (US+EU) على دول الأطراف، أي: العالم بأسره.
فمن خلال المحور الأول(احتكار إنتاج وتصنيع السّلاح)، تتحكّم دول المركز بـ (وتيرة الصراع conflict) في العالم، بوصفها تمنع وتمنح السّلاح، توقيتاً وشكلاً ومنطقة ونتيجة؛ مِما يُحدّد مُسبقاً (الغالب والمغلوب) في أغلب الصراعات. بهذا التحكم بالسّلاح وحركته وتجارته وتوزيعه “انتقاءً” وفق مصالح دول المركز، تخضع دول الأطراف المتلقية للسّلاح وأمنها القومي أو الوطني”تلقائياً” لـ إرادة المُنتِج للسلاح.
وعبر المحور الثاني تتحكّم دول المركز بـ (الخامات resources )، أي:(النفط والقمح)، فلهذه الدول كارتيلات (cartels) للنفط والقمح، تشرف عليهما تنقيباً وزراعةً ونقلاً وتسويقاً وتسعيراً وتصنيعاً وغير ذلك من التفاصيل، ولا خلاف حول النفط بوصفه محور اقتصاد العالم؛ إذ لا تنمية دونه، فهو طاقة energy ، كما القمح طعام لا غنى عنه عالمياً.
يقول مايكل كلير Michael Klareفي كتابه الثمين (حروب الخامات Resource wars ) : إنّ حروب المستقبل ستكون حول الماء بعد أن كانت حول النفط والقمح.
وعبر المحور الثالث تتحكم دول المركز بـ (القانون) الذي يحكم علاقاتها ونفوذها الدولي من خلال قرارات مجلس الأمن (فرض عقوبات اقتصادية – تصنيف الدول مارقة وفاشلة وغير ذلك، وربما تحريك قوات دولية من خلال الفصل السابع).
أما المحور الرابع (الإعلام والتعليم) فدول المركز تتحكم بـ (مضمون (content الخطاب الإعلامي والتعليمي في العالم.
ترسّخت هذه الوسائل الأربع منذ عام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا تزال فاعلة في “خدمة” مصالح دول المركز من جهة، و”إخضاع” دول الأطراف من جهة أخرى.
هذه الحالة في ذاتها، تعكس سلطة دول المركز وتحكمها في دول الأطراف..ومن الطبيعي ألّا تتعامل الولايات المتحدة -على سبيل المثال- مع الدنمارك أو النرويج كما تتعامل مع كامبوديا أو الصومال؛ إذ أنّ ديالكتيك العلاقة مع الدنمارك والنرويج غيره مع كامبوديا والصومال. وعليه فإنّ المنافعَ والمصالح والرؤى والثقافة المشتركة وحلف الناتو وغيرها..عوامل تسهم في إنتاج نظام مستقر وثابت لـ “ازدواجية المعايير”.
تتزاحم الأسئلة “تناقضاً”هل هذا وضع يتّسم بـ (الأخلاقية)؟! مَن قال أنّ الحراك الدولي عبر التاريخ تحكمه الأخلاق ؟!
غيرأنه لا ينبغي للشعوب المظلومة في دول الاطراف أن تبقى أسيرة ظلم دول المركز، إذ لا بدّ من المباشرة بحركة شاملة ومتزامنة، تقتضي تقطيع وتكسير محاور التحكم السابقة الذكر، من قبيل: الضغط لإعادة تشكيل مجلس الأمن وأعضائه الدائمين، وإضافة (منظمات إقليمية) ذات أهمية كبيرة للاقتصاد العالمي مثل (مجلس التعاون لدول الخليج العربية) أو (جامعة الدول العربية) أو (مجموعة بريكس) أو (اتفاقية شانغهاي)؛ فذلك من شأنه أن يخفّف من سيطرة دول المركز على القرار الدولي.
أمّا في محور الخامات فلابدّ من إعادة هيكلة شاملة في عوالم النفط والقمح، استعداداً لزلزال متوقع في عالم المياه. وهكذا في المحاور الأخرى تدريجياً.
والجدير بالذكر أنّ هذه العملية تستغرق مدى، زمانياً ومكانياً، ولكن لابدّ من الاستمرار فيها، تطويقاً لـ “الزواجية المعايير”، والحدِّ من تفشّيها ولا أقول نهايتها.