لايزال الصراع في سورية يشهد تطورات مستمرة، ومتغيرات عدّة تتزامن والحديث عن العديد من الحلول السياسية المطروحة على المستويين الإقليمي والدولي, ومنذ أن بدأت مفاوضات جنيف للحل السياسي وجدنا تصعيداً كبيراً للمعارك على الأرض، سواء من جانب النظام الذي لم يلتزم بأي قرارات دولية فيما يخص وقف الأعمال الإجرامية التي يرتكبها بحق الشعب السوري، أو من جانب الثوار الذين يتصدون لقوات النظام وميليشياته الداعمة له من مختلف الجنسيات، وأصبح كل طرف يسعى لتعزيز مكاسبه على حساب الطرف الآخر أملاً في أن ينعكس ذلك ورقة قوّة على طاولة المفاوضات السياسية، إلا أنّ ذلك لم يؤدِّ حتى الآن إلى أي ثمرة سياسية في اتجاه الحل، أو حتى في وقف إطلاق نار مؤقت كما كانت تسعى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، بل ازداد الوضع تعقيداً مع توقف المفاوضات، واستمرار الصراع على مختلف جبهات القتال، هذا الأمر رجّح كفّة الثوار والفصائل التي كانت تنادي بإسقاط النظام عسكرياً وليس سياسياً، وكذلك سعي النظام الدائم للقضاء على الثورة عسكرياً وليس عبر حل سياسي كما تدّعم بعض دول الإقليم "إيران" أو العالم "روسيا.
من هنا كان لا بدّ من وجود منطقة تصادم عنيف بين الطرفين "الثوار والنظام" على أرض الميدان، تكون ساحة صراع داخلي بينهما من جهة، وفي الوقت نفسه ساحة صراع إقليمية ودولية، وليس هناك منطقة كذلك سوى حلب، ولكن لماذا حلب؟
عند الحديث عن أهمية حلب في الصراع الدائر اليوم لا بدّ من الحديث عنها من جوانب عدّة هي الناحية التاريخية والجغرافية والسياسية والقومية والدينية، وحتى الاقتصادية كونها عاصمة سورية الاقتصادية، حتى نفهم الملامح الأساسية للصراع القائم على أرض حلب وما جاورها من مناطق.
فمن الناحية التاريخية والجغرافية تشغل حلب موقعاً جغرافياً متميزاً، فهي من ناحية تقع على مقربة من تركيا، وطريقاً للتواصل بين عدد من المدن والمناطق وحتى الدول منذ القديم وحتى اليوم، لذلك فإنّ الأحداث التاريخية التي مرّت بها حلب مرتبطة إلى حدٍّ كبير بموقعها الجغرافي المهم هذا، وفي العصر الحديث كانت البوابة الرئيسة التي دخلت منها الدولة العثمانية إلى الوطن العربي، مع الأخذ بعين الاعتبار إلى الصراع الذي كان قائماً في تلك المرحلة بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية في إيران، وهو اعتبار مهم جداً يعكس أهمية منطقة حلب سواء بالنسبة لإيران التي زجّت بعشرات الآلاف من ميليشياتها الطائفية في حلب وريفها بهدف السيطرة عليها، أو بالنسبة لتركيا التي ترى أمر السيطرة عليها من قبل الثوار السوريين بدعم منها سيقلب الموازين العسكرية وبالتالي فرض إرادتها في سورية الداعمة لثورة الشعب السوري.
ومن الناحية السياسية إنّ انتصار أحد أطراف الصراع في حلب سيكون له تأثير كبير على طاولة السياسة، وفي فرض رؤية المنتصر وداعميه على مستقبل الحل السياسي، كما تسعى لذلك العديد من الدول، في مقدمتها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من إدراك هذه الدول لصعوبة الحل فيما لو بقيت الأوضاع على حالها في حلب، لذلك يحاول كل طرف حسم الصراع في حلب كطريق أساس لفرض ما يدعونه بالحل أو الحلول السياسية.
أما من الناحية القومية، فحلب تشهد تنوعاً عرقياً وقومياً ربما الأكبر في سورية، حيث يوجد العرب وهم الأغلبية، ويوجد الأكراد والتركمان والأرمن والشركس وغيرهم، هذه التنوع له أثر كبير كذلك على طبيعة الصراع في هذه المنطقة، وخاصّةً مع محاولات الأكراد الحصول على مكاسب في هذه المنطقة بهدف تحقيق حلمهم بإنشاء كيان أو دولة يستقلون بها، وهو ما يزيد الصراع تعقيداً، ويخلط أوراق التحالفات الإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق.
ومن الجانب الديني، إنّ لحلب، بالرغم من تنوعها دينياً حيث وجود للأغلبية السّنيّة الساحقة، ووجود المسيحيين بمختلف طوائفهم، وكذلك إثنيّات دينية متعددة أخرى، إلا أنّ ما يميّزها دينياً هو الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن أهمية هذه المنطقة في آخر الزمان، وما سيجري على أرضها من ملاحم كبيرة، لذلك نرى مدى أهمية هذه المنطقة بالنسبة لتنظيم الدولة تحديداً، حيث يعتبر أنّ ملاحمه الكبرى ستكون على أرض حلب، وفي دابق التي تقع في الريف الشمالي لحلب تحديداً.
نعم، إنّ حلب ومعاركها التي تجري اليوم، هي بالفعل معارك حاسمة، سيكون للمنتصر فيها الدور الكبير في فرض أجنداته على الأرض السورية، لذلك نرى اليوم قيام إيران بإرسال الآلاف من ميليشياتها الإرهابية إلى حلب تحديداً بالرغم من عدم وجود مقامات دينية مقدّسة كما كانت تدّعي في بداية تدخلها العلني في قمع الثورة السورية، وكذلك نرى صور من جنوبي حلب لوصول قائد الحرس الثوري الإيراني "قاسم سليماني" استعداداً لمعركة كبيرة في حلب بعد تطويق أحيائها الشرقية المحررة بالسيطرة على طريق الكاستيللو، ومحاولة حسم هذه المعركة لصالح إيران. بالمقابل كذلك نجد الدخول العسكري التركي إلى سورية من بوابة حلب تحديداً، حيث استطاعت تحرير جرابلس وريفها من تنظيم داعش أولاً، ثم استطاعت تحرير كامل الشريط الحدودي الممتد بين اعزاز وجرابلس بطول 91 كم، كما استطاعت السيطرة على عدد من القرى بريف مدينة منبج من يد عصابات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وقوات سورية الديمقراطية المتحالفة معه، وتأتي التصريحات اليوم من عدد من المسؤولين الاتراك أنّ هدف العملية "درع الفرات" قد يشمل مناطق داخلية في عمق الأراضي السورية، وهو ما أكدّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أنّ الرئيس الأمريكي أوباما عرض عليه التعاون في تحرير الرقة، المعقل الأساس لتنظيم الدولة في سورية، وهو أمر متوقع لاحقاً، إلا إذا حدثت تطورات ومتغيرات جديدة ربما تغيّر في خطط مختلف الدول بما يخص حلب بشكلٍ خاص، وسورية بشكلٍ عام.